Share
  • Link copied

حوار شامل مع حسن أبو هنية أبرز الباحثين العرب في “الحركات الجهادية” حول مسألة البحث الأكاديمي بين البيئة والذات والموضوع

بناصا – متابعة

عن نشأته شاباً محسوباً على اليسار، ومن ثم على السلفية الجهادية، ثمّ تحوّله إلى عين المراقب والباحث في شؤون الحركات الإسلاميّة، أو ما يصفه بالانتقال من الأيديولوجيا إلى الإبستيمولوجيا، يجول الأستاذ حسن أبو هنية مع “متراس” في هذا الحوار. يتحدث أبو هنية عن مشاريعه الفكريّة وتحليلاته السياسية بخصوص الظواهر الجهادية، ومن ثمّ يُعرج للحديث عن دراسات التراث والتجديد، وآفاق التصوف في عالمنا المعاصر.


في النشأة والتحوّل الشخصي، لنبدأ من النشأة. خبِرتَ السجن مبكراً، ودخلته أوّل مرّة شابّاً محسوباً على اليسار، لكنك تحوّلت داخل السجن إلى السلفية الجهادية سريعاً. ثمّة فكرة تقول إنّ السلفية الجهادية، منذ أفغانستان، ورِثَت الخطاب الأُمميّ بعد أن تخلى عنه اليسار، كيف جرى هذا التحول بالنسبة إليك على المستوى الشخصي؟

لقول إنّ السلفية الجهادية، منذ أفغانستان، ورِثَت الخطاب الأُمميّ بعد أن تخلى عنه اليسار، لا ينطوي على مِصداق موضوعيّ. تجربتي الذاتية في التحول من اليسار الثوري إلى الإسلام الجهادي تدحضها كذلك؛ رغم أنني لم أُصنف لدى الأحزاب اليسارية بالثوريّ، ولا لدى الجماعات الجهادية بالجهاديّ، إلا أنّ المؤكد أنني صُنفت  لدى أجهزة إيديولوجية وقمعية كذلك.


في حقيقة الأمر، يُعدّ الخطاب الأممي أو العالمي أو الكوني سمةً مشتركة بين الأيديولوجيات والحضارات والأديان الكبرى. وفكرةُ نهاية التاريخ وسيادة منظومة فكريّة أو دينية، هي الغاية التي تنشدها هذه الحركات إلى حدّ ما. لذلك، فإننا نجد أنّ مفكّري المسلمين على اختلاف توجّهاتهم -ثم الحركات والجماعات الإسلامية- نظروا إلى الإسلام على أنه رسالة عالمية بديلة عن الغرب والشرق، إذا ما استعرنا علي عزت بيغوفيتش؛ وهي ثيمة تعزّزت عقب نهاية الخلافة العثمانية عام 1924، وخضوع العالم الإسلامي للسيطرة الاستعمارية الغربية.


فمن محمد عبده وجمال الدين الأفغاني، مروراً بسيد قطب، وعبد القادر عودة، وصولاً إلى أصغر مفكّر إسلامي معاصر، لا نجد خلافاً كبيراً حول عالمية الإسلام وتمايزه واختلافه عن الرأسمالية والاشتراكية، بل كثيراً ما تنطوي المحاججات على شيء من منطق التفوق والسمو الأخلاقي في معالجة الأزمات الإنسانية العالمية، والتبشير ببديل أرقى وأكثر عدالة.


والأمر كذلك، لم تكن السلفية الجهادية نشازاً في هذا السياق، فأطروحاتها النظرية وممارساتها العمليّة دالّة على رفضها للسيطرة الإمبريالية والهيمنة الرأسمالية الليبرالية الغربية، وللسيطرة والهيمنة الاشتراكية السوفيتيّة بذات القدر إن لم يكن أشدّ. وإذا كان عنف “القاعدة” ركّز على أميركا عقب انهيار المنظومة الاشتراكية وتفكك الاتحاد السوفيتي، فقد كانت حروب الجهاديين في إطار الجهاد التضامني مُنصبّةً على الاتحاد السوفيتي من أفغانستان إلى الشيشان.


على المستوى الشخصي، لم تكن يَسارِيّتي سوى قشرة رقيقة شكّلتها المسألة الفلسطينية. أعتقد أن كثيرين أمثالي لم يحفلوا بــ”رأس المال” لماركس واحتفلوا بــ”ما العمل” للينين. أنا فلسطيني أردني عانى من الاضطهاد والإذلال والامتهان، وخبر الإقصاء والتهميش والظلم بعد اقتلاع وطرد عائلته من أرضه ووطنه فلسطين على يد الاحتلال الكولونيالي الصهيوني، بمساندة الإمبريالية والكولونيالية الغربية (وهذه بداهات عاشها أبناء جيلي دون لبس، وهي حقائق تتعرض اليوم إلى التشكيك من قبل أنظمة وأجهزة مهولة في عالم ما بعد الوقائع). أنا ابن أمٍ وأبٍ من قرية اسمها “الدوايمة” شهدت مجزرة مروعة عام 1948 على يد عصابات الاحتلال الصهيوني، وشُرّد معظم أهلها دون أن يعود لهم الحقّ بالتفكير في مسقط رؤوسهم، في عالم ما بعد الحقيقة ونظريات السلام دون عدالة.


في ظل هذه المواضعات، شكّلت العدالة والكرامة قيماً مؤسسة في تعريف هويّتي الذاتية الشخصية والموضوعية الوطنية. وإذا كانت مشاعر الغضب والرغبة في الانتقام تتولّد عن الشعور بالظلم والامتهان، فإنني كنتُ -ولا شكّ- غاضباً، الأمر الذي قادني إلى تبني إيديولوجية ثورية غاضبة، لا تحفل كثيراً بالنظرية بقدر ما تحفل بالممارسات المقاومة العملية. في ذلك الوقت من سبعينيّات القرن الماضي، كانت الأيديولوجيا الثورية السائدة يساريةً قومية، وكان المحدّد الأساس عندي هو الموقف الأخلاقي والسياسي من القضية الفلسطينية. ومع بدء تراجع وأفول جاذبية الأيديولوجيات اليسارية والقومية عقب هزيمة 1967، بات الغضب أوسع مدىً وأكثر انتشاراً، ودخل الشكّ والريبة عندي إلى صلب النظرية القومية والأيديولوجيا اليسارية. يمكن القول إنه بوفاة جمال عبد الناصر ماتت الأيديولوجيات اليسارية القومية بالنسبة إليّ، أما الأيديولوجيات الليبرالية فكانت ميّتة عندي أصلاً، لعلاقتها بمحو اسم “فلسطين”، وإحياء المستعمرة الاستيطانية المسماة “إسرائيل”. تزامن ذلك مع بداية تشكل حركة دينية إسلامية راديكالية مع أطروحات سيد قطب، الذي صب جام غضبه على تلك الأيديولوجيات المهزومة ورافعتها الدولة القومية ما بعد الكولونيالية.


في هذا السياق، أُعيد النظر في الدين كحركيّة تحرّر ومقاومة، لا كمنظومة رجعية وخضوع. ظهر ذلك مع حرب أكتوبر/تشرين الأول 1973، التي بدت كنصرٍ إسلامي أنجز في شهر رمضان ورفع فيه شعار “الله أكبر”، واستخدم فيه سلاح النفط باسم التضامن الإسلامي. لكن سرعان ما تكشف الرئيس (المؤمن) عن ليبرالية عاشقة للإمبريالية الأميركية، وعبادة للديانة الرأسمالية، والإيمان بالسلام مع المستعمرة الاستيطانية الإسرائيلية، الأمر الذي تجلى مع معاهدة كامب ديفيد عام 1978، مثلما تكشّف شعار التضامن الإسلامي عن تضامن ليبرو-إسلامي نفطيّ مع رأسمالية إمبريالية أميركية وفق صيغة إله السوق: البترودولار.


خلال هذه الحقبة، كنتُ منخرطاً في صلب النقاش الذي أفضى إلى تشكّل تنظيمات “الغضب الإسلامي”1، كإيديولوجيا ثورية راديكالية. كانت فلسطين في صلب التكوين البنيوي لهذه التنظيمات، كما كانت تتوفّر على كتلة من الغضب على الأنظمة الإمبريالية العالمية، والأنظمة الدكتاتورية المحلية، والنظام الإستعماري الصهيوني الإقليمي.


في ذات السياق، شكّلت الثورة الإسلامية الإيرانية عام 1979 حدثاً مؤسساً، وتعبيراً عن ولادة أيديولوجيات إسلامية ثورية راديكالية تناهض الإمبريالية. انطلقت الثورة الإيرانية بدايةً من رحم تُراث يساري ثوري وإسلامي راديكالي مشترك، ظهرت ملامحه مع جلال آل أحمد (في كتاب “الابتلاء بالتغرب“)، ونضج مع علي شريعتي (في كتاب “العودة إلى الذات“). لم تكن المسألة الطائفية، آنذاك، تعني أكثر من اختلاف مذهبي ضمن المجال الإسلامي. كانت الثورة الإيرانية في وقتها، تُشير إلى إمكانية قيام الإسلام بدور ثوري راديكالي ينشد العدالة والإنصاف، ويناهض الظلم  والاضطهاد عالمياً وإقليمياً ومحلياً، وكانت فلسطين حاضرة دوماً. هكذا دشّنت الثورة الإيرانية ولادة الإسلام السياسي من رحم حركات المحافظة على الهوية، ومنحت الإسلام الجهادي رؤى عالمية أممية.


على الصعيد الشخصي، لم تستهوني حركات الإسلام السياسي الإصلاحية، فبحكم عُمر الشباب والفقر والتهميش وهويتي الفلسطينية وثوريتي اليسارية الطفولية، كنت أجد نفسي مع أي حركة راديكالية تضع فلسطين أولوية في جدول أعمالها النضالية. تتبّعتُ الأثر الفلسطيني الثوري الجهادي، مع أمثال صالح سريّة، فمحمد سالم الرحّال، ثمّ عبدالله عزام، وصولاً إلى أبي قتادة الفلسطيني وأبي محمد المقدسي. هكذا تعرّفتُ جميع هؤلاء الذين أسّسوا منظومة جهادية عالمية، تضع القضية الفلسطينية في صلب منظوراتها الفكرية والاستراتيجية. كانت فلسطين بالنسبة إليّ مسألة هوياتية وأخلاقية وثورية كذات وفعالية. وبالطبع لم تكن تلك التصوّرات ناضجة كما أراها الآن، فبالكاد يمكن تجنّب أدلجة الذاكرة.


ربَطَتكَ علاقات وثيقة مع الكثير من رموز التيارات السلفية الجهادية، والكثير منهم كان موجوداً في الأردن، مثل أبو قتادة الفلسطينيّ، وأبو محمد المقدسي. كما شكّل قدوم الشيخ الألباني فارقاً كبيراً في هذه البيئة، وساهمتَ أنت بشكل شخصي في بعض الكتابات التأسيسية معهم، احكِ لنا عن بعض تفاصيل هذه المرحلة؟


كان هذا إبّان حقبة انبعاث السلفيات في ثمانينيات القرن الماضي، إذ كان للشيخ محمد ناصر الدين الألباني دورٌ كبير في انتشار السلفية في العالمين العربي والإسلامي. استقر الشيخ في الأردن مطلع الثمانينيات بعد الصدام المسلح بين جماعة الإخوان ونظام البعث في سوريا، وفي ذلك الوقت، كنتُ وأبي قتادة نقطنُ أحدَ أحياء عمّان الفقيرة، بينما كان المقدسيّ يقيم في الكويت.


في ذلك الوقت، كانت المسافات الفاصلة بين السلفيات ضيّقة، وكانت تشكّلاتها ورهاناتها متداخلة؛ كانت، بدايةً، أقرب إلى نمط الحركات الاجتماعية الإحيائية المتمركزة على الهوية، وكانت خلافاتها تتمحور حول انضباطات الهوية على صعيد الاعتقاد والممارسة، كمحدّد لتعريف من هو المسلم المطابق لتصوّرات وممارسات السلف المتخيّل في القرون الثلاثة الأولى. شكّلت مسائل “الإلهيات النظرية”، لا سيّما علاقة الذات بالصفات، ومسائل العبادات العملية وخصوصاً طقسية الممارسات الجسدية، محاورَ ترسيم الذات السلفية من خلال ثنائيات التوحيد/الشرك، والاتبّاع/الابتداع.


يظهر التداخل بين السلفيات خلال هذه الحقبة بصورة جليّة في شخص الشيخ ناصر الدين الألباني، الذي كان على علاقة جيدة بجماعة الإخوان المسلمين في سوريا وخصوصاً التيار الدمشقي السلفي القريب من خط سيد قطب، وكان أيضاً على علاقة جيدة بالجماعة السلفية المحتسبة في السعودية القريبة من الاتجاه السلفي الحديثي لمحمد بن عبد الوهاب، حتّى أنّه اتّهم بكونه المنظّر الفكري لجماعة جهيمان العتيبي التي اقتحمت الحرم المكي نهاية عام 1979. من المعروف كذلك أن الألباني تأثّر أيضاً بسلفية محمد رشيد رضا التي كانت تجمع بين الخط الإخواني السلفي القطبي، والخط الوهابي السلفي النجدي.

في خضم التحوّلات والأزمات التي شهدها العالم العربي والإسلامي نهاية سبعينيات القرن الماضي، والتي تمخضت عام 1979 عن حوادث جسيمة مؤسِّسة، كدخول الاتحاد السوفيتي إلى أفغانستان، واقتحام الحرم المكي، والثورة الإيرانية والصدام بين الإخوان والبعث في سوريا، وتوقيع اتفاقية كامب ديفيد بين مصر وإسرائيل، برزت الاختلافات داخل المدرسة السلفية، وانفجرت بولادة سلفيّات متعدّدة متناحرة، عبر مدخل قضايا “الإلهيات العملية” التي تركز على الهوية السياسية للدولة والمجتمع، ومباحث “اللاهوت السياسي”، ودور الدين في المجال العام، وديناميات التحرير والتغيير، والجماعة والسياسة. في ذلك الحين، بدأ الألباني بتبنّي توجه سلفية أكثر محافظة وبعداً عن السياسة، من خلال رؤية أخلاقية هوياتية تَقَويّة نقية تستند إلى تصوراته التي تعبّر عنها مقولته الشهيرة “التصفية والتربية”، حتى غدا شعاره الأثير “من السياسة ترك السياسة”، وهي رؤية تؤسّس للخلاص الفردي ولا يمكن أن تقود إلى العمل الجماعي، ولا أن تكون مصدراً للسياسة.


في هذا السياق أخذت السلفيات التي نعرفها في الوقت الحاضر بالتبلور والتشكل، وكانت رؤية الألباني تزداد انغلاقاً وتصلباً على مسائل الهوية الطقوسية، وظهرت التمايزات بصورة جلية مع حرب الخليج الثانية عام 1990، وانفجرت السلفية لتكشف عن تيارات عديدة محافظة تقليدية، وإصلاحية صحوية، وجهادية، ومدخلية جامية2 وغيرها. وقد أخذتُ، أنا وأبو قتادة، بالابتعاد عن سلفية الألباني، وعملنا على تأسيس جماعة سلفية إصلاحية باسم “حركة أهل السنة والجماعة”، وأصدرنا نشرة حملت اسم “المنار”، وكنا أقرب إلى التيار الصحوي، الذي كانت الصلات بينه وبين السلفية الجهادية كبيرة. كان المقدسي في بداياته في الكويت أقرب إلى التوجه السلفي “السروري”3، وساهم الانقلاب العسكري على نتائج الانتخابات في الجزائر التي فازت بها “جبهة الإنقاذ” في تبنيه نهجاً سلفياً جهادياً. هكذا بات السؤال المركزي يدور حول هوية الدولة والمجتمع، وتباينت الإجابات من التجهيل والتوقف وصولاً إلى التكفير.


كانت فلسطين، بالطبع، حاضرة في صلب النقاش باعتبارها تلخيصاً لحالة الأمة الإسلامية الشتاتية. ولا غرابة أن يتخذ أبو قتادة لقب “الفلسطيني” الذي اشتهر به بعد تركه الأردن وذهابه إلى بيشاور ثم استقراره في لندن عام 1994، ولا أن يختار أبو محمد، الذي استقر في الأردن بعد حرب الخليج، لقب “المقدسي” وأن يؤسس مع أبو مصعب الزرقاوي عام 1994 ما عُرف إعلامياً بتنظيم “بيعة الإمام”، الذي كانت فلسطين مركز اهتمامه. أسّستُ أنا مع آخرين في نفس العام في الأردن جمعية “الكتاب والسنة”، وعملت خلال تلك الفترة في “دار البيارق” على طباعة الكتب الجهادية، وذلك قبل دخول ثورة الإنترنت وحقبة العولمة، وما أسهمت به من تطوّرات حاسمة في عالم الجهادية.

التيار السلفيّ.. قطيعة أم تواصل مغاير؟

عادةً ما يُنظر إلى عالم السلفية الجهادية من الخارج بنوعٍ من التسطيح، ويتمّ اختزال السلفيين في كونهم “كائنات” تراثية. عِشتَ في هذا العالم لوقت طويل، وكنت على صلة وثيقة بشخصياته، وقطعت فيه شوطاً بعيداً في قراءاتك الفكرية والفلسفية أيضاً. إلى أيّة درجة كان ذلك مسلكاً فردياً، وإلى أيّة درجة كان تعبيراً عن تنوّعٍ قد لا تدركه عين المراقب داخل الظاهرة؟


ثمّة قصةٌ طريفة كاشفة لمسارات تشكلي الفكري واهتماماتي المعرفية. في مرحلة مبكرة من شغفي بالقراءة -كنت حينها في السابعة عشرة من عمري- لفت نظري كتاب بعنوان “هكذا تكلم زرادشت” لمؤلف مجهول بالنسبة لي يدعى فريدريك نيتشه. كنتُ أظن الكتاب يتحدث عن الفيلسوف الفارسي زرادشت، ويؤرخ  للديانة الزرادشتية، ولم أكن أعلم أنني أقرأ كتاباً يقع ضمن قائمة أعظم مائة كتاب في تاريخ البشرية. في الحقيقة، لا زلت أجهل منابع شغفي بالقراءة، إذ لم يكن لأحد من عائلتي اهتمامات ثقافية أو علمية، فوالديّ كانا شبه أُميين بالكاد يتقنان القراءة، فضلاً عن حالة الفقر التي طبعت حياتهما كمعظم اللاجئين الفلسطينيين. وضعٌ يجعل من اقتناء الكتب رفاهية تقارب العبث والسخف. كان والدي عاملاً بسيطاً يكدّ في أعمال شاقة، وكانت والدتي تعمل في البيت في أشغال الخياطة، ومع ذلك كان ثمة حرص على التعليم كاستثمار يؤمن مهنة للعيش، فقد أصرّت والدتي على إرسال أخي الأكبر لدراسة الهندسة في أميركا. بعدها بعامين توفيت والدتي وانقلبت حياتنا رأساً على عقب، وأصيب أخي بـ”الشيزوفرينيا”، وتبددت أحلامي بمتابعة الدراسة الجامعية، فدرست المحاسبة في كلية متوسطة، للانخراط في العمل بأسرع وقت، وهو ما لم يتحقق، إذ لم أعمل في هذا المجال وتنقلت بين مهن عديدة.


كنت شغوفاً بالقراءة واقتناء الكتب، وربما كان للشيزوفرينيا كإرث في تاريخ العائلة، أهميةً في تحديد مجالات المطالعة والقراءة. قادني الاهتمام بديناميات الوعي واللاوعي إلى قراءة فرويد والتحليل النفسي، وقادني الفقر والبؤس إلى قراءة ماركس والطبقات الاجتماعية. كان نيتشه مثلي الأعلى. ذلك المتوحد والحاقد على ثقافة القطيع وأخلاق العبيد الرافض لأشكال التبعية والتقليد كان شبيهي. متوحداً يناهض جدلية الشيخ والمريد. متمرداً على الأب والأستاذ. يمثّل نيتشه الفكر الرحّال حسب جيل دولوز، وهو ما قادني إلى الارتحال وفكر الاختلاف، والأهمّ إلى الثقافة المضادة والصفة الثورية.


إذا كنت من قرّاء نيتشة ستذهب إلى قراءة كافكا حتماً؛ تفعل ذلك دون عناء وبمتعة تامّة، وتجعل من قراءة غيره معاناة خالصة. ستتعرف، بالتأكيد، إلى جيل دولوز، ودولوز سيقودك إلى ميشيل فوكو وبقية فلاسفة الاختلاف.


كان من أحد الأشياء الطريفة التي قد تصل حد الغرابة لدى البعض، أنّ الإسلاميين هم من شجعوا ترجمة نيتشه في العالم العربي والإسلامي. فليكس فارس، مثلاً، قال إنه ترجم كتاب نيتشه “هكذا تكلم زرادشت” عام 1938 إلى اللغة العربية، بتشجيعٍ من مصطفى صادق الرافعي، وأحمد حسن الزيات صاحب مجلة “الرسالة”. وتعامل محمد إقبال مع نيتشه في كتابه الأخير “تجديد التفكير الديني في الإسلام” بوصفه فيلسوفاً عميقاً ثائراً على الخرافة والجهل!


كان للأثر النيتشوي تأثير بالغ عليّ في مسار المعرفة والقراءة. فرغم أنني تنقّلت بين السلفيّات التي تجعل الفكر والتاريخ والواقع شديد الأدلجة، وخبرتُ نظراتها الخطيّة ونزعتها الطهورية النقويّة، إلا أنّني كُنت مغرماً بمعرفة الخلاف والاختلاف. طالعتُ كتب الحديث والجرح والتعديل والطبقات، وقرأت كتب الفقه بمذاهبه المعروفة، وكنت شغوفاً بعلم الكلام وعلم الملل والنحل والمذاهب والفرق العقدية، وكتب الفلسفة الإسلامية والتصوف.


في مرحلة مبكّرة في العشرينيات من عمري، عندما كنت سلفياً، قرأت كافة مصنّفات ابن تيمية، وعملتُ معجماً للمصطلحات التيميّة ولم يطبع. وقرأت كافة كتب ابن حزم وصنفت مع صديق كتاباً حول رواة ابن حزم، وصنعت فهارس لكتبه وهي مطبوعة4، وقرأت التواريخ، خصوصاً تاريخ الطبري، ووضعت فهرساً للأحاديث والآثار الواردة في تاريخه وهو مطبوع، وكتبت آنذاك بحثاً عن تاريخ علم الكلام ومدارسه، وبعدها عملت مديراً للنشر في “دار البيارق”، حيث توليت نشر الكتب الأساسية للسلفية الجهادية المعاصرة.


بحكم كوني غير أكاديميٍّ وغير مؤطّر، كنت وما زلت أقرأ ما أحب، وأتنقّل في القراءة بين العلوم الإنسانية والاجتماعية. ولكوني لا أتقن سوى العربية، فإنني أحرص على متابعة ما يُترجم إليها، وأعتقد أن معظم الكتب الكلاسيكية الأساسية في حقول الفلسفة والاجتماع تُرجمت إليها. أتتبّع بحماسٍ مُجمَل الإنتاج الفكريّ العربي المعاصر على اختلاف توجهاته الإيديولوجية والعلمية، من عبد الله العروي إلى محمد عابد الجابري فمحمد أركون وما بينهم. لكن للفيلسوف المغربي طه عبد الرحمن مكانة خاصة في قلبي، فهو بحقّ من يستحق صفة “فيلسوف”. كما أن لي اهتماماً خاصاً بكتابات المدرسة النقدية، وتيار ما بعد الكولونيالية، والفلسفة النسوية، ولا شك أن إدوارد سعيد يحظى عندي بمكانة خاصة. كما أحرص على متابعة الفلسفة السياسية وتقاطعاتها الاستراتيجية.


منذ قرابة عشرين عاماً، بدأت أركّز على دراسة الحركات الاجتماعية، خصوصاً الجماعات الإسلامية على اختلاف توجهاتها. كتبتُ عن الإسلام السياسي، وأصدرت كتاباً عن الإخوان المسلمين في الأردن، وتتبّعت ظاهرة ما بعد الإسلام السياسي بعدة مقالات بحثية، وتناولت السلفيات في عدة كتب، ثم اعتنيت بالتيارات الجهادية، وصدر لي حولها عدة كتب، وكنت أعتبر هذه الكتابات تمريناً للكتابة حول الظاهرة الإسلامية وتشكلاتها ومساراتها في الحقبة ما بعد الكولونيالية في العالمين العربي والإسلامي.


كيف جرى تحوّلك عن التيار السلفي لاحقاً، من حيث المشروع خصوصاً؟ ما الذي دفعك إلى مغادرته، والانتقال إلى وضعية المتابع والباحث في هذه الظاهرة؟

لا أعرف بأي معنى يمكن أن نغادر السلفية، وما إذا كان بالإمكان تجاوز السلفية بكّافة أشكالها وتنوّعاتها الإسلامية أو الليبرالية أو اليسارية؛ فحتى في عصر ما بعد الحداثة والعولمة التي تدّعي نهاية السرديات الكبرى، لا يمكن بناء هوية ما دون إيمان، إذا ما استدعينا تشارلز تايلور Charles Taylor. لكن، يمكن القول إنّ الهوية تنطوي على جوهرانية استراتيجية، لا يمكن الفكاك منها وعنها، ونحن في النهاية في حالة تشكّل مستمر، نُغادر أداءً ونمثّل أدواراً وفق طبيعتنا البشرية.

شخصياً، لم أكن سلفياً يوماً ما، بمعنى الخلاص الفردي، وأعجز عن تصوّر سلفية تقوم على نفي فعالية الأنا والذات في التاريخ، وإن كان ذلك حقيقة تعيشها بعض الكائنات السلفية التي توشك على الانقراض، إذ لا ترى في التجربة التاريخية إلا محض انحرافات عن خط قويم بفعل الحوادث والعادات والبدع. حسب هذه النظرة، ليس ثمة إلا الله القديم الأزلي، والحاضر الحادث الفاسد، وتاريخ العالم مجرد انحراف عن قصدٍ ندّعي أنه واحد أحد، ونملك تفسيره ولا مجال لتأويله. إنه شيء لم يوجد قطّ، سوى في بعض الأخيلة السلفية الفائقة.

كان أحد أهم أسباب تحولي عن السلفية، هو تبيّن معنى السلفية كاختراع حديث وصناعة معاصرة، وإدراك أنّ تضخم سلطة الحديث النبوي هي مسألة حديثة جداً. فسلطة الحديث كما تحياها السلفية المعاصرة، هي إحدى أهم الأساطير التي روّجها الشيخ محمد ناصر الدين الألباني، وهي أسطورة آمن بها جورج طرابيشي وظنّ أنها كانت سائدة ومهيمنة في معظم حقب التاريخ الإسلامي، الأمر الذي دعاه إلى تأليف كتاب ضخم بعنوان “من إسلام القرآن إلى إسلام الحديث“، على أساس أسطورة واهية.

في سياق متّصل، تبدو الفكرة القائلة أنّ سلطة الحديث هي التي أنتجت نزعة التطرف والعنف والانغلاق والتعصب فكرةً في غاية السخافة، ذلك أن أكثر الجماعات عنفاً في التاريخ الإسلامي: “الخوارج”، كانت تستند في سلطتها المعرفية وأبنيتها العقدية والفقهية إلى القرآن، ولم يكن الحديث يتمتّع بين الخوارج بسلطة واسعة.

على الصعيد الشخصي، لم يشكّل انحيازي لمجال البحث وتمثّل وظيفة المثقف، قطيعةً بل استمرارية في سياق التحوّل (ومن الصعب الفصل بين الثقافي والسياسي، خصوصاً في المجال الإسلامي، فتلك الثنائيات هي إحدى لوثات الحداثة الوضعانية المتأخرة، المغرمة بوضع الحدود الفاصلة بين المجالات، وتجزيئ الإنسان بينها). لكنني مع زيادة إدراكي لهشاشة السند الفكري الذي تقوم عليه الجماعات والحركات والأحزاب الإسلامية من جهة، وافتقارها للممارسة الإيمانية الحيّة من جهة أخرى، بدأت أقترب أكثر من الإبستيمولوجيا، وأبتعد عن الأيديولوجيا، بعد أن باتت الأيديولوجيا في زماننا تبعث على الكآبة والبؤس.

مقاربة السّلفية الجهاديّة

في كتابك “الجهادية العربية.. اندماج الأبعاد: النكاية والتمكين بين “الدولة الإسلامية” و”قاعدة الجهاد”” (المركز العربي، 2018)، تحاول الوقوف على علل جاذبية الجهادية العربية، هل يمكنك أن تصف لنا هذه الجاذبية وسبب انحسارها اليوم؟

نعم أحاول في هذا الكتاب سرد تشكّل الجهادية العربية والكشف عن أسباب جاذبيتها، وتقديم تفسير لصعود الراديكالية والعنف في العالم العربي، بعيداً عن التفسيرات الاستشراقية والثقافوية الشائعة عند التيار الليبرالي الذي لا يمل من الترويج لأسطورة الجهادية كمنتج للدين والتراث. وبعيداً، من جهة أخرى، عن التأويلات المؤامراتية المتفشية لدى قوى اليسار الذي لا يكلّ عن وصف الجهادية بالصناعة الإمبريالية، وهي قراءات استراتيجية احتقارية، تهدف إلى نزع أي إمكانية لـ”فاعلية” الذات الإسلامية والكينونة المسلمة.


لكنّ الجهادية العربية تأبى وتستعصي على هذه القراءات المؤدلجة والسطحية والسخيفة، فهي نتاجٌ معقّد للوضعية ما بعد الكولونيالية في سياق تأسيس ذاتية إسلامية تهدف للتحرّر من الاستعمار. إنّها نتاج وضعية عربية منقسمة وهشة وتابعة، وهي تعبير عن مسارات من الفشل السياسي والاقتصادي والاجتماعي، إذ يجب الالتفات إلى أن الجهادية العربية بتنوّعاتها المختلفة من “القاعدة” إلى “داعش” تمثّل انعكاساً لفشل الدولة العربية؛ ولا عجب أن تنطوي الجهادية العربية على جاذبية لافتة في زمن الثورات المضادة والانقلاب على مسار ثورات الربيع العربي، إذ مثلت هذه الثورات أملاً  كبيراً في التخلص من الاستبداد الداخلي والتحرر من التبعية الخارجية، وحملت وعوداً بالحرية والعدالة، وفتحت المجال لتأسيس ذاتية عربية إسلامية تطيح بالأنظمة ما بعد الكولونيالية التي تدعي الوطنية. ولمّا تعرضت هذه الثورات للقمع والإجهاض، تنامت الجاذبية الجهادية كحركة احتجاجية عنيفة للردّ على عنف الثورات المضادة.


من المبكّر القول بانحسار جاذبية الجهادية، ذلك أن أسبابها وشروطها لا تزال حاضرة، بل إنها زادت حدة. فالأسباب العميقة للثورات العربية تترسخ وتزداد وتتوسع، وما يحدث في السودان والجزائر يؤشر على أنّ ثورات الربيع العربي لن تتوقف عند موجة واحدة، ولا بد من إدراك ثلاثة ظروف أسست للسلفية الجهادية حسب فرانسوا بورغا François Burgat؛ الأول: محلي وطني يتمثل في انغلاق الأنموذج السياسي، وفشل وعود التحول الديمقراطي ورسوخ الاستبداد؛ والثاني: إقليمي يتمثل في عدم التوصل إلى سلام عادل وحقيقي في فلسطين؛ والثالث: عالمي تمثل في انهيار الاتحاد السوفيتي وسيادة القطب الأمريكي الواحد وحلول العولمة. تعمقت هذه الاختلالات بعد الانقلاب على ثورات الربيع العربي، بفعل عوامل إضافية من القمع والحرب تحت ذريعة حرب “الإرهاب”، لإفشال أي مقاومة سياسية داخلية، وتجريم أي مقاومة خارجية باختراع عدو “إرهابوي” متخيل.

تقوم استراتيجية الثورات المضادة  على دينامية حرب “الإرهاب”، إذ تختفي المعارك من أجل التحرر والاستقلال والحرية والكرامة والعدالة، وتحضر حصراً “حروب الإرهاب”؛ وهي حجر الأساس في ركن الاستراتيجية الأميركية الإمبريالية في ديمومة الهيمنة عبر الدكتاتوريات المحلية التي اختزلت مشاكل المنطقة في عدو مخاتل فضفاض غير محدد  اسمه “إرهاب”. عقب الثورة المضادة على ثورات الربيع العربي وصلنا إلى أقصى حدود التفاهة، ففي ظل غياب “عدو”، بعد أن تحولت المستعمرة الاستيطانية المسماة “إسرائيل” إلى صديق، تطوّرت ديناميات اختراع “عدو” داخلي جديد يتمثل في “الإرهاب”. إذا ما تتبعنا مسألة العنف السياسي في العالم العربي، سنجد أنّ العنف تعاظم منذ الانخراط فيما سُمي “عملية سلام”، وبهذا تحولت الجيوش العربية إلى قوة “بوليس”، وتبدلت عقيدتها القتالية إلى قوات مكافحة إرهاب داخلي.


في منطقةٍ تتحكم فيها دكتاتوريات عاجزة أصلاً عن تلبية حاجات مواطنيها اليومية، وخاضعة برضا تام لإمبريالية أميركية فجّة في عصر ترامبّي، ومستسلمة للمستعمرة الاستيطانية المدعوة “إسرائيل”، من الصعب أن نتخيّل نتيجةً أخرى غير المزيد من الخراب، ورغم سلمية الثورات العربية وآخرها السودانية والجزائرية، إلا أنه من الصعب أن تتمخض عن نهاية سعيدة، فالعقلية الفاشية العسكرية المتحكمة ستقوم بفعل كل شيء لقطع مساراتها، وبهذا فإننا بانتظار نُسَخ جديدة من الجهادية، ذلك أن الجاذبية الجهادية تكمن في مقاومتها الانتقامية ودعوى “الخلافة”، وليس في وعودها.

قراءة “داعش”

تصديت في الكتاب نفسه للخطاب الاستشراقي حول ما يُدعى “الإرهاب الإسلامي”، وكل المحاولات السطحية التي تقرأ ظاهرة “داعش” عبر ردّها إلى كتب ابن تيمية، وتجعل جذورها تاريخية غير ذات صلة بالواقع. لكن، ما دورُ التراث والدين في تشكيل هذه الجماعات؟ وكيف يجري الأمر على مستوى الاتصال مع التراث؟

في المقابل، ثمّة مداخلات عديدة من باب نقدها للحداثة، قاربت الظاهرة من منطلق أنها منتجٌ من منتجات الحداثة. في تقييمك، أين يكمن “الحداثي” في “داعش”؟


إنّ أيّ محاولة للانفكاك عن التراث التاريخي غير ممكنة أصلاً، لكنّ المهم هو إدراك الكيفية التي يُعاد بها تأويل التراث الديني لإضفاء الشرعية على الحاضر، ومعرفة الآليات المُنتجة للخطاب والمشكّلة للواقع، التي يتم من خلالها إعادة استملاك التراث. فالمرجعيات التي تستند إليها الجهادية العالمية، لا تخرج عن ذات المرجعيات السنية، سواء أكانت القراءة الجهاديّة لتلك المرجعيات حرفيّة أو انتقائية أو تأويلية. إنّ الحركات والتنظيمات الإسلامية السياسية المعاصرة، تعود في جذورها إلى مرجعية دينية تستند أساساً إلى المدرسة السلفية بتنويعاتها المختلفة، كما أنّ المُنطلقات الفكرية للجهادية العالمية الراهنة ترتبط بتراث المدرسة السلفية في نسختها السعودية الوهابية من جهة، والمدرسة السلفية الحركية بترسيمتها الإخوانية القُطبية من جهة أخرى.


ترتبط السلفية الجهادية المعاصرة ارتباطاً وثيقاً بتراث الشيخ محمد بن عبد الوهاب وتطوراته اللاحقة، كما ترتبط بتراث الشيخ حسن البنا مؤسس جماعة الإخوان المسلمين في مصر، خصوصاً جناحها الراديكالي مع سيد قطب. غير أن السلفية الجهادية تعمل، في المقابل، على نسج روابط تاريخية أبعد من ذلك، بتقديم نفسها امتداداً واستمرارية للسلفية التاريخية التي صاغها ابن تيمية، والتي تقوم على صلات مفترضة ومُتخيّلة مع سلف القرون الثلاث الأولى، وتيار أهل الحديث.


يعمل التراث بطرق مختلفة على تأسيس الحاضر وصناعة المستقبل، وهو حاضرٌ لا ينفكّ عن الحداثة. لا تستخدم الجهادية مُنتجات الحداثة المادية فحسبو بل والرمزية، وقد برهن تنظيم داعش على امتلاكه قدرة هائلة على استخدام تقنيات الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي، وتفوَّقاً في صناعة المنتجات الإعلامية المرئية بصورة مذهلة، كما أنه برع في استخدام التقنيات العسكرية والتكتيكات القتالية، وأسّس لنمط من الحروب الهجينة بصورة غير مسبوقة.

في المجال الرمزي، أدار تنظيم داعش مؤسّساته كدولة حديثة في المجالات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية. في هذا الصدد، جادَل كيفن ماكدونالد، أن ظاهرة داعش لا تعود في الفكر والممارسة إلى القرون الوسطى، حسب الصورة الشائعة عنه والتي تؤيّدها تصريحات المسؤولين السياسيين، بقدر ما ينتمي إلى الحداثة التي أسّستها الثورة الفرنسية، مستشهداً لهذا الغرض بفقرات من مؤلفات أبي الأعلى المودودي كما ظهرت في خطابات أبي بكر البغدادي. يرى ماكدونالد أن الإسلام الجهادي يوفر للشباب المسلم، فرصة إبداء تمسّكه الحقيقي بدينه، على الضد من أهالي هؤلاء، الذين يعتبرون الإسلام، وفق الجيل الجديد من الجهاديين، مجرد “تقليد وثقافة”، فداعش، حسب ماكدونالد، يتيح للشبّان المسلمين فرصة الانتماء إلى مشروع سياسي ديني ودنيوي، تقوم أُسسه على فكرة السيادة التي وضعتها الحداثة الأوروبية.


إذا ما أخدنا الخلافة كمفهوم مركزي لدى المسلمين عموماً والسلفية الجهادية خصوصاً، فإننا سنجد أنّ التقليد والحداثة متداخلان فيها، فالخلافة، حسب سلمان سيد5، ليست مجرّد تهديد ثقافي أو سياسي تجاه المركزية الغربية والكينونة البيضاء، بل هي أيضاً تحدٍ معرفي قادر على كسر المركزية الأوروبية ودعواها بالعالمية والخاتمية. ونتيجة ترتيباتها في البلدان المسلمة وتمكينها للذات المسلمة، يظهر أنها ستكون قادرة على تحرير الإسلام من الخطاب الغربي وعلى منح القابلية للثقافي الإسلامي كي يكون فاعلاً ومؤثراً في النظام العالمي. بالتالي، يمكن القول إن مشروع الخلافة المسلمة سيكون مشروعاً مفكّكاً للاستعمار بكافة صيغه، وكاسراً للهرمية التي يرأسها الغرب. فالتعارض بين المشروع الغربي والإسلامي، يُمكن أن يفهم على أنّه تعارض بين مُستَقبَلَين للعالم، أو
بين طريقتين في صنع العالم، وهذا بالتحديد ما يجعل المنافسة وجودية وشاملة إلى حدّ كبير.


عمِلتَ بمعيّة الباحث محمد أبو رمان على النسوية الجهادية في كتاب “عاشقات الشهادة: تشكلات الجهادية النسوية من القاعدة إلى الدولة الإسلامية” (فريدريك آيبرت، 2017). كيف يمكنك أن تشرح لنا التطور الذي حدث لدور النساء الجهاديات داخل التنظيم؟ وكيف يتصل هذا مع جاذبية التنظيم بالنسبة إليهنّ؟ خصوصاً أن معظم ما ينتج عن الأمر يبدو قطعة من صفحة المنوّعات والفضائح في الأخبار: نساء البغدادي، وجهاد النكاح وخلافه…


تتمتّع مسألة المرأة في العالم الإسلامي بنصيبٍ وافر من الاستيهامات الاستشراقية والثقافوية؛ فالثقافوية هي المقاربة الشائعة التي تحكم الدراسات والتحليلات بشأن العلاقات الجندرية غير المتكافئة بين السكان المسلمين. تُعزى عدم المساواة هذه، إلى صفة كراهية النساء المتأصلة في ثقافة المسلمين؛ وهنا ثمّة تطابق بين الثقافة والدين في حالة الإسلام. ومع سيادة حرب الإرهاب الأميركية، أصبح اللجوء إلى المناداة بحقوق النساء بوصفها حقوقاً إنسانية مبرراً للاحتلال كما حدث في أفعانستان، ثم العراق؛ وانخرطت النسويات الليبراليات في المشاريع الإمبريالية من خلال التبشير بمهمة إنقاذ النساء المسلمات، واستعدن دور النسوية الإمبريالية خلال عهد الاستعمار.


تقوم الصورة الاستشراقية الثقافوية النمطية عن النساء على الثيمات المؤسّسة لصورة الإسلام ذاتها، لكن بأشكال مضاعفة. لا تزال أبحاثُ النوع الاجتماعيّ (الجندر) في العالم العربيّ تركّز على أشكال “نموذجيّة” محدّدة من الجرائم النوعيّة، حسب جوزيف مسعد، فهي “تُجوهِرُ” ما تسمّيه “الذكورةَ العربيّة” و”الأنوثةَ العربيّة” بوصفهما مفهوميْن مجمَّديْن واضحَي المعالم. وتعدّ قضايا الحجاب، وجرائمُ الشرف، وختانُ النساء، من أهمّ “الجرائم” التي تُعرض في خطاب الظلم “الجندريّ”، سواء في وسائل الإعلام الغربيّة أو في الخطاب الأكاديميّ، وكأنَّها من “اختصاص” العرب والمسلمين. يضافُ أحياناً إلى هذه الجرائم العربيّة والمسلمة المزعومة مفهومُ “البطريركيّة” العربيّة أو المسلمة، و”خصوصيّةُ” التمييز ضدّ النساء اللواتي يعشن تحت وطأة “القانون الإسلاميّ”.

انخراطُ ومشاركةُ المرأة في الجماعات الجهادية، سواء كُنّ من العالمين العربي والإسلامي، أو من نساء الأقليات المسلمة في دول أوروبا وأميركا وغيرها من البلدان، شكّل ظاهرة محيّرة ومقلقة وجذّابة في ذات الوقت. إنّها ظاهرةٌ شوّشت الرؤية الاستشراقية والثقافوية، بعد أن شهدت عمليات استقطاب وتجنيد النساء في العراق وسوريا تصاعداً غير مسبوق. ظاهرة جعلت جون بول لابورد، رئيس المديرية التنفيذية للجنة الأمم المتحدة لمحاربة الإرهاب، يقول: “القضية الأولى التي أذهلت المحللين في فريقي، هي أن 550 امرأة أوروبية سافرن إلى مناطق خاضعة لتنظيم الدولة الإسلامية. كما أنّ النساء يُمثّلن في بعض الدول ما بين 20-30٪ من المقاتلين الإرهابيين الأجانب، فضلاً عن ازدياد عدد الفتيات الصغيرات اللاتي أقسمن الولاء لتنظيم الدولة على الإنترنت”.


يزول الذهول إذا ما تجاوزنا النظرة الاستشراقية الثقافوية للجهادية، فعلى مدى عقود شكّلت دراسة الجماعات الجهادية والجهاديين حقلاً من “البلبلة” والاضطراب والتشويش، حجبت محاولة فهم دوافع الجهاديين، والسعي للاقتراب من الأسباب والشروط والظروف الموضوعية السياسية والاقتصادية والاجتماعية لظاهرة التطرّف العنيف. استكانت معظم الكتابات إلى مقاربات أيديولوجية استشراقية وثقافوية مُختَزَلة. إذا كانت دراسة الجهاديين تعاني من سوء القصد والفهم، وتتلبّس بالأثر الاستشراقي، فإن دراسة الجهاديات تعاني من إساءة مضاعفة، كما ظهر جلياً في كتابنا الأخير بالاشتراك مع الصديق أبو رمان.


شكّلت المرأة المسلمة موضعاً وموضوعاً خصباً لأخيلة المستشرقين، ولطالما كان الجنس إحدى الخصائص المهمة المميزة لخيالات وبحوث المستشرقين، إذ أوضح إدوارد سعيد كيف أن المستشرقين وصفوا الشرق باعتباره “مؤنَّثاً، وثرواته خصبة، ورموزه الأساسية هي المرأة الشهوانية، والحريم، والحاكم المستبد ــ وإن كان يتميز بالجاذبية في الوقت نفسه”.


ساهمت الأجندة السلطوية الرثة، وهيمنة المقاربة الاستشراقية، في مضاعفة إشكالية فهم موقع المرأة في الإسلام عموماً، وفي الحركات الجهادية خصوصاً؛ إذ تعاظم حضور الصورة النمطية للمرأة الجهادية، واختُزِل دورها إما في اعتبارها ضحيةَ الجماعات الجهادية أو باعتبارها مُستغلَّة من طرف الجهاديين، وراجت أسطورة مشاركي النساء كعرائس ودمى للجهاد؛ وشاعت وانتشرت خرافة “جهاد النكاح”. تنطوي هذه التصوّرات على تحيّز مُشين، يستبطن ادّعاء أنّ الرجال مسؤولون عن أفعالهم، في حين أنّ النساء إما مشاركات رغماً عنهن أو أنهنّ ضحايا (يتم ربطهن بالأمومة). تُعزّز هذه الافتراضات، الأفكارَ المقولبة الخاصة بالجنسانية، ولا تعتبر النساء جهاديات نتيجةً لذلك؛ لكنّ الحقيقة أن معظم العوامل التي تدفع الرجال إلى أن يصبحوا جهاديين، هي ذاتها التي تدفع النساء إلى يكّن كذلك أيضاً.


إنّ إحدى القضايا التي دفعتنا لتتبع الجهادية النسائية، هي معرفة وتفهّم الأسباب التي تدفع فئات من النساء من كافة بلدان العالم إلى الانتماء إلى تنظيمات كالقاعدة وداعش، والقبول بالتضحية بكلّ شيء، على الرغم من الدعاية المهولة ضدّ الحركات الجهادية، التي تؤكّد على أنّ هذه الحركات تُؤسّس مجتمعاً بطريكياً لا مكان فيه للمساواة والحريات، والمواطنة الكاملة. إنّ مسارات تشكّل الجهادية النسوية، يُشير إلى  أن المسألة تتعلّق بفعل استعادة هوية إسلامية، وتأسيس ذاتية وكينونة مسلمة.

لهذه الأسباب، تناولنا في كتابنا مسارات التطوّر التاريخية، ونقاط التحول الرئيسية في أدوار المرأة داخل هياكل الجماعات الجهادية. لم تحظ مشاركة المرأة في تنظيم القاعدة باهتمام مؤسّس التنظيم أسامة بن لادن، ولا خليفته أيمن الظواهري، إذ تخلو خطاباتهم ورسائلهم من الحديث حول قضايا المرأة، وتقتصر مساهمتهم الفكرية على بعض التوجيهات النادرة بالتشديد على عدم مشاركة المرأة في الأعمال القتالية، والحفاظ على أدوارها التقليدية في رعاية المنزل وتربية جيل جهادي، باعتبارها قيمةً أساسية في الحفاظ على الهوية. لم بستدخل تنظيم القاعدة المركزي النساء في هياكله التنظيمية، رغم وجود حالات فردية لنسوة رغبن في الالتحاق والمشاركة والانتماء للتنظيم. لاحقاً، بدأت فروع التنظيم الإقليمية باستدخال المرأة بطرائق عديدة، في المجالات الدعوية والدعائية، خصوصاً في فرع التنظيم في جزيرة العرب بقيادة يوسف العييري، الذي أولى عناية خاصّة بالمسألة الإعلامية النسائية، ومشاركتهن في الأدوار اللوجستية كجمع التبرعات ورعاية أسر القتلى والسجناء.


يُمكن القول إن التطوّر البارز في أدوار المرأة، جاء عن طريق شبكة الزرقاوي التي أصبحت لاحقاً فرعاً للقاعدة في العراق، قبل أن تؤسّس “تنظيم الدولة الإسلامية”. عمل التنظيم على استدخال النساء في الأعمال القتالية، وصولاً إلى العمليات الانتحارية، وشهدت مشاركة المرأة في التنظيم طفرةً في عمليات تجنيد واستقطاب النساء، منذ سيطرته على مدينة الرقة السورية ومدينة الموصل العراقية عام 2014، وإعلانه قيامَ “الخلافة الإسلامية”. التحقت بالتنظيم مئات النساء من مختلف أنحاء العالم، إذ فرض توسّع التنظيم ضرورة استدخال المرأة في مجالات الصحة والتعليم والحسبة (الشرطة النسائية) وغيرها، ونشطت نساء التنظيم في مجال الدعاية والإعلام والتنظير الفقهي ومسائل الشريعة، وشارك بعضهن في الأعمال القتالية، خصوصاً العمليات الانتحارية.


ببساطة شديدة، حاولنا في الكتاب أن نتعرف على تطور الجهادية النسائية، والكشف عن دوافع الجهاديات، من خلال رؤيتهن وتعريفهن لأنفسهن، بعيداً عن الصور الاستشراقية والثقافوية النمطية الشائعة.


تذهب في كتاباتك مؤخراً إلى أن تنظيم  “داعش” انتقل من نموذج الدولة إلى نموذج حرب العصابات، وهذا يعني بشكل أو بآخر أنه ما زال قادراً على التكيّف مع شروط البقاء. إلى أيّة درجة تجد أن عودته إلى تصدّر المشهد مُمكنة؟

لا شك في أن تنظيم “الدولة الإسلامية” يعيش أوقاتاً صعبة، بعد خسارته كافة مناطق نفوذه وسيطرته في العراق وسوريا، ومن الصعب أن نشهد على المدى القريب والمتوسط عودة التنظيم لما كان عليه عام 2014. كانت تلك الحقبة استثنائية في تاريخ المنطقة، وسمحت بتمدد التنظيم لأسباب تتعلّق بالصراعات الجيوسياسية الدولية، والتنافس الإقليمي، والاضطرابات المحلية عقب الانقلاب على ثورات الربيع العربي، وعسكرة الاحتجاجات. لكنّ المؤكد أن تنظيم الدولة سوف يتصدر المشهد من خلال عملياته الانتقامية.

في هذا السياق، لا بدّ من التفريق بين مشروع “الدولة” وحالة “المنظمة”، فرغم طرد داعش من مناطق سيطرته الحضرية المدينية، إلا أنّه لا يزال يتمتع بقدرة على التكيّف مع التطورات. إنّ نهاية المشروع السياسي للتنظيم وحكامته، تُشير إلى نهاية مشروع “الدولة” ونظام “الخلافة”،  والعودة إلى حالة “المنظمة”، بالاعتماد على استراتيجية حرب العصابات، وهو ما أكّده منسّق الدبلوماسية الأميركية لمكافحة الإرهاب ناثان سيلز في وصف طبيعة الحرب ضد تنظيم “الدولة” حين قال إن “التنظيم يتأقلم مع انتصاراتنا”، مضيفاً “أعتقد أنّ ما نراه هو أن تنظيم داعش يصبح لامركزياً على نحو متزايد”.

تختلطُ، في مسألة حرب “الإرهاب”، الحقائق بالأكاذيب كما نعلم، إذ اعتدنا صدور شهادات وفاةِ الجهادية، ورغم أن الرئيس الأميركي دونالد ترمب هو الأكثر ادّعاء وتبجّحاً في زعمه القضاء على”إرهاب” تنظيم الدولة، إلا أنّه لم يكن الوحيد في هكذا دعوى. فمنذ أن دشّنت الولايات المتحدة سياسة “الحرب على الإرهاب” عقب هجمات 11 سبتمبر/أيلول، كان الهدف المُعلن يتمثّل في القضاء على تنظيم القاعدة، وهزيمة الحركات الجهادية العالمية العابرة للحدود التي تُسانده، وأعلن جورج بوش الإبن مراراً هزيمة الإرهاب والقضاء عليه، وكذلك فعل خلفه باراك أوباما، فيما أصدرت الإدارات المتعاقبة شهادات وفاة عديدة للجهادية العالمية. على الرغم من ذلك، سرعان ما كانت تكشف نتائج الحرب على الإرهاب عن فشل ذريع، وولادة نسخ جهادية أكثر صلابة وأشدّ فتكاً وأوسع انتشاراً.

لم تُسفِر جهود الحرب على الإرهاب عن حرمان الإرهابيين المفترضين من ملاذات آمنة، ولا تمكّنت من حصارهم وتجفيف مصادر تمويلهم وتدمير أيديولوجيتهم الخطابية ودعايتهم الإلكترونية. بدا ذلك واضحاً مع تخبط قرارات الانسحاب من أفغانستان؛ البلد الذي شهد أولى غزوات “حرب الإرهاب” نهاية عام 2001، إذ أصبحت عودة حركة طالبان وحلفائها من التنظيمات الجهادية والقاعدة مسألة وقت لا أكثر. كما أن نتائج غزو العراق عام 2003، تحت ذريعة “الحرب على الإرهاب”، ثم قرار الانسحاب عام 2011 بدعوى القضاء على تنظيم “دولة العراق الإسلامية”، بدت  كارثية مع سرعة صعود تنظيم “الدولة الإسلامية” وتمدّده وسيطرته على مساحات واسعة في العراق وسوريا، وإعلانه تأسيس دولة “الخلافة”. إذا كانت قرارات الانسحاب من أفغانستان والعراق بالأمس، قد تمتّعت بنوع من ادعاءات النصر وهزيمة الإرهاب دون جدل كبير، فإن قرار ترمب الانسحاب من سوريا وادعاءه هزيمة الإرهاب لا يتمتع بالقبول، ويوصف بالكارثي حتى من قبل مستشاري ترمب نفسه.

حينما أعلن ترمب الانسحاب من سوريا العام الماضي، علّل قراره بهزيمة “داعش”، لكن “معهد دراسات الحرب” الأميركي نشر تقريراً في نفس اليوم جاء فيه: “لم تهزم الولايات المتحدة وحلفاؤها “داعش” في العراق أو سوريا”، وأشار إلى أن جيوب التنظيم قادرة على لملمة نفسها مرة أخرى، إذ لا يزال آلاف المقاتلين موجودين في مناطق متفرقة من البادية السورية والقرى، بالإضافة إلى وجود شبكة لسيطرتهم من خلال طرق وأنفاق تمتد لأطراف المدن السورية أيضاً. يتراوح عدد المقاتلين التابعين للتنظيم ما بين 20 إلى 30 ألف مقاتل، حسب تقديرات البنتاغون ومركز الدراسات الاستراتيجية والدولية، الذي يشير إلى أن هذا العدد لا يشمل المقاتلين الموجودين في مغارات أفغانستان، أو أدغال النيجر ومالي، أو صحراء سيناء في مصر، أو المناطق الخارجة عن القانون في اليمن وليبيا، ومناطق أخرى عدة  فيها فروع للتنظيم.

ورغم تعرّض تنظيم الدولة لانتكاسة كبيرة في العراق وسوريا، إلّا أن خريطة نشاطه وانتشاره تتوسع في مناطق وبلدان عديدة. يتمتّع التنظيم بحضورٍ كبير في أفغانستان، الأمر الذي دفع بالولايات المتحدة إلى التفاوض مع حركة طالبان، ولا يزال التنظيم  يشن الهجمات في شبه جزيرة سيناء المصرية، ويحافظ على قدرته التشغيلية في جنوب شرق آسيا، وفي وسط آسيا، وفي اليمن، وتعتبر القارة الأفريقية ساحة بديلة للتنظيم مع إصراره على تعدّد الجبهات والملاذات. ما يزال تنظيم الدولة يعمل بفعالية كمنظّمة، ويتوفّر على جاذبية أيديولوجية، وقدرة تمويلية، ويجد ملاذات عديدة وحواضن اجتماعية.

يستثمر التنظيم في ساحات متنوّعة، وفق مبدأ تعدد الملاذات، ذلك أن قوّته تنبع من أسباب موضوعية أكثر منها ذاتية. يمثّل التنظيم انعكاساً لفشل الدولة الوطنية، وسوء الحوكمة، وسيادة منظومة الفساد والاستبداد، فتنظيم “الدولة” في نهاية المطاف تعبيرٌ أيديولوجي عن هذا الواقع الجديد، الذي شهد انقلاباً على ثورات الربيع العربي، وكان نتيجة تقاطع جملة من الشروط والعوامل، بدءاً من الانتشار الكارثي للطائفية، مروراً بتفشّي القمع المدمر في سوريا والعراق، وصولاً إلى صراع المصالح المحموم في “الشرق الأوسط” بين القوى الإقليمية والعالمية المختلفة.

السّلفية الجهاديّة وعلاقتها بفلسطين

في اعتقادك، لماذا لم تنجح السلفية الجهادية في إيجاد موطئ قدم لها في فلسطين؟ ظهرت بعض التشكيلات هنا وهناك، تحديداً في قطاع غزة، إلّا أنها لم تنتشر، ولم تجد قبولاً في المجتمع الفلسطيني، لماذا برأيك؟

لم تنجح السلفية الجهادية في فلسطين، على الصعيد العملياتي، في خلق ملاذات وحواضن اجتماعية ضرورية، وامتلاك قدرة تشغيلية لشن حرب عصابات، رغم أن فلسطين قضية أساسية وثابتة في الأيديولوجيا الخطابية للجهادية العالمية، وعلى الرغم من خصوصية فلسطين كبلد يعاني من أبشع أنواع الاحتلال الاستيطاني الكولونيالي المُسند من قوى إمبريالية عالمية. فرضت هذه الخصوصية على الأطروحة الأيديولوجية للقوى المحلية الفلسطينية، أولوية تثبيت القومية الفلسطينية كهوية لمناهضة الاحتلال، وإزالة الحالة الاستعمارية وتفكيكها، على خلاف الأطروحة الجهادية التي تعطي الأولوية لتأسيس ذاتيّة إسلامية مُستَلَبة في سياق الدولة القومية ما بعد الكولونيالية.

كان بناء وتثبيت هوية دينية إسلامية أولويةً لدى الاتجاهات الفلسطينية الإسلامية، باعتبارها خطوة تسبق الجهاد والقتال. ركّزت الخطابات الإسلامية على إسلامية فلسطين، ورمزية القدس والمسجد الأقصى والمقدّسات التاريخية، جاعلةً من المسألة الفلسطينية قضية إسلامية مركزية. بهذا، أصبح الحفاظ على الهوية الإسلامية لفلسطين أولوية، بانتظار جحافل الجهاد في إطار تصورات التضامن الإسلامي، وصولاً إلى تحقق حلم “الخلافة” الإسلامية كهوية سياسية تعبر عن كينونة الأمة.

في هذا السياق، جاءت مشاركة “الإخوان المسلمين” في حربي عامي 1948 و1967، ضمن أطروحة الجهاد التضامني، ثم لحقتها تجربة “قواعد الشيوخ” في الأردن عام 1970، التي سرعان ما انتهت لأسباب عملية: خروج المقاومة من الأردن عام 1971. غلب تيّار الهويّة الإصلاحي داخل الإخوان، وهو تيار تبنّى تأجيل الجهاد بحجة الإعداد، بينما تبنت الحركات الوطنيّة الفلسطينية “العلمانيّة” كـ”حركة فتح” و”الجبهة الشعبيّة” وغيرهما، نهجَ الكفاح المسلّح، لا سيّما في أعقاب هزيمة يونيو/ حزيران 1967.

علمانيّةُ “فتح” علمانيةٌ مشتبهة، مثل علمانية الدول العربية، لذلك تمتعت بدعم الأنظمة العربية التي تشبهها، في إيمانها بمنظورات الدولة الوطنية. غير أن “فتح” اعتبرت فلسطين قضيةً عربية مركزية، وبهذا كانت أيديولوجيتها خليطاً من القومية والإسلامية. لهذا السبب، التحق بصفوفها مبكراً الإسلاميون الرافضون لأطروحة تأجيل الجهاد والعمل المسلح، وهكذا استوعبت “فتح” أطياف “الجهاديّة الوطنيّة” الفلسطينيّة التي تعود جذورُها إلى مرحلة الانتداب البريطاني.

في عالم الدولة القومية، يجلب مفهوم الدولة/ الأمة على أي حركة تناهض أسسه وصمة “الإرهاب” العابر للحدود. اعترف العالم بالمستعمرة الاستيطانية الإسرائيلية كدولة قومية على حدود عام 1948 على الأقل، فسلّمت حركة “فتح” بمرجعيات الأمم المتحدة وقراراتها، وهو ما سيفضي بها لاحقاً إلى التسليم بمنظورات “حل الدولتين” منذ عام 1974، وبما سمي “البرنامج المرحلي” الذي تبناه المجلس الوطنيّ الفلسطينيّ، وصولاً إلى مسارات أوسلو.

تُفسّر الحالةَ الفلسطينية، بوصفها دولةً تحت الاحتلال، منظوراتُ الحلّ القومي والحلّ الإسلامي والحلّ القومي-الإسلامي. تصارعت هذه الحلول، ولا تزال، على معجم شرعية التمثيل الفلسطيني إلى حد الانقسام والاقتتال، كما حدث بين “حماس” القومية-الإسلامية، و”فتح” القومية، وكلاهما يناهض “السلفية الجهادية” الإسلامية حدّ نعتها بـ”الإرهاب”، وإدانتها كحركة تخريبية غير وطنية “عميلة”، ومقاومتها بكافة الأسلحة الممكنة.

في الحالة الفلسطينية المعقّدة، تُشكّل استراتيجية التحرير أولويةً على حساب مسألة الهوية، في حين تقوم السلفية الجهادية على استعادة الهوية كفعلِ تحرير. حسب منظورات السلفية الجهادية، فإن قضية تحرير فلسطين هي في صلب تحرير العالمين العربي والإسلامي، فإذا كانت فلسطين محتلة من قبل نظام استعماري، فإنّ العالمين العربي والإسلامي يخضعان كذلك لنظام ما بعد استعماري. لذلك، تبنت الجهادية العالمية نهجاً رادريكالياً يناهض هذه الأنظمة باعتبارها “العدو القريب” الذي يتواطؤ مع “العدو البعيد” الذي تمثله المستعمرة المسماة “إسرائيل”، وهو ما يستدعي مناهضة “العدو الأبعد” المتمثل في أميركا خصوصاً والغرب الإمبريالي عموماً الذي يسند العدوين القريب والبعيد.

لم تنجح السلفية الجهادية في تأسيس هياكل تنظيمية متينة في فلسطين، لكنّها نجحت في بناء سردية جهادية عالمية حول فلسطين، إذ ساهم المكوّن الفلسطيني الإسلامي في الشتات، في تشكيل وبناء الجهادية العالمية. من الأمثلة على ذلك، تدشين عبد الله عزام،  مستنداً على مبدأ “الجهاد التضامني”، شبكة جهادية عالمية غايتها تحرير فلسطين، وتدشين صالح سرية باكورة الجهاد العالمي في مصر عبر مدخل قتال “العدو القريب”، عندما أسّس جماعة جهادية باسم “شباب محمد” عام 1974 (عُرفت باسم “الكلية الفنية العسكرية”).

في سياق الجدل حول أولويات الحركة الجهادية، ترسّخت فكرة العدو القريب عقب توقيع اتفاقية السلام بين مصر و”إسرائيل” عام 1979، وظهرت “جماعة الجهاد” في مصر التي اغتالت أنور السادات. في المقابل، كانت نشأة “حركة الجهاد” في فلسطين أواخر السبعينيات نتيجة الحوارات والجدل بين قادة “الجهاد” المصرية أمثال محمد عبد السلام فرج، وبين مجموعة من الشباب الفلسطيني، أثناء وجودهم في مصر للدراسة الجامعية، على رأسهم فتحي الشقاقي وعبد العزيز عودة، اللذان اعتقلهما الأمن المصري نتيجة علاقتهما بـ”حركة الجهاد” المصرية. عبّرت أولويات الشقاقي وعودة عن نفسها، خلال تأسيسهما “حركة الجهاد” الفلسطينية، بأولوية المباشرة بقتال “إسرائيل” كعدو بعيد، بينما أصرّت قيادة “الجهاد” المصرية على قتال العدو القريب. لخّص محمد عبد السلام فرج نظريته في كتاب “الجهاد: الفريضة الغائبة“، فيما كتب الظواهري مقالة بعنوان “الطريق إلى القدس يمر عبر القاهرة“، قال فيها إنّ “المعركة في فلسطين والجزائر والبوسنة والشيشان معركةٌ واحدة تدور على جبهات مختلفة. وإن المعركة في فلسطين، بميزان الأسباب، لن تحسم ولن تفتح القدس إلّا إذا حسمت المعركة في مصر والجزائر، وإلا إذا فتحت القاهرة”.

ففي الوقت الذي كانت فيه القضية الفلسطينية تتراجع لدى الأنظمة العربية عن كونها قضية العرب المركزية، وتحوّلت إلى مسألة هامشية مع تعاظم النزعة القُطرِية ودخول العرب في سباق السلام الإسرائيلي، كانت الجهادية العالمية تُعيد تأسيس المسألة الفلسطينية، وتعمل على بناء سردية قتالية محورها فلسطين. غدت فلسطين في صلب المشروع الجهادي العالمي منذ بداياته الأولى في أفغانستان، وفي مرحلته الثانية، احتلّت موقع القلب عبر الإعلان عن تشكيل “الجبهة الإسلامية العالمية لقتال اليهود والصليبيين” في فبراير/شباط 1998. في أعقاب هجمات 11 سبتمبر/أيلول، أطلق أسامة بن لادن قَسَمَه الشهير عن فلسطين: “أقسم بالله العلي العظيم، لن تنعم أمريكا، ولا من يعيش في أمريكا، بالأمن حتى نعيشه واقعاً في فلسطين، وحتى تخرج جميع الجيوش الكافرة من أرض محمد صلى الله عليه وسلم”.

تطوّرت السردية الجهادية العالمية الخاصة بفلسطين مع ولادة الجيل الثالث عقب الاحتلال الأميركي للعراق عام 2003، وباتت عبارة أبو مصعب الزرقاوي الشهيرة، والتي وردت في خطابه المرئي الأول “هذا بلاغ للناس”: “نقاتل في العراق وعيوننا على بيت المقدس”، ثيمةً راسخة في خطابات الجهادية العالمية. ففي خطاب الإعلان عن تأسيس “قاعدة الجهاد في جزيرة العرب” بعد اندماج الفرعين السعودي واليمني بداية 2009، كان عنوان الشريط الذي صدر عن مؤسستها الإعلامية “الملاحم”: “من هنا نبدأ، وفي الأقصى نلتقي”، كما أنّ الأشرطة المرئية لمؤسسة “السحاب” التابعة لـ”تنظيم القاعدة” المركزي، شهدت تغيّراً في توجّههاً منذ العدوان على غزة عام 2009، وأصبحت تضع صورة المسجد الأقصى خلفيةً لبداية أشرطتها، وكذلك فعلت كافة الفروع الإقليمية، كـ”قاعدة المغرب الإسلامي”، ومؤسستها الإعلامية “الأندلس” التي ظهرت في أشرطتها منذ عام 2009 قبة الصخرة في البداية كخلفية، يرافقها نشيد “عذراً فلسطين”.

في سياق تأسيس الجهادية العالمية، كانت فلسطين المحرك الأساس منذ البداية، ولا غرابة في كون أبرز المنظرين الجهاديين من أصول فلسطينية، إذ يعتبر صالح سرية من أوائل الفلسطينيين الذين آمنوا بالنهج الجهادي العالمي. أسّس سرية تنظيم “الفنية العسكرية”، وتمّ القضاء عليه عام 1974 وانتهى بإعدامه. كان يهدف التنظيم إلى قلب نظام الحكم، باعتباره خطوة على طريق تحرير فلسطين، وفق رؤية تقوم على الاعتقاد بأولوية قتال “العدو القريب” مُمثّلاً بالأنظمة العربية التي تحول دون قتال “العدو البعيد” ممّثلاً بـ”إسرائيل”، وتطوّر ذلك مع فلسطيني آخر: محمد سالم الرحال، الذي ساهم في تأسيس فكر حركة “الجهاد” في مصر.

ويعتبر الفلسطيني عبد الله عزام الأب الروحي للجهادية العالمية، ومؤسس ظاهرة “الأفغان العرب” إبّان حقبة الجهاد الأفغاني في الثمانينيات، وطارحَ مشروع “الجهاد التضامني” الذي ينتهي بتحرير فلسطين. بعد وفاته، تولى تطوير أطروحات الجهاد العالمي اثنان من فلسطينيي الشتات: عصام البرقاوي الملقّب بأبي محمد المقدسي، وعمر محمود أبو عمر الملقّب بأبي قتادة الفلسطيني؛ اللذان طوّرا مفهوم الجهاد وقتال العدو الأبعد ممثّلاً بالولايات المتحدة وحلفائها من الأنظمة العربية، كطريق لتحرير فلسطين.

عقب اكتمال السردية الجهادبة العالمية، وفي صلبها القضية الفلسطينية، برزت محاولات عديدة لتأسيس هياكل تنظيمية في فلسطين، خصوصاً في قطاع غزة. ظهرت جماعة “جند أنصار الله” عام 2009، التي سُحقت بعنف على يد حركة “حماس”، ثم برز “مجلس شورى المجاهدين” في يونيو/حزيران 2012، وهو عبارة عن ائتلاف يضمّ العديد من التنظيمات الجهادية التي ظهرت منذ سيطرة “حماس” على غزة عام 2007، ثم انتشرت في سيناء، ومن أهم مكوناتها: “جيش الإسلام”، و”جيش الأمة”، و”جماعة التوحيد والجهاد”، و”جند أنصار الله”. قبل ذلك، ظهرت جماعة “أنصار بيت المقدس” إلى العلن في فبراير/شباط 2011، وهي جماعة جهادية عالمية نفّذت عدة عمليات ضد مصر و”إسرائيل”. يضاف إلى ذلك “لواء التوحيد” التابع لـ”ألوية الناصر صلاح الدين”، و”كتائب عبد الله عزام”. ومع تصاعد قوّة تنظيم داعش، ظهرت مجموعات صغيرة، وخلايا فردية عديدة توالي التنظيم، وتحولت “أنصار بيت المقدس” إلى “ولاية سيناء” التابعة لداعش.

أفضت التحولات التي عصفت بالمنطقة عقب ثورات الربيع العربي، إلى تنامي أيديولوجيا الجهادية العالمية وتزايدت جاذبيتها، في وقت باتت فيه الحركات الوطنية الفلسطينية القومية من أنصار “السلام” تعيش أسوأ أوقاتها، وفي الوقت الذي تعيش فيه الحركات الوطنية-الإسلامية من أنصار المقاومة أحرج لحظاتها. في هذا الوضع، تعاظمت التحذيرات من دخول الجهادية العالمية إلى فلسطين، فعقب سلسلة من المؤتمرات الإسرائيلية التي جرت عام 2014، اعتبر العديد من المسؤولين في المؤسسة الأمنية الإسرائيلية أنّ الجهادية العالمية باتت مشرفةً على الحدود الإسرائيلية، وأصبحت تشكّل تهديداً جديداً قد يفوق تهديد المسألة النووية الإيرانية، وبدأت تتحوّل الجهادية إلى التهديد الأمني الأول للبلاد. علّق أفيف كوخافي Aviv Kochavi، رئيس شعبة الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية آنذاك، في أحد المؤتمرات بالقول إنّ الجهادية العالمية “قد تكون الظاهرة الأكثر إثارة للقلق”، والتي ستضطرّ “إسرائيل” إلى مواجهتها في المستقبل القريب.

الصوفيّة وإمكاناتها اليوم

كان التصوّف أحد المواضيع التي قاربتها في كتابك “الطرق الصوفيّة: دروب الله الروحيّة، التكيف والتجديد في سياق التحديث” (فريدريك أيبرت، 2011). تناولت في كتابات أخرى تجربة طه عبد الرحمن في هذا السياق، هل تظن أن ثمة إمكانية لإعادة توليدِ صوفيةٍ معاصرةٍ قادرةٍ على مواجهة ظاهرتي “التجفيف الروحي” و”الانسحاب من السياسي” في آن واحد؟

من المؤسف ما آل إليه التصوّف، وما تعرض له، فالتصوّف الإسلاميّ يُمثِّلُ ظاهرةً تاريخيّةً فريدةً وهامّةً ممتدة في التاريخ الإسلاميّ، تجلّت كحركة روحيّة عبر القرون. بدأت هذه الحركة الرُّوحية فى القرن الأول الهجريّ مع حركة العباد والزهاد الأوائل من أمثال الحسن البصري وغيره، ثمّ نمت وتطورت فى القرنين الثاني والثالث الهجريين مع التعمق في خبرة الحب الإلهى مع أمثال رابعة العدوية البصرية، وفي فكرة الفناء والبقاء مع أمثال الجنيد، ثمّ بلغت آخر المطاف  في مأساة الحسين بن منصور الحلاج، والتي تُمثل فى التاريخ الإسلامي أحد مظاهر التوتر والتصادم بين حركة الفقراء (المتصوفة) وعالم الفقهاء (المتكلمين). اتخذ التصوّف بعدها مسارين اثنين: الأول عُرِف بالتصوف السُّنيّ فى القرنين الرابع والخامس الهجريين وما بعدهما، حيث اجتهد أصحابه، من أمثال الإمام أبى حامد محمد الغزالي وغيره، فى إيجاد صيغة توافقٍ مُقنعٍ بين الخبرة الصوفيّة الباطنة وظاهر الشريعة الإسلاميّة، وأَنْتَجَ هذا الاتجاهُ مصنَّفاتٍ صوفيّةٍ عظيمة معروفة،  أمثال “الرسالة القشيرية” للإمام أبى القاسم عبد الكريم القشيري ، و”إحياء علوم الدين” لأبى حامد محمد الغزالى، وهو يمثل قمة التصوف السني؛ والثاني: فلسفيّ توغل فى مجالاتٍ أكثر نظرية، تمثّل بأصحاب مدرسة “وحدة الوجود” فى القرنين السادس والسابع الهجريين وما بعدهما، أمثال محيى الدين بن عربي وغيره. فقد اجتهد هؤلاء فى إيجاد صيغة توفّق بين التصوف وبين ما يسمى”باطن الشريعة الإسلامية”، بمعناها العميق ومقصدها الأعلى، وقد أنتج هذا التيار مصنَّفات صوفية عظيمة متشبعة بنظريات فلسفية فريدة عميقة مبدعة. منذ القرن السادس الهجري/ الثاني عشر الميلادي فصاعداّ، تطوّرت حركة التصوف وتوسعت فيما يُعرَف بظاهرة الطرق الصوفية، التى ازدهرت وانتشرت فى العالم الإسلامي حتى الوقت الراهن.

ثمة بصيص من النور بدأ يسطع بإعادة النظر في التصوّف، ورد الاعتبار للصوفيّة كمنهج للنظر والممارسة، فقد  تعرض التصوّف في سياق جدل العلاقة بين التراث والحداثة لهجومٍ كاسحٍ من ممثلي الثقافة العربيّة الحديثة والمعاصرة؛ الشيخ، والليبرالي، وداعية التقنية، حسب عبدالله العروي في مؤلفه “الإيديولوجيا العربية المعاصرة”. حدّد العروي المسار التاريخي الغربي باعتباره السبيل الوحيد للوصول إلى الحداثة التي دشنها عصر التنوير الأوروبي، حيث باتت مفاهيم مثل “العقل”  و”العقلانية”، و”العلم”، و”العلموية”، و”العلمانية”، و”النور” و”الظلام”، حاكمة في دراسة التصوف، الذي بات يكافئ “الخرافة” و”السحر” و”الظلامية”، وقد سلّم ممثلو الثقافة العربية بضرورة الخروج من تقاليد العالم المسحور حسب ماكس فيبر للدخول في أفق الحداثة والعقلانية، دون الالتفات إلى الأدبيات التي تنظر إلى التنوير باعتباره أسطورة كما يرى ثيودور أدورنو وماكس هوركهايمر.

مع سيادة أساطير التنوير وتفشي العلموية بصيغتها الوضعانية المتطرفة، تعرضت الصوفية من قبل ممثلي الثقافة العربية لعملية تدمير لا نظير لها، فقد حُمّل التصوّف أسباب التخلف والتأخر والهزيمة التي تعرّضت لها الأمة من قبل الحملات الأوروبيّة الاستعماريّة، وقد عزز ذلك أن بعض الطرق الصوفية تعاونت مع الإدارات الكولونيالية، رغم أن بعضها الآخر قد قاوم الاستعمار، كما أن التصوف كان قد دخل في طور من الجمود على الرسوم والطقوس وعبادة الأولياء في سياق سسيولوجيا التحولات. تواطأ مختلف الفرقاء والأضداد من الليبراليين والقوميين والسلفيين، ثم تبعهم اليساريون على حمل معاول هدم التصوف، بحجة إنقاذ العقل وإحياء العقلانية، دون فحص لماهية العقل والعقلانية، فالشيخ السلفي نظر إلى الصوفية كمؤسسة وافدة هدامة تروم نشر البدع والخرافات والشرك والكفر لتقويض الإسلام والعالم الإسلامي من الداخل، وهو ما أكد عليه الليبرالي وداعية التقنية؛ وهكذا أصبح التصوف يكافئ “العرفان” و”الغنوصية” والاستقالة والانسحاب من العالم.

يمكن القول إنّ دخول عصر ما بعد الحداثة التي شكّكت في السرديات الكبرى للحداثة وأساطيرها الكبرى، أفسح المجال لإعادة النظر في التصوف، فقد بات مفهوم الاختلاف راسخاً، وسادت سياسات الاعتراف والتعددية الثقافية على حساب سياسة الهوية وخطابات المركزيّة الأوروبيّة، وبتنا نشهد احتفاءً بالخطاب الصوفيّ وفلسفة التصوّف.

أعاد علي حرب مثلاً  النظر في الخطاب الصوفيّ، وأخذ يتعامل معه كخطاب تنويري متفجّر بالدلالات في التراث الإسلامي، ليس لأنه يمثل رؤية مبكرة في انزياح الدلالة وانزلاق المعنى، أو لأنه يفتح مجال المقدس على مصراعيه ليحتضن قراءات متضادة، أو لأنه يوحي باختلاف الشيء في ذاته عنه كمدرك ليدشن لإمكانات تأويلية مفتوحة وثرية، ليس لهذه الأسباب وحسب، بل لأنه وبالدرجة الأساسية سعى إلى أنسنة الدين والغيب، فكان وباميتاز تجلياً مشرقاً لأنسنة مبكرة وفلسفة وجودية قبل وجودية سارتر وهايدغر ورؤية هرمونوطيقية قبل بول ريكور وفلسفة التأويل المعاصرة.

حسب حرب: “النص الصوفيّ هو خطاب مدهش في غناه المفهومي والنظري. ولهذا، فإننا إذ نعيد قراءة هذا الخطاب لا ننظر إليه على نحو تبسيطي فنرى فيه خطاباً مضاداً للتنوير، بل نتأمله ونعيد فهمه وننظر إليه بوصفه خطاباً وجودياً بالمعنى الهايدغري للكلمة، أي ننظر إليه بوصفه دعوة إلى عدم نسيان الوجود وبوصفه تأكيداً على أن المعرفة هي في أصلها حدس وانكشاف، فالإنسان يوجد ثم يفهم… كما يقول بول ريكور شارحاً هايدغر”.

وكان عبد الرحمن البدوي قد قارب التصوف كخطابٍ مُنتِجٍ، وأقام تماثلاً بينه وبين الوجودية، خاصّةً التصوف الغنوصي الذي يُعطي الأولوية لتحقيق الخلاص إلى المعرفة على حساب الإرادة أو الحبّ أو السلوك، فقد سعى البدوي إلى معرفة الذات من خلال الآخر الذي عرف الحلاج أول ما عرفه كوجودي. أكثر من ذلك، من اللافت أن تترادف في لغة الآخر كلمة تصوف مع كلمة إلحاد أو عدم، ومعرفة الذات لا تتأتى إلا من خلال معرفة الآخر، والمقارنة هي السبيل الأنجع والأقصر للمعرفة، من هنا شبّه عبد الرحمن البدوي تجربة الحلاج بتجربة كيركيغارد واعتبره وجودياً صرفاً.

في هذا السياق أخذ النظر إلى التصوف يتبدل. وعلى خلاف الشائع لدى السلفية المعاصرة فقد كان ابن تيمية كما بيّن جورج مقدسي من أتباع الطريقة القادرية، واتخذ موقفاً انتقاديّاً وسطاً من التصوف يستند إلى التفريق بين صوفيات عديدة، فهو يقول عقب بيان أصول الصوفية الزهدية التعبدية الأخلاقية: “صارت الصوفية ثلاثة أصناف: صوفية الحقائق، وصوفية الأرزاق، وصوفية الرسم”.

إذا كان “التصوف هو الخُلُق” حسب عبارة ابن قيّم الجوزية،  وكما يشدد الإمام محمد الباقر بقوله “التصوف خلق، فمن زاد عليك في الخلق زاد عليك في التصوف”، فلا شك أن الفيلسوف المغربي طه عبد الرحمن، أستاذ المنطق وفلسفة اللغة، هو فيلسوف الأخلاق دون منازع، وقد عمل على تشييد مشروع فكري وضعه في مصاف الفلاسفة الكبار عالمياً، حيث ناهض القراءات الحداثية المقلدة على كافة الجبهات، وأسس لحداثة إسلامية بديلة؛ كما تتمتع التجربة الروحية في حياته الشخصية بأهمية فائقة، فهو من علماء الطريقة القادرية البودشيشية.

وقد ارتبط  التصور الأخلاقي لطه عبد الرحمن، بتجربته الروحيّة ومنهجه المعرفي العقلي، ذلك أنه وسّع من مفهوم العقل الذي قصرته الحداثة على العقل “المجرد” ليشمل العقل “المسدد” والعقل “المؤيد”، فالعقل فعالية وليس جوهراً. وقد عمل طه عبد الرحمن على تفكيك ثنائية الشريعة/ الحقيقة التي شكلت الأساس الذي اختلفت فيه الصوفية مع الفقهاء تاريخياً، إذ تبنى الفقهاء لمنهجٍ استنباطيّ في تقرير الأحكام الشرعية وتطبيقها والعمل بمقتضاها لا يتجاوز حدود الظاهر، بينما انتهجت الصوفية مسلكاً يقوم على البحث عن الباطن مع حفظ الظاهر.

اشتغل طه عبد الرحمن بعناية فائقة وبمنطق محكم من أجل الدعوة إلى أخلاق عالمية تستند إلى الإسلام، وبهدف تجديد الفكر الديني عن طريق عمليات نقدية مبتكرة للمعرفة الفلسفية والعلمية، حيث ينطلق من نقده للعقل المجرد ويصله بنقده للنظام العلمي التقني للحداثة والعولمة، ويعيد الاعتبار للمقوّم الأخلاقي باعتباره ما يكون به الإنسان إنساناً وهذا المقوم يكافئ “العقل المؤيد” عنده. أما العقلانية التي انتصر لها دعاة الحداثة فهي تكافئ “العقل المجرد” وهو العقل الوضعي والعقل التاريخي الذي لا يملك اليقين بنفع لا ضرر فيه، ولا بصواب لا خطأ معه، ويفتح المجال واسعاً لأخلاق العمق في مقابل أخلاق السطح، من أجل الارتقاء بالإنسان إلى طلب اللامتناهي.

ويشدِّدُ عبد الرحمن على الربط بين الأخلاق والدين باعتبارهما أصل الأصول والمبدأ الأكبر الموّجِه لمختلف المعايير المستخدمة في نقد أصول الحداثة، التي تستند إلى العقلانية المجردة بمظاهرها المتمثلة في سيادة سلطان القول ونمط المعرفة والنظام التقني وتجدد الهوية المنتظر. وتنبني وحدة الدين والأخلاق على تصور للدين يتجاوز البعد الشعائري وينشد سلوكاً دينياً تكون الشعائر فاعلة فيه وفق معانيها الخفية. وفي سياق نقده للعقلانية المجردة والمسددة، يدافع عن العقلانية المؤيدة التي تسلم بوصل القول والفعل وعدم انفصال المعرفة بالله عن العلم بالأشياء، وتؤمن بعدم انفكاك الزيادة بالمعرفة عن الفائدة، وهي المرتبة الأسمى من العقلانية التي تمكّن صاحبها من تلقي الخطاب القرآني باعتبار أن معانيه تتجاوز الرسوم، لأنها مودعة في نفس المتخلق وفي العالم من حوله، وتجعله قادراً على تحمل الرؤيا التي لا تنقطع وذلك عن طريق الاشتغال بالله و التعامل مع الله. هذه الخاصية الجوهرية للفعل الإنساني؛ والمتخلق بالدين هو وحده من يتمكن من الارتقاء من رتبة العقلانية المجردة إلى رتبة العقلانية المسددة بأحكام الشريعة ثم الوصول إلى رتبة العقلانية المؤيدة. وبهذا يصبح صاحبه مالكاً للعقل الكامل الذي يجعله يدرك ما لا يدرك غيره ويصيب حيث لا يصيب.

في رأيي فإن مشروع طه عبد الرحمن قد شكّل انعطافة فارقة في تاريخ الفكر العربيّ الحديث، فقد امتاز منهجه النقدي بالتكامل والشمول، في مواجهة منهج يقوم على التفاضل والتجزيء، حيث كان الفكر العربيّ المعاصر بجناحيه السلفي والليبرالي، يموضع التراث الإسلامي على سرير الحداثة الأوروبية من خلال نهج أدلجة التراث وتقطيعه وتكييفه، باستحضار نهج برهاني رشدي، واستدعاء روح مقاصدية شاطبية، فضلاً عن خلدونية تاريخية معقلنة، في محاكاة بليدة لإبداعية أنوارية مقلدة، بتقطيع ممثلي التراث وتوطينهم في جزر متخيلة من البيان والعرفان والبرهان، رغم بداهة كون هؤلاء جميعاً يسكنون في عالم فسيح من هذه الجزر.

التراث وموجات التجديد

شهدت فترة السبعينيات وما بعدها ازدهاراً لكتابات “تجديد التراث”، تلك المحاولات التي انشغلت بتبرير أنفسنا أمام الحداثة الغربية. اليوم انحسرت هذه الموجة وحلّت مكانها كتابات نقد الدولة الحديثة والاستشراق بمقاربة ما بعد كولونيالية (كما في كتابات وائل حلاق وجوزيف مسعد وغيرهم)، كيف تجدون هذا التحوّل ولأي درجة هو تحوّل مفيد في التعامل مع تراثنا؟

شكّلت هزيمة العرب أمام “إسرائيل” في حرب عام 1967 صدمة حضارية، أو”رضة” نفسية بحسب تعبير جورج طرابيشي؛ وبدلاً من البحث عن أسباب سياسية وعسكرية موضوعية للهزيمة، انخرط المثقفون العرب فيما اعتقدوا أنّه السبب العميق وراء الهزيمة ممثلاً بالعقل التراثي وثقافة المجتمع، وليس بعقم الدولة الوطنية ما بعد كولونيالية وفشل أجهزتها القمعية والإيديولوجية. هكذا بدأت رحلة استكشاف جديدة للتراث والحداثة من طرف الليبراليين والماركسيين وصولا إلى القوميين فالإسلامييين، حيث أصر الإسلاميون على أن سبب الهزيمة هو الابتعاد عن الدين الإسلامي بوصفه “التراث” الذي تجب العودة إليه، بينما شدّد الطرف العلماني على ضرورة صياغة منهج تأريخي يقوم على قبول المثقفين العرب لـ”تخلفهم وتخلف مجتمعاتهم الثقافي”، حسب عبارة عبد الله العروي.

في هذا السياق، احتدمت المعركة حول قضية الحداثة والتراث بين أنصار القطيعة الكلية مع التراث للالتحاق بركب الحداثة، وبين أنصار القطيعة الجزئية مع التراث بإعادة تأويله تأويلاً يتماشى مع الحداثة، وقد كان واضحاً أنّ أنصار القطيعة متفقون سويّةً على ضرورة السير على خطى أوروبا، والاندماج مع حضارة الغرب باعتبارها حضارةً تقوم على قيم كونية، وفق منهج تطوري مرحلي غايته النهائية الاندماج في أوروبا. وعاد إلى الواجهة الجدل والنقاش حول إشكالية التقدم والتأخر، وحضر السؤال الشهير: “لماذا تأخر المسلمون ولماذا تقدم غيرهم؟” الذي طرحه شكيب أرسلان عام 1906.

استحضرت نكسة هزيمة العرب عام 1967 صدمة الغزو النابليوني لمصر عام 1798، وكلاهما حرّض على “يقظة”، أفضت بالخطاب العربي المعاصر إلى التفكير في إجابات عديدة حول العلاقة بين التراث والحداثة، كانت متشبعة بمصطلحات ومفاهيم عصر التنوير الأوروبي، ولم تنفك عن ترديد أطروحات المستشرقين، ومواجهة تحدي اللحاق بركب أوروبا، رغم أن الإجابات المختلفة حول التراث والحداثة “فشلت” في تحقيق “التقدم” و”الارتقاء” المنشود.

تنامت دراسة التراث في سبعينيات القرن الماضي، مع الدراسات النقدية الماركسية التي وضعها كل من اللبناني حسين مروَّة في كتابه “النزعات المادية في الفلسفة العربية الإسلامية”، والسوري طيب تيزيني في كتابه “من التراث إلى الحداثة”، ثم ظهر مشروع اليسار الإسلامي مع حسن حنفي  في خماسيته “من العقيدة الى الثورة”، والذي افتتحه في كتاب “التراث والتجديد” كمقدمة للمشروع. في بداية الثمانينيات من القرن الماضي طرح المفكر المغربي محمد عابد الجابري مقدمة لمشروعه النقدي للتراث على أسس معرفية في كتابه “نحن والتراث” الصادر عام 1980، واستكمله في رباعيته “نقد العقل العربي”، وقد أثار مشروع الجابري جدلاً واسعاً ونقاشاً ثرياً، من وجهات نظر مختلفة، حيث انخرط في النقاش والسجال طيف واسع من المفكرين أمثال عزيز العظمة، وحسن حنفي، وعلي حرب، وبرهان غليون، وجورج طرابيشي، وغيرهم .

يأتي مشروع محمد أركون في نقد العقل الإسلامي كأحد المساهمات الكبيرة التي أثّرت على جملة من الدارسين في العالم العربي، وخصوصاً كتابه “تاريخية الفكر الإسلامي”، وتأتي مساهمة نصر حامد أبو زيد في هذا السياق وخصوصاً كتابه “مفهوم النص”؛ وتعتبر مساهمة الفيلسوف المغربي طه عبد الرحمن في نظري المساهمة الأكثر شمولاً وتكاملاً، فقد عمل على بلورة رؤية مغايرة حول العلاقة بين التراث والحداثة، في عدة كتب ومنها كتابه “تجديد المنهج في تقويم التراث”، الذي خصصه لنقد الجابري.

ينطلق طه عبد الرحمن في نقده للمشاريع النقدية السابقة في مقاربتها لتقويم التراث، من نقطة مرجعية حاكمة تؤكد على وجود عقل مخصوص يحكم الإنتاج المعرفي التراثي، ومن هنا هيمن خطاب العقل على جملة المسائل التي أصبحت تتردد فيما يعرف بالخطاب العربي المعاصر. ويشدد عبد الرحمن على أنّ هذا العقل متلبس بشبهات أيديولوجية ثبت خطؤها معرفياً من أهمها الاعتقاد بوجود عقول متباينة مستقرة في الثقافات المختلفة، وكذلك الاعتقاد بوجود عقل مستقل يستند الى السببية والإجرائية ينفصل عن الإدراك والفاعلية، إذ تعتمد مجمل الأطروحات المشتغلة بالتراث على مسلمات خاطئة، كالاعتقاد بوجود عقل خاص بالتراث العربي والإسلامي، وأن هذا العقل يقف حائلاً دون قيام التراث بأسباب العلم والتقدم.

وحسب عبد الرحمن فإن هذا التصور الذي حكم نقاد التراث ودارسيه ينبني على زيف أيديولوجي متطرف يتأسس على القول بوحدة العلم وإطلاقيته، ونفي تعدديته ونسبيته، تحت دعوى الموضوعية العلمية، وعلى تصور آخر لا يقل تطرفاً وهو النظر الى الحقيقة التراثية كما لو كانت حقيقة تاريخية غير دينية وغير قائمة على الوحي، ومن هنا جرى إنزال مفاهيم ومناهج منقولة تسوّي بين التراث الديني والدنيوي في الدرس والتحليل. ومن أبرز هذه المناهج المتّبعة الإبستمولوجيا التكوينية عند بياجيه، والعقلانية العلمية عند لالاند وباشلار، والبنيوية، وفلسفة التاريخ الهيغلية والماركسية، بالإضافة إلى الفلسفات الخطابية التي اشتغلت بالنظر في الخطابات الإنسانية، وهي بالأخصّ الفلسفة التأويلية أو الهيرمينوطيقا والتي اشتهر بها هيدغر و غادامير، ثمّ فلسفة الحفريات أو الأركيولوجيا التي اشتهر بها ميشيل فوكو، والفلسفة التفكيكية التي اشتهر بها الفيلسوف الفرنسي جاك دريدا.

في الوقت الراهن انحسرت موجة نقد التراث بصيغها السابقة، التي ارتكزت بطرائق عدة على المقاربة الاستشراقية والثقافوية الجوهرانية، وبدأت تحل مكانها مقاربة تشدد على الشروط السياسية والاقتصادية السياقية، وكأن العالم العربي استيقظ فجأة على شبح إدوارد سعيد، واكتشف “الإستشراق”، ومنظورات ما بعد الكولونيالية. وقد تأخر العرب باستخدام هذه المقاربات، في الوقت الذي حظيت فيه بصدى واسع في آسيا وإفريقيا وأميركا اللاتينية. وقد استقبلت كتابات وائل حلاق وجوزيف مسعد وغيرهم، بالاحتفاء عموماً، على خلاف أطروحات إدوارد سعيد التي استخف بها معظم النقاد العرب.

نشهد اليوم في العالم العربي إدراكاً متنامياً لأهمية دراسة الكولونيالية وما بعدها، خصوصاً بعد الانقلاب على الاحتجاجات الثورية العربية. خلال السنوات الأربعمائة الأخيرة توسّعت أوروبا إمبريالياً في بقية أنحاء العالم، وتموضع المركز المهيمن في علاقة سيطرة ونفوذ على الهامش أو على المستعمرات؛ وقد كانت هذه العلاقة تنزع إلى الامتداد إلى التعاملات الاجتماعية والتعليمية والاقتصادية والسياسية والحضارية. إنّ نظاماً كهذا يحمل في طياته مفاهيم مرتبطة بالدونية العنصرية وتكوين تصورات عجائبية عن الآخر، وقد جاءت المقاربة ما بعد الكولونيالية لكي تدرس آثار الاستعمار على الثقافات والمجتمعات، وآليات اشتغاله وديناميات حضوره.

قدّم جوزيف مسعد في كتب عديدة، آخرها “الإسلام في الليبرالية”، نقداً حماسياً وعميقاً لمشاريع نقد التراث، وشدّد على غياب أية مناقشة لما هو اقتصادي في تلك السجالات. فبينما كان الفكر الثوري العربي قبل 1967، مثلما كان عليه الحال في كل مكان في العالم، يَعتبر بأنّ فشل العالم الثالث يكمن في مسألة التطور الاقتصادي، والمعيقات التي يضعها الغرب بصورة منظّمة أمام تنميته، فإنّ الوضع قد شهد تغيّراً بعد هزيمة 1967، إذ اقتحم العامل “الثقافي” تلك السجالات باعتباره المبرر الرئيس لـ”تخلف” العرب. كذلك بات بالإمكان العثور على حلٍ للغز “التقدم” داخل ما هو ثقافي.

في ذلك الوقت كانت التجارب المحدودة لـ”الاشتراكية العربية” تعلن عن إخفاقها، والنُخَب الجديدة تتخلى عن أي فكرة اشتراكية يُعتدّ بها وتهرع للحاق بركب الرأسمالية. وإذا كانت نظرية “التبعية”، خاصة كما عبَّرت عنها مدرسة سمير أمين، قد تمتّعت ببعض الشعبية في السبعينيات، فسرعان ما تم تحجيم المسألة الاقتصادية، أو التخلي عنها نهائياً، لصالح المسألة الثقافية.كان من بين الأصوات القليلة التي عارضت هذا التحجيم المفكر الشيوعي اللبنانى مهدي عامل؛ ويؤكد مسعد على أن تلك سجالات ثقافوية الطابع لا مكان فيها للاقتصاد أو لعلاقات رأس المال، بل تنحصر خلاصتها في أنّ أسباب “تحديث” أوروبا محصورة في النطاق الثقافي، وكذا أسباب افتقار العرب لهكذا “تحديث”.

رغم أهمية عمل مسعد في نقد المشروع  الغربيّ على أمل أن يؤدي هذا المسعى إلى تعطيل الهيمنة العالمية الغربية، أو على الأقل المساعدة في تفكيكها، فإنّه لا يقدم بديلاً يؤسس لبناء كينونة عربية إسلامية، ويقلل من أثر الفعالية الذاتية، حسب سلمان سيد الذي يستحضر قصة هانز كريستيان أندرسن، عندما أشار الصبي إلى أن الإمبراطور عار ولا يرتدي ملابس، يضحك الجميع وتهتز التعويذة، حيث يمكن للمرء أن يتخيل نسخة معاصرة من هذه القصة عندما تشير كتب مثل “الإسلام في الليبرالية”، و”استعادة الخلافة”، و”سياسة التقوى”، و”جينالوجيا الدين”، و”الثقافة والإمبريالية”، مراراً وتكراراً،  إلى أن الإمبراطورية عارية من أي ملابس، فالنقد ما بعد الكولونيالي يقوم بتعرية الإمبراطورية بصورة لافتة ويفكك مقولاتها، لكن ذلك النقد والهدم لا يؤسس لبناء ذاتية بديلة. ويعزو سيد ذلك القصور كون دراسة القضايا والمسائل الإسلامية أصبحت متأثرة بالخوف من تهمة الانحياز إلى يوتوبيا أصولية، وقد ترسخ ذلك منذ نشر “الاستشراق” لإدوارد سعيد، وهذا الخوف من تهمة الأصولية يخلق مشاكل خاصة عندما يتعلق الأمر بتكوين الهويات الجماعية ودور الإسلام، إذ يفتح التعامل مع الإسلام بشكل شبه تلقائي إمكانية التفكير في أهمية الإسلام على أنه مجرد ظاهرة،  وهذا له عواقب على فكرة “الفعالية” الإسلامية.

بدا الخوف من الانزلاق إلى رهاب الأصولية واضحاً عند استقبال كتاب وائل حلّاق “الدولة المستحيلة: الإسلام والسياسة ومأزق الحداثة الأخلاقيّ”، فقد تم نعت حلاق بالأصولية، كما سبق أن نعت إدوارد سعيد بـ”فيلسوف الإرهاب”، ذلك أن حلاق يشدد على مسألة “الفاعلية” الإسلامية. وصحيحٌ أنّ حلاق قد اعتذر عن سوء الفهم الذي لحق بكتابه وبحججه التأسيسيّة حول مسألة “التقدّم،” و”الماضويّة”، ونظرية “البراديغم”، إلا أنّه حاجج دون هوادة بأنّ ثمّة اختلافات عميقة جداً في المفاهيم القانونيّة والسياسيّة والأخلاقيّة بين ما يدعوه بالحكم الإسلاميّ وشريعته من ناحية، وبين الدولة الحديثة من ناحية أخرى. وحسب عبارته، فإنّهما يمثّلان تصوّرين ورؤيتين للعالم مختلفين جداً. تقوم الأطروحة المركزيّة لحلاق على أنّ الحكم الإسلاميّ والدولة الحديثة ينتجان نوعين مختلفين تماماً من الذاتيّات Subjectivities، إن لم يكونا نوعين مختلفين من المخلوقات البشرية.

هوامش

  1. جماعة الجهاد الإسلامي في فلسطين، والجماعة الإسلامية في مصر، والطليعة المقاتلة في سوريا، وحركة الشبيبة الإسلامية في المغرب، وجماعة بويعلي في الجزائر وغيرها [المحرّر]
  2. ظهر التيار المدخلي بدايةً في المدينة المنورة علي يد محمد أمان الجامي، ومنه أخذ اسم “الجامية”. تطوّرت مدرسته بصورتها الراهنة على يد ربيع بن هادي المدخلي بصورة أساسية، وإليه يُنسب التيار “المدخلي”. برز التيار المدخلي بدايةً من خلال مناهضة حركات الإسلام السياسي والسلفيات الجهادية والإصلاحية والعلمية عموماً، و”دعاة الإسلام الصحوي” في السعودية خصوصاً؛ أمثال سفر الحوالي، وناصر العمر، وسلمان العودة، ومحمد سعيد القحطاني، وغيرهم، ممن استنكر وأدان الاستعانة بالقوات الأجنبية التي تقودها الولايات المتحدة الأميركية لمحاربة العراق، حيث أفتى المداخلة بمشروعية دخول القوات الأجنبية إلى السعودية والاستعانة بها ضد العراق، انسجاماً مع توجه علماء المؤسسة الوهابية الرسمية السعودية. المدخلية تيار ديني مذهبي محافظ تقوم أيديولوجيته على نهج براغماتي شديد الواقعية، ينفر من الثورة والتغيير وينشد الاستقرار والحفاظ على الأمر الواقع. تستند المدخلية إلى معحم ديني هوياتي سلفي إحيائي يمجّد طاعة “ولي الأمر المتغلب بالقوة” كسلطة شرعية ما دامت توفر الاستقرار وتقيم الشعائر الدينية الإسلامية الظاهرة، فالأنظمة العربية الدكتاتورية تملك شرعية دينية حتى لو كانت علمانية، وهي تناهض الديمقراطية والعملية السياسية والنظام الحزبي والتداول السلمي للسلطة، وتحارب “الثورة” باعتبارها تجسيداً لـ”الفتنة” والفوضى، وتتعامل مع كافة قوى التغيير السياسي في المجتمع كجماعات من “المبتدعة”، وفرق من “الخوارج” المارقين، فشرعية الحكم التي تحكم سلوك المداخلة تنصّ على أن “من اشتدت وطأته وجبت طاعته”، وشرعية السلطة تقوم على مقولة: “سلطان غشوم خير من فتنة تدوم”. [المحرّر]
  3. نسبةً إلى محمد سرور بن نايف زين العابدين، أحد أبرز الفاعلين السوريين المعاصرين في التيار السلفي المعاصر. تمكّن من تأسيس سلفية خاصة باتت تعرف بـ “السرورية”. بدأ سرور حياته ناشطاً في صفوف جماعة الإخوان في سوريا، في حقبة الخمسينيات، واقترب من التيار القطبي في الجماعة، إذ برزت ميوله السلفية بتأثير من سيد قطب وناصر الدين الألباني، وشرع في مواجهة الميول الاحتوائية والبراغماتية للإخوان. غادر سوريا إلى السعودية عام 1965، وخلال وجوده في السعودية ترك جماعة الإخوان، وأسّس جماعته الخاصة، ثم ترك السعودية عام 1973 وتوجه إلى الكويت، ثم استقر في لندن عام 1984، حيث أسس هناك “المنتدى الإسلامي”، وأصدر مجلتيّ “البيان” و”السنّة”. تقوم مدرسته على المزج بين “حركية الإخوان وعلمية السلفية”.[المحرّر]
  4. يُشير هنا إلى كتاب “المحلى بالآثار” [المحرّر]
  5. أحد أبرز منظّري ما بعد الكولونيالية والدراسات الثقافية، وهو أستاذ النظرية الاجتماعية وفكر ما بعد الاستعمار في “جامعة ليدز” البريطانية. ترجم له إلى العربية كتاب “استعادة الخلافة: تفكيك الاستعمار والنظام الجديد”، وكتاب “الخوف الأصولي.. المركزية الأوروبية وبروز الإسلام”. كان آخر ما نشره سلمان سيد كتاب “الإسلاموية كفلسفة: آفاق الاستعمار” (2017) [المحرّر]

نقلا عن موقع متراس الأردني

Share
  • Link copied