تستحق حقبة دونالد ترامب الدراسة للوقوف على تفاصيلها، و تفكيك عناصرها، للوصول إلى خلاصات و نتائج هذه المرحلة بكل أبعادها السياسية و السيكولوجية، باعتبارها ظاهرة جديدة في حقلي السياسة و علم النفس السياسي.
حسب ما تقتضيه قواعد الممارسة السياسية كما الأعراف الدستورية في الدول ذات النظم الديمقراطية، التسليم بنتائج الانتخابات بصرف النظر عن الفائز أو الخاسر فيها، و ما يعني ذلك من الاعتراف بالهزيمة و تهنئة الفائز. و المساعدة على نقل السلطة اليه بشكل سلس إذا كان منافسا من المعارضة، و اطلاعه على العديد من الملفات التي تخص السياسة الداخلية و الخارجية، ليكون على بينة و اطلاع عليها، بما يمكنه من دراستها و تحديد السياسة الواجبة اتباعها بعد تسلمه السلطة.
الرئيس دونالد ترامب ضرب بكل هذه الأعراف و القواعد عرض الحائط، فهو لحد الآن لم يهنئ الرئيس المنتخب جو بايدن بالفوز، و يواصل شطحاته الدونكيشوتية عديمة الجدوى، بالمحاكم العليا لإعادة فرز الانتخابات، بدعوى أنها مزورة، لعله يجد بصيص أمل للفوز و قلب نتائج الاقتراع لصالحه، حتى يبقى لولاية ثانية، دون أن يدلي و لو بدليل يعزز ادعاءه.
الأغرب من هذا كله، أنه يوم أمس أعطى الضوء الأخضر لإدارة الشؤون العامة للانتخابات بنقل السلطة الى الرئيس الأمريكي المنتخب جو بايدن، لكن في نفس الوقت أعلن أن هذا الإجراء، لا يعني إقرارا بالهزيمة في الانتخابات. و بالتالي القبول بنتائج الاستحقاق الرئاسي.
فإذا كان ترامب غير مقر بالهزيمة فلماذا أعطى الضوء الأخضر لإدارة الشؤون العامة بنقل السلطة الى بايدن؟، كان عليه أن يبقى على موقفه، الى حين المصادقة على النتائج النهائية من طرف المجمع الانتخابي. أو موافقة المحاكم العليا على طلبات طعون دفاعه.
لو كان دونالد ترامب رئيسا لدولة من دول العالم الثالث، لسلمنا بالأمر و اعتبرنا أن الأمر عادي، ما دام أن غالبية أنظمة هذه الدول لم تنضج بعد للممارسة الديمقراطية و القبول بالتناوب على السلطة، لكن أن يحدث ذلك في الولايات المتحدة الأمريكية الدولة ذات العراقة في الديمقراطية كما تدعي، بل و تعطي لباقي الدول الأخرى دروسا في الديمقراطية و احترام إرادة الشعب. فهذا أمر لا يتقبله العقل.
هذا التضارب في السلوك الترامبي لا يعني إلا شيئا واحدا، هو العبث السياسي و تناقض الأقوال مع الأفعال، اللذان أصبحا سمة طبعت مسار حكمه، على جميع الأصعدة السياسية و الاقتصادية و الاجتماعية، الرجل يدرك في قرارة نفسه أن أيامه أصبحت معدودة، على رأس البيت الأبيض، لكن كبرياؤه و غطرسته تمنعانه من القبول بالأمر الواقع.
لم يجانب العديد من الإخصائيين النفسانيين بالولايات المتحدة الواقع، عندما حذروا من الحالة النفسية و العقلية للرئيس ترامب، فالتهور و العبث في اتخاذ القرارات فضلا عن ترويجه لنظريات المؤامرة بمناسبة أو بدونها. كلها أمور قد تدفع ترامب الى ارتكاب حماقات من قبيل الزج بالمجتمع الأمريكي نحو التصادم العرقي و الديني، و قد راينا أنصاره من اليمين المتطرف يحملون الأسلحة في الشوارع. فماذا لو اندلع اقتتال داخلي؟
إن انفصام ترامب عن الواقع، يجعله لا يستوعب أنه في دولة مؤسسات، مؤطرة دستوريا،و بقوانين و أنظمة تنظم العمل السياسي ما تحمل الجميع على الامتثال لها، و أن ما يفعله حاليا هو استهتار بالمؤسسات السياسية و كأن لسان حاله يقول للعالم انظروا هذه هي حقيقة ديمقراطيتنا التي نتغنى بها أمامكم.
في النهاية، إن إعطاء ترامب الضوء الأخضر لإدارة الشؤون العامة، لنقل السلطة الى بايدن، مع عدم الإقرار بهزيمته في الانتخابات، هو شيء لم يفعله أي من أسلافه، لذا فالأمر يستدعي دارسة الظاهرة الترامبية بتمعن لأنها جديرة بذلك.
موضوع رائع يستحق القرأة دام قلمك سيال
مقال ممتاز ومفيد، ننتظر المزيد ان شاء الله.
ترامب لم يتقبل الهزيمة ربما لأنه خلال العقود الأخيرة جميع المتعاقبين على الحكم تولّو ولاية ثانية. أضنه المسكين مصدوم. تحية لك