بين أزقة المدينة العتيقة وشوارع مدينة الرباط، تلتقط أعين المارة فئة من الباعة تتواجد في دكاكين ومحلات متواضعة تمتهن بيع الكتب المستعملة، لا تدخر جهدا في تصنيفها وترتيبها في رفوف متراصة في مشهد يجذب انتباه العابرين وييسر مهمتهم في البحث، فبعد أن نالت منها الثورة التكنولوجية والرقمية بتوفيرها للكتب والمؤلفات لعامة الناس بمجرد الربط بشبكة الأنترنيت، أضحت هذه الفئة تلفظ أنفاسها الأخيرة على يد فيروس كورونا الذي حكم عليها بركود غير مسبوق شل حركتها وزاد من معاناتها.
توجس من الحاضر والمستقبل هو السائد في أوساط هذه الفئة التي حملت على عاتقها منذ عقود خلت مهمة تثقيف المجتمع وتنويره عبر إتاحتها لكتب ومجلات لكافة الأعمار والفئات الاجتماعية، وفي مختلف التخصصات العلمية والأدبية بأثمنة زهيدة، كتب في السياسة، الأدب، الإعلام، العلوم الطبيعية، الاقتصاد، الثقافة والفن، بعضها لم يعد له أثر في سوق الكتب الجديدة بسبب ندرتها وقيمتها العلمية العالية، حيث كانت شاهدة على حقبة بلغ فيها الكتاب والمطالعة منزلة عليا ومهمة في الحياة اليومية للمغاربة.
“محمد العزيزي” الملقب ب”العبيدي” هو واحد من بين باعة الكتب المستعملة، استقر في دكان صغير وضيق في قلب المدينة العتيقة لمدينة الأنوار، يحكي بأسى وحسرة بليغين ما آل إليه إهمال القراءة ومعها مهنته الذي دأب على ممارستها منذ ريعان شبابه في الستينيات من القرن الماضي، جراء غزو وسائل التواصل الحديثة على غرار التلفاز، االهواتف الذكية، والحواسيب، لوسائل المطالعة التقليدية التي تعتمد على النسخ الورقية، وأضحى بين ليلة وضحاها بدون دخل محترم يمكنه من توفير لقمة العيش ومواجهة أعباء الحياة.
يعمل بصفة دورية على إغناء وتجديد مكتبته عبر إقتناء كتب مستعملة من موزعين ومعارض على مستوى مدينتي الدار البيضاء والرباط الذين يستوردونها بدورهم من دول المشرق العربي.
“العبيدي” يظل جالسا وسط مكتبته الحبلى بكنوز المعرفة منذ الساعات الأولى من كل صباح ينتظر توافذ زبناء كلهم أمل في أن يعثروا على الكتب التي تشفي غليلهم وتروق شغفهم العلمي والمعرفي، يؤكد أن “الإقبال على المكتبات العتيقة قد تراجع منذ أن حلت وسائل الإعلام والتكنولوجيات الرقمية محل الكتب الورقية، وأصبح كابوس الإفلاس والإغلاق ينتابني بصفة يومية”. مشيرا إلى أن “أغلب زبنائه اليوم هم عبارة عن طلبة وتلاميذ معظمهم إناث يبحثون فحسب عن كتب تنتمي إلى تخصصاتهم التي قد تساعدهم في تحصيلهم الدراسي”.
ولم يسلم هذا الرجل السبعيني من تداعيات جائحة كورونا والفترة العصيبة للحجر الصحي التي فرضت إغلاقا تاما بداية العام المنصرم، قائلا: “لو لم أدخر بعضا من المال الذي مكنني من تدبير أربعة أشهر متتالية من الحجر الصحي لكان مصيري الآن مجهولا ومأساويا”، معتبرا أنه رغم إجراءات التخفيف التي أطلقتها السلطات المغربية بشكل تدريجي، إلا أن الوضع لا يختلف كثيرا عن الوضع الذي ساد العام الماضي، “مدخول اليوم الواحد أدبر به أربعة أو خمسة أيام لاحقة من الركود والأزمة”، يضيف المتحدث.
زيادة على ما خلفته الجائحة على هذه الفئة والإقبال المتواضع الذي يشهده هذا القطاع، استنكر “م.ص” مالك لمكتبة عتيقة وسط الرباط ما وصفه ب”الإهمال والحيف الذي يتعرض له من قبل القائمين على تنظيم المعارض الكبرى للكتب المستعملة”، متمنيا أن يتم إنصاف ودعم مهنتهم من طرف السلطات المعنية وإنقادها من الزوال، نظرا لما لها من أهمية في تثقيف المجتمع وإتاحة ونشر المعرفة على أوسع نطاق، مفسرا حالة تدهور القيم الأخلاقية والفكرية في صفوف الشباب المغربي باعتزال القراءة والمعرفة.
أمام هذه الأزمة التي يعيشها بائعوا الكتب المستعملة واتجاههم نحو مصير مجهول، تبرز نكسة أشد خطرا على المجتمعات تتجلى في تنامي موجة التفاهة والتجرد من القيم الاجتماعية والأخلاقية النبيلة على حساب عزوف متواصل عن القراءة والتغاضي عن سبر أغوار المعرفة، في الوقت الذي تشير الإحصائيات الوطنية إلى أن حوالي 97 بالمائة من الأطفال المتراوحة أعمارهم مابين 7 و 14 سنة لا يقرؤون. علما أن مفتاح التنمية هو التزود بالعلم والمعرفة والبحث العلمي لضمان حاضر ومستقبل ينعم فيه الجميع بالرقي الفكري والازدهار.
تعليقات الزوار ( 0 )