يستعمل مصطلح الكرامة في سياقات مختلفة من طرف الأشخاص للتعبير عن عدم الرضى بالإهانة الصادرة عن أية جهة كانت، سواء فيما يهم العلاقات بين الأفراد أو على مستوى العلاقة بين أجهزة الدولة والمواطن ( مثلا للحماية من التعذيب، وكل المعاملات القاسية أو الحاطة بالكرامة أو من الاختفاء القسري، أو الاغتيال خارج القانون…).
وقد اكتسى هذا المفهوم بعدا كونيا من خلال عاملين؛ الأول هو التنصيص عليه في المادة الأولى للإعلان العالمي لحقوق الإنسان لسنة 1948، التي جاء فيها: “يولد الناس ويظلون أحرارا متساوين في الحقوق والكرامة”، وأدمج أيضا نفس المصطلح في العديد من دساتير وقوانين ووثائق كثير من الدول، كما تحيل عليه العديد من النصوص الدولية والأوروبية والجهوية. أما العامل الثاني الذي يعطي لمصطلح الكرامة بعدا كونيا هو طبيعته الأنطولوجية (الوجودية)، أي أن الكرامة لصيقة بالإنسان ومرتبطة بكينونته وقيمة متأصلة فيه، بمعنى أنها تستهدف الطابع الإنساني الحاضر في كل إنسان، وبهذا المعنى تكون كونية.
وتجدر الإشارة إلى أن لمفهوم الكرامة جذور دينية- أخلاقية، وفلسفية وقانونية.
١- من الناحية الدينية والأخلاقية، نصت كل الديانات السماوية على سمو الكائن البشري على باقي المخلوقات، وعلى تكريمه بجعله خليفة لله في الأرض. وقد جاء في سورة الإسراء، الآية ٧٠، قوله تعالى: “ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا”.
٢- على مستوى المرجعية الفلسفية، يعتبر إيمانويل كانط Emmanuel Kant (1724- 1804) من أبرز الفلاسفة الذين نظروا لحرية الإنسان وكرامته، حيث اعتبره غاية لذاتها وليس وسيلة، ضدا على التصور الذي كان سائدا، وخاصة المفهوم الكلاسيكي لسيادة الدولة الموروث عن النظام الويستفالي Système Westphalien، الذي وضع في بداية معاهدات السلم لسنة 1648. ومعلوم أن هذا النظام رسخ سمو الدولة – كوحدة ترابية سيادية Unité Territoriale Souveraine، وهيمنتها على المجتمع والأفراد وذات شخصية قانونية فريدة ووحيدة. وكان ليبنز Leibniz G.W. أول من استعمل كلمة “شخصية”، وأضفاها على الدولة التي كانت حديثة التشكل والاستقلال عن الكنيسة والإمبراطورية. وتم ترسيخ هذا التصور فلاسفة مثل E. Vattel، وهيكل Hegel الذي أعطى شخصية مطلقة للدولة، وذهب إلى حد تأليه هذه الأخيرة. واستمر هذا التصور للدولة وسيادتها المطلقة إلى حدود الفترة ما بين الحربين العالميتين، حيث برزت نظريات مناهضة له لفقهاء القانون الدولي، مثل: Hirsh Walterpacht – J.L. Brierly – Hans Kelsen et Georges Scelle entre autres، الذي دافعوا عن مركزية الفرد كشخصية رئيسية للقانون الدولي. وقد بنى كانط نظريته على مبدأ أساسي، يبرز فرادة الإنسان وتميزه عن الأشياء بصفة العقل -la Raison – التي تكسبه صفة الإنسان مصدر الكرامة كقيمة متأصلة في إنسانيته.
ومن جهته، اعتبر جون لوك John locke (1632- 1704) أب الليبرالية السياسية، أن الكرامة تتكون من الحريات الأساسية التي تميزنا عن الحيوانات: “إن الكرامة تكمن في حرية الوعي” « Consciousness ». وبصدد هذا المصطلح الجديد ترى الفيلسوفة Geneviève Brykman، أن جون لوك يبين أنه يعبر عن شعور بتملك معرفة غير كاملة، ويصبح هذا الوعي مرادفا للهوية الشخصية، لأن الأنا مرتبط بهذا الوعي كما ذهب إلى ذلك ديكارت. غير أن هذا الأخير تم تجاوزه من طرف جون لوك بإبداعه لمصطلح الوعي.
٣- من الزاوية القانونية، يجب التذكير بأن القوانين الوضعية لا تعترف كلها بمفهوم الكرامة لاعتبارات مختلفة، فمثلا لم يرد هذا المفهوم في النصوص القانونية الأمريكية الأساسية (إعلان الاستقلال 1776؛ الدستور 1787؛ ميثاق الحقوقBill of Rights (1790). حيث يعتبر الأمريكيون أن البعد المتعالي للإنسانla dimension transcendantale، الذي يستنتج من تصور فلسفي معين أو من الدين غير معترف به في أمريكا لأن مرجعيتها الفلسفية الليبرالية تؤسس للفردانية.
وعليه، فمفهوم الكرامة كقيمة متأصلة في الإنسان كما عبرته عنه الأديان السماوية، شكل أحد الأسس التي اعتمدت عليها الفلسفة الإنسانية، انطلاقا من عصر النهضة بدءا من Erasme, Montaigne, Kant، حيث أضفت على الإنسان قيمة سامية تتعارض مع تطرف الدين والدولة التي تضحي بالفرد تحت مبرر منطق الدولة – La Raison d’Etat. ورغم محدودية الاعتراف بمبدأ الكرامة في الدساتير الوطنية، فقد ساهم الحق في الكرامة الإنسانية ومازال في الدفاع عن الحقوق الذاتية للإنسان، وذلك من خلال الإحالة عليه في مختلف المحاكم العليا الوطنية والجهوية؛ سواء الأوروبية أو البين أمريكية أو الإفريقية، والدولية (المحكمة الجنائية الدولية).
*باحث في القانون الدولي، كلية الحقوق، فاس.
تعليقات الزوار ( 0 )