رغم اللطمات الدبلوماسية التي تتلقاها إسرائيل تباعاً في العالم، وربما بسببها، يقترح جنرال إسرائيلي في الاحتياط طريقة لما يصفه بنزع اللغم ودحض الاتهامات ضدها وهي متهمة بارتكاب جرائم حرب في غزة.
في مقال نشره موقع القناة 12 العبرية، يقول مستشار الأمن القومي الأسبق غيورا آيلاند إن هناك ثلاث دلالات تحظى باهتمام قليل في ما يتعلق بقرار المدعي العام لـ “المحكمة الجنائية الدولية”، الذي يقضي بمحاكمة كل من نتنياهو وغالانت، معتبراً أن المسألة الأولى تتعلق بقرار المدعي العام بأن “فلسطين، بما يشمل قطاع غزة، دولة”، ومن دون قرار كهذا، لن يكون هناك أساس قانوني لمطالبه؛ فإذا كانت فلسطين دولة، فمن هي قيادتها؟
ويمضي في مزاعمه: “يحدد المدعي العام قائلاً: “يحيى السنوار وزملاؤه.” وهنا، فعلاً، أنا أتفق معه جزئياً؛ فصحيح أنه لا توجد دولة اسمها فلسطين، لكن غزة قد تحولت منذ سنة 2007 إلى دولة مستقلة، بحكم الأمر الواقع، وبناءً عليه، واستناداً إلى ما يقوله السيد خان، فإن ما حدث في 7 أكتوبر هو أن دولة غزة قد شنت حرباً على دولة إسرائيل”.
أمّا المسألة الثانية، فهي تتعلق بموضوع “التجويع”، وهنا تسجل أربعة تعليقات: “أولاً، علينا أن نتذكر كيف نجحت صفقة تبادُل الأسرى الأولى. وفعلاً، فإنه حتى تاريخ توقيع هذه الصفقة، كانت تدخل شاحنتا تموين غزة كل يوم، وقد وافقت “حماس” على صفقة التبادل، ليس لأنها كانت ترغب في تحرير 300 أسير غير مهم، ولا بسبب أي ضغط عسكري، فأمثال السنوار لا يتأثرون بالضغط العسكري أو عدد القتلى، لكنهم يخشون كثيراً الجماهير الغاضبة والجائعة. انظروا، على سبيل المثال، إلى ما حدث منذ الثورة الفرنسية، بل أيضاً الربيع العربي. لم يوافق السنوار على الصفقة إلاّ لأنها كانت تحتوي على البند الأهم؛ إدخال 200 شاحنة معونات في اليوم الواحد، ولو كانت إسرائيل قد قامت بما ينبغي عليها القيام به، واشترطت استمرار توريد المعونات في مقابل استمرار إطلاق سراح المختطَفين، لكنّا في واقع مختلف تماماً. ثانياً: صحيح أن “التجويع” محظور بموجب قوانين الحرب، بصفته هدفاً أو وسيلة لتحقيق تفوق عسكري، لكن في العلاقات بين الدول (وغزة، بحسب المدعي العام، هي دولة)، فإنه يُعد شرعياً جداً أن يكون هناك مطلب يتمثل في “مطالب إنسانية في مقابل مطالب إنسانية”، وبكلمات أُخرى؛ غذاء في مقابل إطلاق سراح الأسرى. ثالثاً: لم يكن هناك تجويع أصلاً، ويبدو لي أنه لا يوجد تقرير واحد يتحدث عن أشخاص ماتوا بسبب الجوع في غزة.رابعاً: إن كمية الغذاء (والماء، والدواء، والوقود، وغاز الطبخ)، التي تدخل القطاع تتجاوز كثيراً حافة الجوع،
لكن “حماس” تصرّ على ثلاثة أمور: الاحتفاظ باحتياط كبير، وبذلك تتمكن من صنع نقص مصطنع، وبيع الطعام بأسعار مبالغ فيها، وترهيب العالم بأسره فيما يتعلق بالجوع. ونظراً إلى أن المنظمات الدولية في غزة تتعاون مع “حماس”، فإن هذا كلّه يشكل انطباعاً بوجود مجاعة في القطاع”.
جرائم حرب
عن المسألة الثالثة والأهم التي يتوقف عندها آيلاند، وهو من برز دعاة تجويع غزة، وعدم التمييز بين مدنيين وعسكريين فيها منذ شن هذا العدوان على غزة، فيقول: “في ما يتعلق بتوجيه اتهامات ارتكاب جرائم القتل المتعمد إلى إسرائيل ضد المدنيين، وبعبارة أُخرى، وبحسب كلمات المدعي العام؛ فقد حدثت حالات كانت قوات الجيش الإسرائيلي تعلم بصورة مؤكدة بشأن وجود مدنيين أبرياء في نقطة معينة، ومع ذلك قررت إطلاق النار بهدف قتلهم، والأكثر من ذلك، فإن هذا الأمر قد حدث بحسب ادعاء المدعي العام للمحكمة ضمن إطار سياسة واضحة تبنتها الحكومة الإسرائيلية. وطبقاً لمزاعم آيلاند لا يكفي مجرد إنكار هذا الادعاء، بل أيضاً يجب على إسرائيل أن تسلط الضوء على زاوية شديدة الظلمة؛ هي الزاوية العسكرية، فجميع المناقشات التي تدور، سواء داخل إسرائيل أم في العالم، في ما يتعلق بالاتهامات الموجهة ضدها، تتم في مجالَين مهنيَين: القضائي والسياسي، لكن المجال الناقص هنا هو المجال العسكري– المهني.
التركيز على خمسة مجالات
ويمضي آيلاند في تقديم نصائح يعتقد أنها ستكون مفيدة لإسرائيل التي باتت دولة منبوذة: “إنّ حُجَجَنَا هي الأصلب والأقوى في هذا المجال، والجدير بالذكر هنا التركيز على خمسة مجالات: أولاً؛ لا يوجد، على حد علمي، أي ضابط رفيع المستوى، أمريكي أو بريطاني، سيقول إن إسرائيل تعمل خارج المعايير المتبعة. ففي جميع الحالات التي تم توجيه أسئلة فيها إلى جنرالات أمريكيين، سواء في الماضي أم اليوم، بشأن أخلاقيات القتال التي يتبنّاها الجيش الإسرائيلي، كال أولئك المديح للجيش، “ووصفوا أخلاقياته بأنها استثنائية”. ثانياً؛ يستند التدقيق في الأخلاقيات الحربية لجيش ما على 132 معياراً، ويمكن بكل تأكيد القول إنه لا المدعي العام في لاهاي، ولا أي شخص من طاقمه، قام بفحص هذه المعايير. ثالثاً، فإن أهم معيارَين مما ذُكر سابقاً، واللذَين يفسران عدد القتلى المدنيين، هما قوة العدو، والطريقة التي يتعامل بها مع سكانه المدنيين؛ ولنفترض أن هناك حادثتَي حرب، يقاتل فيها جيش تابع لدولة ضد منظمة “إرهابية”، وفي كلتا الحالتَين، قُتل 10,000 مدني، تبدو النتيجة متشابهة ظاهرياً، لكن إذا كان الحديث يدور في الحالة الأولى بشأن عدة مئات من “الإرهابيين”، لم يكن سلاحهم سوى عصي وحجارة، والمعارك تمت بعيداً عن التجمعات السكانية، فيمكن ادعاء عدم وجود مبرر لعدد كبير من الضحايا غير الضالعين في القتال كهذا في هذه الحالة. ولنفترض أن الحالة الثانية تتمثل في عدو يبلغ قوام مقاتليه 40,000 مقاتل مجهزين بأفضل الأسلحة المضادة للدروع وأحدثها، والراجمات، والصواريخ، والتكنولوجيا الإيرانية الحديثة، وكميات هائلة من الذخائر، ناهيك بكون العدو يفخخ مئات المنازل، ويكمن في الأنفاق المحصنة جيداً، والتي لها آلاف الفتحات، “وأغلبية مواضع هذه الفتحات موجودة في المنازل السكنية، وحضانات الأطفال، والمشافي”، إذاً هو في هذه الحالة يعمل من أواسط صفوف المدنيين، ويستخدمهم عن سبق إصرار “كدرع بشري”، وفي هذه الحالة، يُعتبر رقم 10,000 قتيل مدني منطقياً ومعقولاً، ومجدداً، يُطرح هنا السؤال التالي: من هم أعضاء الطاقم العسكري- المهني التابعون لمحكمة لاهاي، الذين دققوا في أوضاع القتال في غزة، وقارنوها بمواضع قتال أُخرى؟
جرائم أمريكا في الموصل
وهنا يبحث آيلاند عن جرائم الآخرين في أمكنة وأزمنة أخرى: بالمناسبة، فقد قتل الأمريكيون وحلفاؤهم في الموصل 11,000 مدني، حيث كان التحدي العسكري الذي شكّله تنظيم “الدولة الإسلامية” أقلّ كثيراً من التحدي الذي تفرضه “حماس” علينا في غزة. رابعاً: تبلغ نسبة المدنيين بالنسبة إلى المقاتلين في غزة 50 مدنياً في مقابل كل مقاتل من “حماس” و”الجهاد” (هم مليونَا مدني في مقابل 40,000 مقاتل)، وإذا كان القصف الإسرائيلي عشوائياً، كما يُزعم، لَكُنّا نتوقع مقتل 50 مدنياً في مقابل كل مقاتل، لكن نسبة الضحايا عملياً تبلغ تقريباً 1:1، وهذه نتيجة من شأنها أن تبيض صفحة إسرائيل وتجلب إليها المدائح، لا الاتهامات، وخصوصاً إذا ما نظرنا إلى المعدل الأمريكي للقتلى في العراق، والذي كان 1:3.7 (بمعنى 3.7 قتيلاً مدنياً، ففي مقابل كل مقاتل معادٍ قتيل) بينما الأوضاع الميدانية في العراق كانت أبسط بما لا يُقاس مقارنة بالأوضاع في غزة.
مسبب القتل
ويواصل آيلاند البحث عن أغطية للجرائم الاسرائيلية في غزة بقوله: “خامساً: مم قُتل المدنيون في غزة؟ حسناً، لقد قُتل كثيرون منهم بسبب 4 نشاطات مارستْها “حماس”: إذ قُتل بعضهم من صواريخ أطلقتها الحركة وسقطت في القطاع، والبعض الآخر قُتل في منازل فخّختها “حماس”، وغيرهم نتيجة إصابة صاروخ إسرائيلي لمبنى بصورة دقيقة، لكن البيت كان مليئاً بالذخائر، ولذا، فقد قُتل كل من كان في محيطه، وبعضهم الآخر قُتل بنيران “حماس”، سواءٌ أكانت النيران مقصودة أم لا. وهنا نعود إلى السؤال: هل كان هناك من دقّقَ في كل هذه الجوانب؟
ويخلص للقول إن إسرائيل متهمة بأنها تعمل، عسكرياً، بصورة غير متوقعة من “دولة ديموقراطية”، لكن لم تقم أي جهة مهنية بالتدقيق في الأمر، ولم تقم أي جهة مهنية بمقارنة ما يقوم به الجيش الإسرائيلي بما قامت به القوات الغربية في العراق، أو أفغانستان، أو الصومال. إن هذا الادعاء الذي نسمعه على امتداد الحرب (ونسمعه، بالمناسبة، من الرئيس بايدن أيضاً)، أن إسرائيل “تقتل من المدنيين عدداً أكثر من اللازم” لا أساس مهنياً وموضوعياً له، وما يتوجب علينا هو التشديد على هذا الجانب”.
تعليقات الزوار ( 0 )