ذهب الوزراء والبرلمانيون المغاربة للاستراحة السنوية الصيفية، وأراحوا معهم المواطنين من ظهورهم المتواتر على القنوات التلفزيونية والإذاعية والإلكترونية، حيث كانوا يرددون كلمات تندرج ضمن ما يُطلق عليه الغربيون «لغة الخشب»، ويتعلق الأمر بتعبيرات تهدف إلى تزييف الحقائق ولا تتضمن أي معلومة وأي موقف أو إجابة واقعية على المشكلات الاجتماعية التي يكتوي بنارها الطبقة المقهورة.
ومن ثم، صار ظهور شخصيات سياسية في النشرات الإخبارية أو في النقل المباشر لجلسات البرلمان مدعاة للسخرية والملل، ناهيك عن الأخطاء الكارثية في النطق بلغة الضاد، وكأن الكثير من الوزراء والبرلمانيين مجرد متعلمين مبتدئين يحتكون لأول مرة بلغة غريبة عنهم!
ومن ثم، يتعين إجراء اختبار لكل من يود تحمل مسؤولية سياسية رسمية حول إتقان اللغة العربية. فكيف تطلب الدول الغربية من الراغبين في الهجرة إليها للعمل إتقان لغتها تحدّثًا وكتابة، ولا يشترط ذلك في أبناء البلد المغاربة، ممن يجدون صعوبة في التحدث باللغة الوطنية، ويفضّلون الرطانة بلغة المستعمر القديم؟ ضاربين بذلك مقتضيات دستور المملكة من جهة، ومشاعر المواطنين من جهة أخرى؛ علمًا بأن هناك محاولات محتشمة في المغرب لقطع الحبل السري مع «ماما فرنسا»، إنْ من خلال التوجّه نحو اعتماد الإنجليزية في عدد من المؤسسات التعليمية، أو من خلال سعي الرباط لتنويع شركائها الاقتصاديين بالانفتاح على الأسواق الألمانية والصينية والتركية والهولندية والإسبانية والبريطانية وغيرها.
نعود لمهازل السياسيين حينما يودّون تناول الكلمة في البرلمان بغرفتيه: النواب والمستشارين؛ لنتساءل: لماذا لا تفكر الأحزاب السياسية في جعل التحدث باسمها مهمة موكولة إلى برلماني يمتلك الفصاحة والقدرة على الإقناع بلغة سليمة ودقيقة؟ ولكن ذلك لا يكفي، بل لا بد من خطاب سياسي واضح بعيد عن الديماغوجية والمراوغات.
استقبال غير عادي للوزير الحاج!
في غياب الحدث السياسي بسبب موسم الإجازات لدى البرلمانيين والوزراء، أصرّ الوزير الناطق الرسمي باسم حكومة عزيز أخنوش على أن يخلق الحدث الذي سارت بذكره الركبان، فقد عاد من الديار المقدسة، حاملاً معه لقب «الحاج»، حيث ترأس الوفد الرسمي المغربي إلى تلك البقاع الطاهرة. ولكنّ معاليه لم يشأ أن يجعل عودته عادية، لأنه ذهب إلى الحج ـ مكان التجرد من الألقاب، كما يُفترَض ـ كضيف مهم جدا يُعامل معاملة خاصة. ومن ثم، دخل مدينته «سيدي إفني» الواقعة جنوب البلاد دخول الشخصيات الاستثنائية، واستقبلته الحشود الغفيرة، يتقدمها أعيان المدينة والمنتخَبون ورجال المال والأعمال بها، ونُصبت العديد من الخيام بجانب الطريق. وأكثر من ذلك، حضرت قوافل السيارات الكبرى مُحمّلة بالهدايا وبالإبل… نعم، الإبل الحية وليس المذبوحة!
هذا المشهد المثير الذي تناقلته المواقع الإلكترونية وصفحات التواصل الاجتماعي لم يسلم من السخرية السوداء حينًا ومن الانتقاد والتقريع حينا آخر، أقسى ذلك ما نطق به الناشط الحقوقي والإعلامي محمد رضا الطاوجني في فيديو بثّه على موقعه الخاص، حيث قال إن «فتى الحكومة المدلل يقلّد الطقوس الملكية» من خلال طريقة استقباله في «سيدي إفني». وتساءل: ماذا قدّم لهذه المدينة من أجل تحسين أوضاعها وتطوير التنمية بها؟ لكنّ المتحدث سرعان ما رفع إيقاع النقد، ليتحوّل إلى اتهام الوزير الملمّح إليه بنهج طرق ملتوية مشبوهة لمضاعفة ثروته… والعهدة على الناشط المذكور الذي عدّد بعض ممتلكات الشخص المعني، من أراضٍ وفِلَل ومشاريع عقارية أخرى وغيرها؛ معربًا عن استغرابه لكيفية انتقاله السريع إلى خانة المليارديرات، بعدما بدأ حياته المهنية أستاذا عاديا، قبل أن يصير برلمانيًّا، ثم وزيرًا في حكومة عزيز أخنوش.
من الصعب إطلاق التهم جزافًا، فالوصول إلى معرفة مصدر ثروة شخص ما مهمة مناطة بالمؤسسات الأمنية والقضائية والرقابية، في حين أن الصحافي أو الناشط الحقوقي في السياق المغربي لا يمتلك من الأدوات التي تيسّر له الوصول إلى المعلومة المضبوطة المتعلقة بقضايا كهذه.
المغرب ليس هو مراكش فقط!
ونحن في الصيف، موسم الإجازات، نجد أن الكاميرات تتجه نحو المدن التقليدية التي تستقطب السياحة الداخلية والخارجية: مراكش وضواحيها الجبلية، أو طنجة وتطوان والحسيمة وأغادير وشواطئها، فيما تغض الطرف عن منتزهات وفضاءات طبيعية لا تقل رونقا وبهاء، كما هو الحال مثلا في إقليمي بني ملال وأزيلال.
المشكلة أن هذه الملاحظة تندرج في سياق توجه حكومي يركّز على تلك المدن فقط، فيما يغفل الأخرى، والحال أن النهج المذكور يناقض شعارات «الجهوية» و»العدالة المجالية» و»اللامركزية» التي تتكرر عبر وسائل الإعلام العمومية صباح مساء.
والواقع أن التركيز على مدن بعينها لا يقتصر على فصل الصيف فحسب، بل يشمل فصول السنة برمّتها، فمدينة مراكش ـ مثلا ـ تحتضن باستمرار مؤتمرات الاقتصاد والسياحة والبيئة والمناخ والعلوم وكذلك المنافسات الرياضية المختلفة؛ فتنتعش فنادقها ومقاهيها ومنتجعاتها ومحالها التجارية والتراثية وغيرها نتيجة «سياحة المؤتمرات»، فيما تُحرَم مدن أخرى ذات مؤهلات سياحية من هذا الاستقطاب ذي البعد الاقتصادي الذي ينتعش أكثر بتسليط الأضواء الإعلامية عليه.
لذلك، يتعين على أهل الحل والعقد أن يلتزموا بالتوازن الضروري بين مختلف أقاليم البلاد، حتى لا يظلّ المغرب في الذهنية العربية والغربية مقتصرًا فقط على مراكش. فالتنوع الطبيعي والحضاري والتراثي سمة مميزة لمختلف المدن المغربية التي تشكل لوحة فسيفسائية متكاملة، لا يعوّض عنصر واحد منها باقي العناصر.
حكاية وعبرة!
نختم العمود بحكاية لا علاقة لها بما سبق: يُحكى أن أحد السلاطين بلغ إلى علمه أن طبّاخًا في قصره تمتد يده إلى محتويات المطبخ، فيذهب بها خلسة نحو بيته.
وذات يوم، لمح السلطانُ الطبّاخَ يسرع الخطى في الحديقة. نادى عليه، فتوقف على بعد خطوات. وشرع السلطان يسأله بهدوء عن صحته وعمله وأبنائه، بينما كان الطبّاخ يجيب مرتبكًا مضطربًا. وما هي إلاّ بضع لحظات، حتى أخذ العرق يتصبب من وجهه ورأسه، مختلطًا بمادة سائلة، تسيل من تحت قبّعة الرجل.
لقد افتُضح أمر المسكين: سرق الزبدة من المطبخ، ووضعها تحت قبّعته، فأذابها حرّ الشمس وحرج الموقف أمام السلطان!
تعليقات الزوار ( 0 )