بداية يصعب من الناحية العلمية السوسيولوجية، تقديم جواب/ أجوبة عن كيف سيعيش المغاربة طقس رمضان في زمن الحجر الصحي، وما سأعبر عنه سيكون عبارة عن تصورات وأفكار أولية لا تعدو أن تكزن انطباعات شخصية، كمواطن أعيش بدوي هذا الطقس، هذا بالرغم من كوني باحثا في سوسيولوجيا الأديان، لكن في ظل غياب دراسة ميدانية، تبقى هذه الأفكار أولية ولحظية ومؤقتة.
أتصور أن العديد من المغاربة بعد تجربة الشهر الأول من الحجر الصحي، قد تعودوا على مجموعة من المسلكيات ومنها العزل الاجتماعي، لكن مع حلول رمضان، ربما يقع تغير أو تساهل في هذا الأمر، خصوصا من الفئات التي لم تدرك بعد خطورة الوباء، وخطورة انتقاله من شخص لآخر. إن تلك الفئات أو الافراد الذين لا زاولوا يعتقدون أن الوباء مجرد “خرافة” وأنه لا وجود له، مثل ما وقع مع تلك المرأة التي صرحت عبر شبكات التواصل الاجتماعي مؤخرا أن الوباء ليس سوى خرافة. إذن نتصور أن بعضا الفئات ستخرق الحجر الصحي وستعتبر طقس الصيام فرصة للتساهل في الاجراءات الاحترازية، وستقوم بزيارة الاهل والأحباب، مما قد يربك كل الاحتياطات التي اتخذتها الدولة سابقا. وقد يدفع البعض بالدعوى أن الموت في رمضان هو شهادة على حسن ايمان المرء، مما يدخل في المخيال السوسيوثقافي المثقل بالتأويلات الدينية لبعض النصوص، والتي تعتبر أن زيارة الاحباب في رمضان جزء من الدين. ولعل ذلك ما يشير إلى أن تعامل المغاربة (أو على الاقل جزء منهم، حتى لا نعمم)، أدخلوا في رمضان طقوسا جعلوها من الدين. كما انهم أدخلوا مجموعة من الخرافات والاساطير والتقاليد التي اصبحت بدورها مقدسة رغم انها ليست من الدين. وهذا ما يؤشر على صعوبة التمييز بين ما هو ديني وما هو ثقافي في الطقس الرمضاني.
ثانيا، لعل من بين الأمور التي تشدك وانت تلاحظ علاقة المغاربة بطقس رمضان/ التراويح، هو اختزال، البعض، هذا الطقس في صلاة التراويح، وكأن رمضان هو التراويح والتراويح هي رمضان. مناسبة هذا الأمر هو تزامن الطقس مع من زمن الحجز، لن نستطيع التعميم، “كل المغاربة”، لأن المغاربة تتضمن عدة فئات وطبقات وخصوصيات سوسيواقتصادية وسوسيوثقافية جد متمايزة، لكن مع ذلك يمكن القول، إن ظروف رمضان ستتغير بشكل كبير، وأول مؤشر على التغير، هو صدمة البعض من استمرار الحجر، خصوصا في منع الصلوات بالمساجد، أو الذهاب للعمرة، أو لزيارة الاحباب والأقارب، هذا علاوة على إحساس بالحزن والقلق(وقد تتبعت بعض التعاليق عبر شبكات التواصل الاجتماعي، وتبين لي ذلك) حيث أن هناك بعض المواطنين والمواطنين الذين عبروا عن رغبتهم في الذهاب للمسجد للصلاة والدعاء، لانه في اعتقادهم أن ذلك سيجلب “رضا الله ومن ثم رفع البلاء/ الوباء”، هذا إذا علمنا أن العديد من المغاربة بل العديد من سكان العالم بدأوا يلتجؤون لله في زمن الوباء، وذلك اعتقادا منهم أن الانسان عقد عجز عن تقديم الدواء/ اللقاح وان لا حيلة أمام البشر مهما علا شأنه وارتفعت مكانته وتقدم في العلم والتكنولوجيا، فإنه يبدو عاجزا امام فيروس لا يرى بالمجهر، لذا فإن اللجوء إلى الله او أية قوى روحية أخرى، قد يكون سببا في التخفيف النفسي عن حالة القلق والعجز واللايقين. خصوصا وأن الطب والعلم لم يحسما الامر في معضلة الوباء الحالي. مما دفع العديد من الأصوات للحدث عن كون الصوم يقضي على الوباء وأن الصلاة شفاء منه، أو غيرها من الاساطير والخرافات التي زاحمت، بل وأسكتت صوت العلم والعقل والطب. وهذا ما يؤشر في نظرنا على عودة للسرديات الكبرى.
إن طقس رمضان، في اعتقاد العديد من المغاربة، هو فرصة للتخفيف عن العجز الوجودي الذي هيمن في المرحلة الأخيرى. لكن الحجر الصحي المفروض من طرف الدولة والذي زكته الهيئات والمراجع العلمية الدينية العليا، قطع كل حظ في الاستمتاع بطقس رمضاني كما كان منذ سنوات. هذا إذا علمنا ان طقس رمضان في تمثل المغاربة، هو طقس مقدس بامتياز، بل إنه أقدس من كل الشعائر الأخرى، كالصلاة والزكاة والحج، لأن مؤشر الصوم بالنسبة للمغاربة، ارتبط في مخيالهم بإقامة الدين وانه دليل على ايمان الفرد بل إنه دليل على التقرب من الله. هذا دون أن ننسى أن هذا الطقس كان على الدوام مرتبط، بالذهاب للمسجد والقيام بمجموعة من الطقوس، حيث تتحول المساجد إلى بيوت ثانية للمواطنين، الذين يستطيبون الجلوس فيها، إما بسماع القرآن، أو الصلاة، أو للنوم أو هربا من هموم الأسرة أو العمل، وفي حالات أخرى، يتحول كملاذ للذين لا يتوفرون على عمل، أو المتقاعدين الذين لا يجدون أين يقضون أوقاتهم. كل تلك الاعتبارات ستغير من نمط الحياة الاجتماعية لجزء من المغاربة، خصوصا الفئات التي لا تتوفر على عمل والمتقاعدين أو الذين لا يتوفرون في منازلهم على الشروط المريحة، كضيق البيت مما كان يحول المساجد إلى متنفسات للترويح عن النفس، أو هروبا من تكاليف الحياة الاقتصادية الصعبة. ولعل ذلك ما يعكس الحجم الكثيف للاقبال على المساجد في رمضان، لا يعود في كليته إلى مؤشرات “التدين” بل إنه في بعض العوامل هو تغيير للمكان (البيوت الضيقة) وقضاء الوقت “الطويل” في بيوت الله وتحت رعايته، وبحثا عن الطمأنينة والسكينة.
من جهة أخرى، شكل طقس التراويح تجربة روحية كبرى، كأنه أهم طقس في رمضان، فهناك من يربط بين الصيام وصلاة التراويح، هذا مع العلم أنها ليست سوى سنة غير مؤكدة. لكن التعامل التقديسي للمغاربة مع طقوس الصيام، جعله يرتفع إلى درجة الطقس الأساس في العملية كلها. لكن مع الحجر سيكون هناك انقلاب في معنى الطقس من الطابع الجماعي إلى الطابع الفردي (الصلاة في البيوت) هذا الانقلاب ليس سهلا على عينات كبيرة من المغاربة، الذين لن يحسوا بمتعة الصلاة خلف قارئ جيد يرتل القرآن بطريقة مؤثرة. لذا سمعت بعضا من أفراد المجتمع، من قال لي سأحن (نوستالجيا) إلى صلاة التراويح هذا العام، بل إن البعض قال، ستبكيكم المساجد، وسنبكي على فراقها. بيد أن هؤلاء لا يحسون بأي إحساس عندما يرون شعوبا تحقق تقدما وتفوقا في التكنولوجيات والعلوم والطب، وهذا مأزق فكري يعيشه العقل المسلم.
من خلال الاستناد لتقنية –الملاحظة بالمشاركة-، نلاحظ أن طقس التراويح، هو فرصة للتفريغ النفسي والاجتماعي عن الضغوطات التي يعيشها المواطن المغربي، سواء الذين يعيشون ظروفا صعبة في الحياة، والذين ستكاثرون هذه السنة، بسبب الوباء- أو أولئك الذين يعيشون على وقع التوتر في حياتهم بين النموذج المعياري للدين و السلوكات اليومية التي يعتبرونها متناقضة مع الدين “الحقيقي”، أو تلك المرأة التي تعيش على وقع الضغوط العائلية والاسرية، كل أولئك يجدون في طقس التراويح فرصة للتفريغ النفسي والاجتماعي واللجوء إلى الله. وذلك لا يعكس مستوى الايمان أو التدين، بقدر ما يعبر في اعتقادنا عن حالة باتولوجية بين بعض المغاربة وعلاقتهم بالطقوس، إذ لا يتصورن الايمان والالتزام والتقرب إلى الله إلا بإقامة الشعائر (الطقوس) ويتناسون أن الطقوس ليست سوى مظهر بسيط من الدين وليست كل الدين. إنه انقلاب بين منطق تقديس الشعائر على حساب جوهر الدين.
من جهة أخرى،بدون ش سيكون للحجر الصحي، انعكاسات عن المعيش اليومي للمغاربة، ففيما يخص طقس الاستهلاك، والذي يرتفع بالمناسبة ثلاث أضعاف عما هو في باقي السنة، (يمكن أن نشير إلى رقم يخص استهلاك البيض وصل في السنة الماضية إلى 840 مليون بيضة في رمضان)، بيد أن هذه السنة، وبحكم التأثير الاقتصادي لبعض الأسر والتي فقدت نسبيا أو كليا بعض المداخيل، فبالتأكيد سيتأثر الاستهلاك. لكن بقية المغاربة أو الاسرة التي لديها إمكانيات مستقرة، كالطبقات الوسطة العليا والمتوسطة، والتي لم تتأثر في مداخيلها، فأتصور أن تحافظ على الطقس الاستهلاكي، وربما أكثر لأن الغالبية اليوم تجلس في البيت، وخصوصا فئة النساء اللواتي كن يشتغلن، فربما سيتحول جزء من ما كانت تقضينه في عملهن من زمن إلى التفنن في إعداد الوجبات و الشهويات (Feasting au lieu fasting).
بيد أن أهم تحول يمكن ان نتصوره في ظل الحجر الصحي، هو غياب الأجواء الرمضانية المسائية ما قبل رمضان، خصوصا في المدن العتيقة والاحياء الشعبية، والتي كانت تتميز بكثرة التجول والخروج إلى الشارع وكثرة الذين يبيعون كل شيء، ومن بين ما تميزت به هذه الأجواء هو سيادة العنف اللفظي والبدني والرمزي بين المارين والبائعين إلى درجة تدخل السلطات لفض النزاعات التي تتحول في بعض الحالات إلى صراع دموي (ما نطلق عليه نحن المغاربة، الترمضينة) وهو مرتبط بالذين تعودوا على التعاطي للسجائر أو المخدرات أو الذين يسهرون الليل، قد يدفع بهم إلى غضب وعنف في جميع الاتجاهات، لذا نتصور أن يتحول ذلك إلى عنف داخل البيوت والمنازل وبين أفراد الاسر، خصوصا الاسر التي تعرض ضيقا في المنازل وتكدسا وقلة الامكانيات، وربما سنشهد عنفا على النساء وعلى الأطفال (كما نعلم فإن المدارس معطلة هي الاخرى، بسبب الحجر الصحي) مما سيزيد من أتعاب بعض الأسر المغربية. و لعل في هذا الأمر ما يحتاج إلى اهتمام كبير بهذه الفئات لتدبير الأزمة الوبائية، وإلا فإن الوضع قد يؤثر بشكل كبير على حياة هذه الاسر. فمن جهة هناك الضغط السكني ومن جهة اخرى قلة الموارد، وينضاف إليه الصوم، مع ما يعنيه من تغير في نمط الحياة اليومي، وغياب المتنفسات سواء الدينية أو الرياضية أو الثقافية أو الترفيهية و ما إلى ذلك، هذا دون أن ننسى كيف سيتعامل بعض الأسر مع من لا يمارس طقس الصيام، مما قد يضيق على الحريات الفردية داخل المجالات الخاصة، بعدما كان يضيق عليهم في المجالات العامة، باسم القانون وباسم الاخلاق وباسم التقاليد المرعية؟.
وهذا لا يعني أن كل الاسر تعيش على وقع هذه الاضطرابات والتحولات، فبالنسبة للأسرة التي تمتهن مهنا ذات طبيعية فكرية (كالتعليم والادارة والقضاء والشركات والمؤسسات التي يعتمد عملها على العمل عن بد) ربما سيكون لها فرصة تنظيم الوقت بحيث يتم الاستفادة منه بالشكل الأمثل وبشكل خاص الصحافيون والمدرسون والباحثون. بينما الاسر الأخرى، سيتحول وقتها بين الوجبات والنوم إلى التوجه للتلفاز والانترنيت، سواء لمتابعة الاخبار (خصوصا ما يتعلق بالوباء) أو الافلام والمسلسلات. وربما مع بدء الحجر في 20 من مارس الماضي، تحولت هذه الاسرة إلى هذا النمط المعيشي الذي تحدثنا عنه. مع ما فيه من ملاحظات، كثرة الأكل أو النوم في أوقات متباعدة أو عدم القيام بالأنشطة الرياضية، أو قد يسبب نوعا من الادمان على الانترنيت والذي له تداعيات على الحياة الطبيعية للكان البشري على مستوى الصحي والنفسي والاجتماعي.
لا شك أن الحجر الصحي سيغيب الاجواء الاحتفالية التي صاحبت طقس رمضان، والتي كانت تعتبر متنفسا جماليا لهذا الشهر، لكن قد نشهد تحولها عبر النت، مثل ما وقع في العديد من الفعاليات الاحتفالية التي أطلقتها مثلا السنفونية الفرنسية مع بداية الحجر الصحي بفرنسا، أو السنفونية الايرانية أو غيرها. ولهذا فسيصبح الفضاء العنكبوتي هو الفضاء البديل للمغاربة للتعبير عن إبداعاتهم وفنونهم. بيد اننا سنشهد تعميقا للفوارق في الاستفادة من ذلك، خصوصا إذا علمنا ان العديد من الفئات والمناطق لا تتوفر على تغطية للانترنيت (وقد ظهر ذلك مع تجربة التعلم عن بعد، رغم ما يمكن تسجيله عليها من مؤاخذات ونواقص).
بيد أنه لا يجب أن ننسى أن مجموعة من المغاربة قد لا يلتزمون بالضوابط التي فرضتها السلطات العمومية للحجر الصحي، وقد أظهرت الارقام الاخيرة التي سجلتها بعض الصحف، أن ما يناهز 40 ألف شخص خرقوا الحجر الصحي، وأن 21 ألف وضعوا رهن الاعتقال الاحتياطي، وسيحالون عن النيابة العامة للنظر في ملفاتهم. وإذا انضاف معه طقس الصيام الذي يعتبره البعض حبسا للنفس طيلة اليوم، فإنه من حقه أن يروح عن نفسه في الليل، بالخروج من البيت، لذا قد نشهد توترا بين هؤلاء وبين السلطات العمومية، وقد يضرب في الصميم كل الاجراءات الاحترازية التي تم اتخاذها في السابق، خصوصا في الاحياء الهامشية والمكتظة والتي تعيش وضعا سوسيو اقتصاديا وسوسيومجاليا جد مزريان.
وعلى العموم، فإن طقس الصيام، يشكل مادة خصبة لاجراء بحوث ميدانية، للتأكد من بعض هذه الانطباعات التي عبرنها عنها في هذا المقال السريع والتفاعلي في موضوع راهني ويشغل الخاص والعام.
* *أستاذ علم الاجتماع/ جامعة مولاي إسماعيل/ مكناس/ المغرب
-عضو الجمعية الدولية لعلماء الاجتماع/ مدريد/ إسبانيا
-عضو المجلس العربي للعلوم الاجتماعية/ لبنان/ بيروت
تعليقات الزوار ( 0 )