إنه من الصعوبة بمكان من الناحية المنهجية التعرف على مجمل التحولات الثقافية التي ميزت الدول المغاربية تاريخيا، لما يقتضي هذا العمل من جهد أكاديمي مضن يتجاوز حدود الرغبة في التنظير وإثبات بعض مسلمات تحتاج إلى كثير نقاش. وعلى الرغم من هذه الملاحظة المنهجية فإننا نقرر بأن عمل الادريسي كشف لنا بعض التحولات المعرفية التي سادت المنطقة المغاربية التاريخية وامتدت الى حاضرها.
ويبقى السؤال الإستشكالي “هل العقل المغاربي مبدع في ذاته أم تابع لغيره؟ ” هو المؤطر الرئيسي لكتاب “العقل المغاربي في ضوء ثقافته”، لمُؤَلِّفه الدكتور علي الإدريسي كما أن أجوبته كانت استفزازية لهذا العقل في سياق الذات الثقافية عبر ماضيها وحاضرها ومحاولة اكتشاف آفاقها المستقبلية وهمومها الثاوية في عقلها الجمعي وتعرفا على نهوضاتها الحضارية.
ابتهال قدور
ناقش الكتاب كل من الكاتبة ابتهال قدور التي تناولته بشكل أفقي إذ قامت بمسح شامل للكتاب عرفت القارئ على مجمل تفاصيله. ولفهم أعمق للكتاب، وتحقيقًا لغاية الاستفادة من مراجعته وقراءته، قدمت الأستاذة الكتاب من خلال عملية تشريحية مكنت من إبراز أهم الأفكار التي تؤثثه.
تقول الأستاذة أنه مع الصفحات الأولى من قراءة هذا الكتاب الطي يتكون من تسعة فصول ومقدمة وخاتمة،
يختار الدكتور الإدريسي الغوص في الماضي البعيد لينقب عن إنجازات العقل المغاربي و يتتبع بصماته، ابتداء من فترة ما قبل الفتح الإسلامي إلى مرحلة الإسلام و ماتلاها وصولا إلى العصر الحديث كي يترسخ في ذهن القارئ مدى حرص الكاتب على إيجاد إشارات دالة على أصالة نشاط هذا العقل.
والكتاب تقول الأستاذة يسائل فيه الكاتب العقل المغاربي هل هو إبداعي أم اتباعي. لذلك بحث الكاتب في طبيعة العقل الجمعي المغاربي في غابر أزمانه، فيعود بنا إلى الحقبة الفينيقية والرومانية والبيزنطية ليلاحظ فقرا في الآثار المدونة ويستنتج بأن الذهنية المغاربية تميل إلى السحر والشعوذة.
أما في الزمن الإسلامي فإن الذهنية المغاربية فضلت اقتباس المذاهب الفقهية والفلسفات من المشرق لتكون مستوردة ومستهلكة لا مبدعة ومنتجة.
ثم تأتي مرحلة الاستعمار الفرنسي لتبدأ معها مظاهر النهضة و الإصلاح السياسي وظهور بعض المصلحين الفاعلين بهدف حماية الهوية، حيث تتأسس المدارس وتسجل بعض المحاولات لنهضة فكرية وعلمية على يد أعلام كبار كإبراهيم التادلي، ومحمد عبد الكريم الخطابي، وعلال الفاسي في المغرب الأقصى. وخير الدين التونسي، وسالم بوحاجب، وعبد العزيز الثعالبي في تونس. وعبد القادر المجاوي، وعبد الحميد بن باديس، ومالك بن نبي في الجزائر.
أما المتأثرون بالثقافة الغربية والذين سماهم بدعاة التغريب فلهم قاسم مشترك مع دعاة القومية العربية، وهو البحث عن الحلول خارج الذات. ثم قدم لنا رؤية مغاربية للحضارة، خاصة عند مالك بن نبي وابن خلدون، مع الوقوف على نقاط التوافق والاختلاف بينهما.
وبالوصول إلى الخاتمة تقول الأستاذة أن الكاتب يؤكد بأن شعوب المنطقة المغاربية ليست عاجزة عن إنتاج فكر أصيل وما وجود العديد من النماذج المغاربية إلا دليل على الإمكان، لكن شيئا ما في ثقافتنا لم يكن على ما يرام في موجات عقلنا المبدع وهذا ما يحول دون أن يقوم المغاربة بكامل مسؤولياتهم .
يوسف بن الغياثية
كانت قراءة الدكتور يوسف بن الغياثية للكتاب قراءة عمودية إذ حاول محاورة المؤلف من خلال طرح بعض الأسئلة التي من خلالها ناقش مضامين الكتاب، وأضفى عليه طابعا جداليا ساعد على تبيين بعض الأفكار وعرضها على مجهر التحليل والتشريح والنقد.
بدأ الدكتور يوسف بن الغياثية مداخلته بالتأكيد على أهمية الكتاب والكاتب. فالكتاب يأتي في سياق انعطاف تاريخي تشهده المنطقة العربية عموما والمغاربية خصوصا. فالكتاب ليس بالهين من حيث حمولته الفكرية. و أشاد بعد ذلك بالمستوى الاخلاقي الراقي للمفكر علي الادريسي ومدى غنى تجربته الفكرية.
ثم أبحر بنا في أعماق المتن ليؤكد أن المنطقة العربية عرفت ركودا فكريا لعدة قرون وشهدت اهتزازات بين تحكيم العقل و تحكيم القوة، مع غياب واضح لمنطق العقل والحكمة. ويجزم بأن المنطقة هي عدوة نفسها.
يشكك المفكر في المقومات الحضارية للمنطقة المغاربية وإن وجدت فما هي إلا نسخة مكررة لما راج في المشرق من لغة ودين ومذهب.
يتساءل يوسف بن الغياثية عن جدية المشروع النقدي أو الانتقادي للإدريسي ليجد له المسوغ الشرعي من خلال العملية البنائية لإبراهيم عليه السلام بعد تحطيم كل الأصنام إلا كبيرا لهم محاججة للكفارعلى صدق التوحيد.
ثم تطرق لمسألة التوثيق التي تغيب عند كثير من الدارسين إما لندرة الوثائق المستنطقة وإما لتغييبها وإخفائها. فعملية التوثيق تمكننا من الإجابة على كثير من الأسئلة التي لا زالت في طي الكتمان.
نوه يوسف بن الغياثية باعتماد المفكر علي الإدريسي على الذاكرة الشعبية, وبخاصة استشهاده ببعض كلمات أغاني حميد الزاهر التي تطلق صفة الرومي على كل أجنبي. وأكد على أنه لا يمكن ضمان نجاح أي مشرع يتجاهل الثقافة الشعبية.
يتفق يوسف بن الغياثية مع علي الإدريسي حول غموض مآل قضية الهوية، فاذا كان المشرق يعاني من طائفية دينية و مذهبية فإن المغرب يعرف طائفية لسانية . فبدلا من تضافر الجهود من أجل الإنطلاق للتبشير برسالة إنسانية فإنه يتم ضرب الإتنيات المكونة للجسم العربي من خلال إحياء النعرات المرتبطة باختلاف اللهجات واللغات.
في الأخير يورد شهادة الأستاذ عبد الوهاب الحميري فيقول إن الكتاب يجدد الثورنة الموحدية ودراسة تستحق التنويه والتناول الفكري لما يحتويه من حمولة معرفية، ثم إن المفكر علي الادريسي مهوس بالتنقيب الأركيولوجي عن البنى وارهاصات الفكرالمغاربي، ليصل الى القول إن حقل الثقافة المغاربية خلا من رواد تأسيس ثقافة إبداعية من داخل المنطقة المغاربية.
الدكتور الإدريسي
وتناول الكلمة بعدهما الدكتور الإدريسي الذي بدا بشكر القائمين على المنتدى وعلى المتدخلين الأستاذة ابتهال قدور والأستاذ بن الغياثية، وتمنى لو أنهما طرحا عليه بعض الأسئلة التي يمكن أن تلقي مزيدا من الضوء على بعض زوايا الكتاب التي تحاج الى نقاش أكثر.
حاول الدكتور الإدريسي الإتيان على السياقات المعرفية التي سوغت التفكير بجدية في تأليف الكتاب. وتحدث عن المرأة النموذج في العصر المرابطي الذي استغله الموحدون لتأليب الرأي العام والتمهيد لثورتهم من خلال التشهير بموقف المرابطين الإيجابي حيال المرأة.
ولكن دهشته من خلو المناهج التعليمية المغربية من شخصيات مغربية مؤثرة كانت الدافع الأكبر لتأليف الكتاب. فالدهشة كما يقول “تولد السؤال والسؤال يولد المعرفة”.
وما غياب الجسم الثقافي المغربي تاريخيا من رموز ثقافية مؤثرة إلا دليل على تبعية المغرب للمشرق. وما مقولة ابن عاشر المتوفى سنة 1630 “في عقد الاشعري وفقه مالك وتصوف الجنيد السالك” إلا تأكيد على ذلك. فلا أحد من هؤلاء الثلاثة كان له انتماء الى هذه المنطقة المغاربية . فالفرق واضح بين الانتساب الذي لم نختره كمغاربة وبين الانتماء الذي هو اختيار طوعي وقصدي.
ففي مؤلف “حاضر المغرب واحتلالات الأمن الثقافي” يقول الإدريسي إن الدكتور أحمد الطاهري يشاركه نفس همومه حيث طرح نفس السؤال “لماذا لم يكن هناك استشهاد بعلماء مغاربة رغم كثرتهم”. فيقول الإدريسي متحسرا:” نحن لا نحسن التسويق لبضاعتنا، ولا نحسن التغليف الجميل والإشهار المؤثر الواسع. نحن لا نحسن إلا التفسير والتأويل والتعليق على ما جاءنا”.
فالحضارة عند الإدريسي ينبغي أن تنبثق من الذات، ويقترح أن تكون هناك في العالم العربي والإسلامي دول قاطرة تقود المجتمعات الأخرى نحو الأمام كما في أوروبا التي تحوي ثلاث دول قاطرة، انجلترا الأنكلوساكسونية ذات المنهج التجريبي وألمانيا الجرمانية ذات المنهج الجدلي وفرنسا اللاتينية ذات المنهج العقلاني. هذه الدول تشكل قاطرة للدول الأوروبية الصغرى.
ويعبر الدكتور عن خيبة أمل عقده على دول عربية كان يمكن أن تلعب هذا الدور كمصر وسوريا والعراق كما خاب ظنه أيضا في أن تشكل الدول المغاربية هذه القاطرة التي أخرجتها عن سكتها كثرة الاختلافات السياسية.
المداخلات
بعد المداخلات القيمة للأساتذة المحترمين تمّ فتح الباب للنقاش و الأسئلة. و قد ركّزت جميعها على مناقشة بعض المقولات الّتي اعتبرها الدكتور الإدريسي و كأنّها من المسلّمات لكن دون تحديد المنطلقات و الأسس الفكريّة التي بنى عليها إجتهاده.
فالأستاذ حسين دراز حين تساءل عن جدية فكرة غياب الأصالة والإبداع عند المغاربة استحضر جهابذة الفكر المغاربي كابن رشد الذي أعاد اكتشاف أرسطو، وبنت أوربا نهضتها على تحليلاته المنطقية، كما عبر عن دهشته لهذه الفكرة وفي متن الكتاب إشادة بابن خلدون ومالك بن نبي المغاربيين، دون أن ننسى ما قام به المغاربة من تشييد لصرح الفكر من خلال اجتهاداتهم الفكرية والانكباب على المتون الفقهية تأليفا ودراسة، ولنا في سحنون وابن عبد البر وغيرهما شهود حق على المرحلة. وأتم المسيرة بعدهم ثلة من المفكرين البارزين أمثال الجابري والعروي وطه عبد الرحمان.
الاستاذ الإدريسي أراد ان يؤسس لقوانين ثقافية و كأنها حتميات تاريخية تسري على شعوب المنطقة . بمعنى أن الإدريسي وهو يؤرخ ثقافيا للعقل المغاربي كان في خلده مسلمات مسبقة يريد أن يثبتها من خلال النبش في المتون وفي تاريخ شخصيات المنطقة التي اختارها و انتقاها بعناية معيارية فائقة خدمة لفكرته.
أما الأستاذ محمد أزعوم فقد تساءل باستغراب كيف للأستاذ الإدريسي أن يستثني الأندلس وهي المحسوبة تاريخيا على المنطقة المغاربية وامتداد ثقافي وسياسي لها. وهي التي ألهمت الغرب في نهضته الحضارية بفضل علمائها الجهابذة الأفذاذ.
الدكتور عبد الوهاب الشريف تحدث عن تجذر خاصية الاتباع والتقليد ضمن خصائص العقل المغاربي وتساءل هل هي من إفرازات مجتمعية وذات طبيعة عرقية أم هي مرتبطة بطبيعة أنظمة الحكم التي توالت على المنطقة المغاربية.
الدكتور إلياس الشريف بنى تدخله على ملاحظتين، إذ كيف يمكن للأستاذ الإدريسي أن يبني حكما قيميا حشر فيه جملة شعوب المنطقة من خلال اعتماده على رواية واحدة “الحمار الذهبي”
الملاحظة الثانية. لقد بنى الأستاذ الإدريسي دراسته للعقل المغاربي من خلال اعتماده على مجالات معرفية محددة شملت الفكر و الفلسفة و الفقه و هي مجالات لها صلة بالعلوم الانسانية. وغفل مجالات معرفية أخرى تساهم بشكل كبير في تحديد ماهية العقل كموضوع خاضع لآليات البحث والدراسة، كفلسفة العلوم والابستمولوجيا.
وختم تدخله بسؤال يستفسر فيه عن إمكانية التسوية بين العقل المغاربي في تاريخيته بنظيره الغربي في القرون الوسطى .
سطر الأستاذ محمد أبركيوي مجموعة من الملاحظات كان من ضمنها أن الإبداع صيرورة تاريخية تتناوب على صياغته أجيال متعاقبة . وشعلة المعرفة تتكامل وتتناوب على حملها الشعوب والأقوام.
الغزالي نظر للتصوف في المشرق ووجدنا صداه بالمغرب لكنه ألجم العوام عن علم الكلام. وابن خلدون باعث علم الاجتماع أسس علما جديدا يختبر من خلاله قوة الشعوب وضعفها في سلم الحضارة.
وطرح قضية الاستفادة من البحوث اللسانية في التعرف على خصائص الشعوب من خلال عقد مقارنات لغوية بين تسمية بعض الإتنيات بأسماء بعض المناطق المجاورة لها، فإسم البربر مثلا له قرابة معجمية باسم إيبيريا التي تعني إسبانيا.
الدكتور يوسف بن الغياثية ركز على مايلي :
إن الابتعاد عن الإيديولوجيا قد جنب المغاربة كثيرا من المآسي وأن المغاربة تاريخيا مبدعون ومبتكرون ونجد هذا مقرونا بكتاباتهم وإنتاجاتهم فيقال العمل السوسي والعمل الفاسي أي تفرد هؤلاء واستقلال آرائهم عن بقية ما جاءهم من الشرق. ولنا في مالك بن نبي وعبد الرحمان بن خلدون مثالان رائعان للإبداع الثقافي المغربي المستقل عن المشرق. وطبيعة المغرب المتسامحة والتي تقبل بالتعددية الثقافية والإتنية مكنت العقل المغربي من شتى صنوف الإبداع.
أما الأستاذ عبد الحفيظ الشريف فقد ناقش الأستاذ في مسائل تتعلق بالمنهج وبدأها بمقولة القطيعة بين الشرق والغرب التي قال بها بعض المستشرقين وتابعهم في ذلك بعض مثقفينا كالجابري.
أما ما تردد من مقولات كبضاعتنا ردت إلينا ومقولة أن العقل المغاربي عقل عملي وأن المغاربة نصوصيون أكثر مما هم مبدعون فإن لها ما يناقضها من الاستشهادات وتحتاج الى تدليل أكثر بالنظر إلى الكم المعرفي الهائل الذي انتجه العقل المغربي في مسيرته التاريخية.
الحديث عن مطلق العقل يحتاج إلى تعريف واضح حتى لا ننسب إليه مقولات ليست من إنتاجه. وتعريف المغرب كمنطقة جغرافية تحتاج إلى تدقيق. ولو أثبتنا الأندلس ضمن المجال المغاربي ربما سوف لن نكون مضطرين للجوء لهذه المقولات.
نفس الشيء مع مصطلح الثقافة وعلاقته بالعقل إذ مازال يطرح أسئلة عدة حتى عند الفلاسفة الغربيين. إن مكمن اللبس في فهم بعض الظواهر الثقافية تكمن في عدم تحديد المفاهيم التي توقعنا في إطلاق بعض الاحكام التي غالبا ما يكون منشأها عدم الوعي بمكامن الخطأ في الفهم والتمثل.
أما نفي الجدل عن العقل المغاربي فهو أمر يحتاج الى تأكيد لأن كتب الفقه في نسختها المغاربية تعج بمقولات الجدل بين الطرح ونقيضه. ولنا في مدونة سحنون خير مثال إذ امتد إشعاعها إلى ما وراء البحار حيث أصبحت مرجعا قانونيا لفقهاء القانون الأوروبي. وفي كتب الأندلسيين مساحات واسعة للجدل شملت الفلاسفة وأهل التصوف وغيرهم. أما كتب العروي والجابري وطه عبد الرحمان فان سمة الجدل هي الطاغية في بسط الأفكار والانتصار لها. الجدل في الثقافة المغربية صفة متجذرة ومتوارثة جيلا عن جيل.
تعليقات الزوار ( 0 )