Share
  • Link copied

خواطر رمضانية(6): القناعة.. هي بعض ما يحتاجه العالم اليوم

     لاحظ  بعض علماء الاجتماع في عصرنا كثرة الشكوى بين الناس، فلا أحد راض عن وضعه المادي والاعتباري، ولا عن علاقاته الأسرية أو الاجتماعية، ولا عن أهله وأولاده.. الجميع يضج بالشكوى: الفقراء يشكون الحاجة ويتطلعون إلى الزيادة من الدنيا، والأغنياء يخافون الأزمة ويتطيرون من الضريبة، والأصحاء يريدون الرشاقة، والمرضى يحنون إلى أيام العافية.. السياسيون والمثقفون، والموظفون والمأجورون، والعاملون والعاطلون، والأميون والعالمون… كلهم في حالة شكوى دائمة. وليس هذا خاصا ببلد دون بلد، ولا بقارة دون أخرى، بل هو داء عمَ الجميع، و”مرض” ألمَ أو كاد بالبشرية كلها.

    هذا بالطبع يحتاج لدراسات اجتماعية ونفسية معمقة يقوم بها الخبراء المختصون لفهم هذه الظاهرة الجديدة. وفي انتظار ذلك يبدو أن ما يحتاجه عصرنا هذا هو شيء من القناعة. 

    لا أحد اليوم ـ إلا قليلا ـ يقنع بوضعه ويرضى بحاله.. فالفقير يظن أن خروجه من الحاجة إلى الغنى سيجعله أسعد الناس، والغني يتيقن أن ظفره بصفقة معينة ستحلَ مشكلاته جميعا، والفتاة تراهن على أن زواجها بفلان هو صفقة عمر يريحها من جميع أنواع “وجع الدماغ”، والمريض يحسب أن نجاح العلاج سيجعل منه شخصا آخر.

    ويحقق الله سبحانه لهؤلاء جميعا ما يريدون، ويظفر كل ذي حاجة بحاجته.. ثم ما هي إلا أوقات يسيرة حتى تبدأ الشكوى من جديد ويرتفع الصراخ والعويل وكأن أحوال الحاضر أسوأ مما سبق.

    إن ما نحتاجه جميعا هو شيء من القناعة والرضا، لذلك لا نستغرب أن من مقامات الإيمان مقام الرضا، وأن من أصول عقيدتنا الإيمان بالقضاء والقدر، خيره وشره، والرضا بهما.

    هذا الرضا، وهذا الاستسلام الداخلي العميق، وهذه  الطمأنينة  النفسية.. هي ما يحتاجه عالمنا العليل.

    ويخطئ من يظن أن الموضوع موضوع مال فقط، وها نحن نرى كثيرا من الأغنياء يملكون العمارات والأسهم والأرصدة واليخوت.. ومع ذلك يشكون ويبكون، عن حق أو باطل.. ما عُدنا نعرف، لكننا نعرف أنه يوجد نوع من الغنى الذي لا يملكه هؤلاء ولم يذوقوه، وهو الذي أشار إليه الرسول عليه الصلاة والسلام بقوله: ” ليس الغنى عن كثرة العرض، ولكن الغنى غنى النفس “، متفق عليه. والعرض هو المال.

     لنتعود أن نرى نعم الله علينا كما هي، وألا نتجاهلها أو نستصغرها. تأمل هذه الحكمة النبوية الرفيعة: ” انظروا إلى من هو أسفل منكم، ولا تنظروا إلى من هو فوقكم، فهو أجدر ألا تزدروا نعمة الله عليكم”. رواه البخاري ومسلم. لذلك يعلمنا نبينا إذا رأينا مريضا أن نقول: الحمد لله الذي عافانا مما ابتلاه به.

     إن القناعة من الإيمان، وهي فرع الرضا بقدر الله. وهي  أيضا راحة للنفس، لأن من لا يقنع فهو في  قلق وشغل دائمين.

     وضد القناعة هو الجشع، وأصله  المبالغة في حب الدنيا وعدم الثقة في الله تعالى، ونسيان الآخرة وعالمها الحق. أما أخبار الجشع  في تدمير البلدان وتأزيم الأنفس فكثيرة مشهورة. أليست الأزمة المالية الأخيرة ثمرة لجشع الرأسمال العالمي الذي لا يرضى بأي حدود لأرباحه.. لا الحدود الأخلاقية ولا الحدود الاقتصادية العلمية؟ وهؤلاء المفسدون المرتشون في كل مكان من عالمنا.. أليس الجشع هو مشكلتهم؟

       لكن  القناعة لا تتعلق بالمال فقط، بل بكل شيء.. بالصحة مثلا، إذ يجب على المريض أن يتقبل مرضه ويرضى بقدره. لا أعني ألا يسعى لعلاجه، فالرسول عليه السلام يقول: تداووا يا عباد الله، فإن الله ما أنزل داءا إلا وأنزل معه الدواء.. لكن المقصود أن يطمئن وهو يتعالج، ويهدأ وهو يبحث عن دوائه. وهذا واضح بالخصوص في حالة الأمراض المزمنة.

   وتتعلق القناعة أيضا بالزواج، فعلى الرجل أن يرضى بـ”نصيبه”، وأن يتعلم أن ينظر إلى محاسن زوجته ويتجاهل سيئاتها. وعلى المرأة أن تقنع بزوجها وتتقبله كما هو.. وليكفّا معا عن المقارنة حيث الرجل يقارن زوجته بالأخريات، والمرأة تقارن زوجها بالآخرين.. إن القناعة ضد المقارنة.

    ويبين لنا الرسول الكريم أن المشكلة ليست في المال والثروة، فأمته سوف ترزق بنصيب وافر منهما، لكن المشكلة في النفوس الجشعة والقلوب القلقة:  ” والله ما الفقر أخشى عليكم، ولكني أخشى عليكم أن تبسط الدنيا كما بسطت على من كان قبلكم، فتنافسوها كما تنافسوها، فتهلككم كما أهلكتهم “. متفق عليه.

  وأخيرا نقول كما علمنا القرآن : ( فمن الناس من يقول ربنا آتنا في الدنيا وماله في الآخرة من خلاق، ومنهم من يقول ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار، أولائك لهم نصيب مما كسبوا والله سريع الحساب).

*مفكر مغربي وأستاذ جامعي

Share
  • Link copied
المقال التالي