Share
  • Link copied

جحاح يقدم قراءة حول الاستطلاع بخصوص ارتفاع معدل الجريمة بالمغرب

بطبيعة الحال، وارتباطا بنتائج الاستطلاع، ليس هناك ما يثبت العكس بخصوص التنامي المستمر للظاهرة الإجرامية بالمجتمع المغربي اليوم. فتطور الإجرام كما وكيفا، أصبح السمة المميزة لهذا المجتمع، ارتباطا طبعا بما يعيشه من مشاكل اقتصادية واجتماعية وسياسية…ونظرا أيضا لما قد يعنيه تيار العولمة الجارف، في هذا السياق، من تداعيات؛ ليس أقلها ما أصبح يعرف بعولمة الجريمة، أو الجريمة العابرة للحدود (التهريب، الإرهاب، جرائم المال والإنترنت…).

إن واقع الإجرام بهذا الشكل، أصبح يهدد أكثر فأكثر استقرار وأمن الأفراد والجماعات من داخل المجتمع. بل أكثر من ذلك، قد يشكل الإجرام في بعض مظاهره المنظمة تهديدا حقيقيا لأمن الدولة والمجتمع الكلي؛ خاصة جرائم الإرهاب.

إننا هنا أمام ظاهرة اجتماعية معقدة ومتعددة الأبعاد، هذا إذا سلمنا سلفا بخطورتها؛ الأمر الذي  يستوجب معه القيام بأبحاث سوسيولوجية رصينة لفهم منطقها ومسارات تشكلها وتطورها. وربما في هذا السياق يمكن أن نفهم أيضا الاهتمام الإعلامي بالموضوع، والنموذج هنا باستطلاع الرأي الذي أعدته مجلتكم الإلكترونية المحترمة (هسبرس) حول أسباب انتشار الجريمة بالمغرب؛ لنعد إذن إلى الاستطلاع.              

بداية لا بد من إبداء بعض الملاحظات المنهجية بخصوص هذا الاستطلاع، سواء من حيث السؤال الموجه، أو من حيث العينة المستهدفة، أو من حيث الإجابات ونسبة كل فئة منها بحسب الترتيب؛ وفق أهمية كل عامل على حدة في تفسير انتشار الجريمة بالمغرب: (العامل الأمني، العوامل الاقتصادية والاجتماعية، عامل الإعلام، دن أن نغفل فئة من لا رأي لهم).

فمن حيث السؤال عن أسباب انتشار “الجريمة” بالمغرب، يجدر بنا أن نتساءل أولا عن أي أنواع الجريمة نتحدث؟ فالجريمة، من منظور سوسيولوجي -(حتى لا نتحدث هنا عن كل من الجنوح La délinquance والانحراف  La dévianceالأقرب إلى القاموس السوسيولوجي)-  ليست معطى قائما بذاته، أو دالا يحيل على مدلول محدد، بل هي بناء اجتماعي بالأساس، يتداخل فيه النفسي والاجتماعي والاقتصادي والثقافي والقانوني والسياسي والمجالي…ولعل هذا ما يمنحنا مشروعية الحديث عن أنواع الجرائم واختلافها: (الجرائم الاقتصادية، الجرائم السياسية، جرائم الإرهاب، جرائم المخدرات، الجرائم الرقمية، الجرائم الجنسية، جرائم القتل، جرائم السرقة، جرائم التسول، جرائم النصب، الجرائم الانتخابية…). وحتى إذا افترضنا الحديث عن ظاهرة محددة، وأردنا السؤال عن مدى انتشارها، وأسباب ذلك، وانعكاساتها على مستوى البناء الاجتماعي؛ يجدر بنا الحديث هنا عن ظاهرة الإجرام La criminalité، باعتباره كمفهوم يحيل على مجموع الجرائم التي يعرفها مجتمع محدد، في مرحلة أو فترة زمنية محددة… إن الإجرام إذن يبقى أشمل من الجريمة Le crime، وهذا موضوع آخر يجرنا إلى التمييز بين المقاربتين القانونية والسوسيولوجية. أما إذا عدنا إلى مفهوم الجريمة، فينبغي التمييز طبعا بين أنواع الجرائم كما ذكرنا، لأن لكل نمط منها منطقه الخاص وفاعلوه وأسبابه وتمظهراته التي قد تختلف، حتى من داخل نفس النمط من الجرائم، وذلك بحسب اختلاف دلالات المتغيرات المحددة له: (الجنس، السن، المستوى الثقافي، المجال، المهنة، السكن…)، وبحسب اختلاف شروط المكان والزمان أيضا؛ فالجريمة نفسها تختلف من مجتمع إلى آخر، باختلاف الثقافات، وحتى من داخل نفس المجتمع بحسب مراحل تطور هذا المجتمع واختلاف ثقافاته الفرعية.

هذا من جهة، ومن جهة أخرى، وبحكم الطبيعة المعقدة لظاهرة الجريمة، لا يمكن الاطمئنان إلى عامل بعينه في تفسير الظاهرة، سواء كانبثاق أو كسيرورة وتطور؛ أو كما جاء في سؤال الاستطلاع حول “أسباب انتشار الجريمة”. فما الذي يبرر نظريا وميدانيا حصر الأسباب المفترضة لهذا الانتشار في العوامل الثلاثة التالية: (الأمنية، السوسيو-اقتصادية والإعلامية)؟ هذا على الرغم من أهميتها طبعا.

لعل ما يدفعنا إلى طرح هذا السؤال بالذات، هو من جهة عدم كفاية هذه العوامل في التفسير، بل أبعد من ذلك، غموضها ومطاطيتها، إن جاز هذا التعبير. فما الذي نقصده بضعف أداء رجال الأمن؟ خاصة وأن نسبة 47.88 %  من العينة عزت انتشار الجريمة إلى هذا العامل؛ بمعنى آخر هل يمكن اختزال ظاهرة بمثل هذا التعقيد إلى مجرد مسألة أمنية؟ وحتى لو سلمنا بهذا المنطق، كيف نفسر ضعف أداء رجال الأمن هذا؟ هل هو يعكس ضعفا (عدديا) على مستوى التوظيف؟ أم ضعفا على مستوى التأطير والتدبير؟ أم لأن هناك أسباب أخرى بنيوية تعرقل، أو على الأقل تقلص من فعالية الأداء لدى رجال الأمن؟ ربما نحن هنا إزاء مساءلة السياسة الجنائية برمتها والمؤسسات المرتبطة بها، وليست مؤسسة الأمن سوى واحدة منها؛ فهل هناك تكامل وانسجام بين هذه المؤسسات الجنائية، في إطار نوع من الاستقلالية الذاتية (الأمن، القضاء، السجن، الإصلاحيات)؟ وإلى أي حد وكيف تساهم جميعها في إحقاق عدالة جنائية، كمدخل فعلي نحو مكافحة الجريمة والحد منها، إلى جانب مداخل أخرى طبعا؟  وبالانتقال إلى العامل الثاني لانتشار الجريمة، كما جاء في نتائج الاستطلاع، نجد نسبة 143 .2 % من العينة المستهدفة تتحدث عن أسباب اقتصادية واجتماعية. صحيح جدا أن الفقر والهشاشة والعطالة وتعاطي المخدرات والهامشية الاجتماعية والاقتصادية، والتي يزكيها غياب سياسة تنموية شاملة وعادلة بين الجهات والفئات، كل هذه الأسباب وغيرها قد تساعد في تفسير انتشار بعض مظاهر الإجرام، لكن ليس بالضرورة تفسير واقع الإجرام بالمغرب. فأين هو دور العوامل الثقافية والإيكولوجية/المجالية والنفسية والتربوية (سواء تعلق الأمر بمؤسسة الأسرة أو المدرسة أو الإعلام)؟ بل أكثر من ذلك، فإن هناك بعض الجرائم التي أصبح يعرفها المجتمع المغربي اليوم، وعلى غرار باقي المجتمعات الأخرى، لا يمكن تفسيرها بمثل هذه العوامل السوسيو-اقتصادية (كالفقر والهامشية…)، ونعني هنا بالضبط جرائم الياقات البيض: (جرائم المال، التهرب الضريبي…)، دون أن ننسى جرائم الإرهاب والإنترنت وغسيل الأموال…

جانب آخر من الغموض يتضمنه العامل الثالث، أي المتعلق بالإعلام. فكما تبين نتائج الاستطلاع، فإن نسبة  % 07.92  من العينة المستهدفة ترجع أسباب انتشار الجريمة إلى عامل تأثير وسائل الإعلام. لكن، ما الذي نعنيه بهذا التأثير؟ وإلى أي حد يمكن إثبات ذلك علميا؟ ربما يتعلق الأمر هنا، ببعض أنواع من الانحراف، خاصة لدى الأحداث والمراهقين، والتي يفترض ربطها بعامل تأثير بعض البرامج التلفزية؛ خاصة أفلام الحركة والعنف؛ مما يعزز الميول العدوانية لديهم. هذا ولا يستثنى من هذا التأثير حتى الكبار والراشدون، خاصة لما يتعلق الأمر ببعض الفضائيات، والتي لا تكف عن إنتاج برامج دعوية فيها كثير من التشجيع على العنف وتمجيده، مع تبخيس ونبذ لكل قيم التسامح والتعايش. ناهيك طبعا عما تنقله الفضائيات، وبشكل يومي ومباشر، من صور الحرب والقتل والدمار عبر العالم…لكن رغم كل هذا، ليس هناك ما يثبت صحة هذه الفروض، في غياب أبحاث ميدانية ومقارنة حول الموضوع.

أخيرا تأتي نسبة 0.99 % من عينة المشاركين في الاستطلاع (عدد المشاركين 53072) ، والتي صنفت بدون رأي، ولعل هذا موقف قد ينبني إما على جهل بالموضوع، أو على العكس من ذلك تماما، على وعي عميق بصعوبة الجزم في ظاهرة بمثل هذا التعقيد، وردها إلى عامل محدد. 

في الواقع، هذا ما انطلقنا منه في هذه القراءة، بتشديدنا على أن الجريمة ظاهرة معقدة ومركبة، مما يعني استحالة الوقوف على تعريف موحد ومحدد للظاهرة الإجرامية؛ ولعل هذا ما يعكسه بصدق المتن النظري الذي تبلور وتطور في مجال علم الإجرام La criminologie وسوسيولوجيا الجنوح والانحراف. فسيزار لومبروزو حاول تفسير الجريمة من خلال عوامل تخص شخص المجرم، وتكوينه البيولوجي (المجرم بالفطرة/ Le criminel-nè)؛ كما حاول طارد تفسيرها بعامل المحاكاة L’imitation. أما دوركايم فاقترح مفهوم الأنوميا أو اللامعيارية L’anomie لتفسيرها؛ وفي نفس الاتجاه الوظيفي حاول ميرتون تفسير الانحراف بعامل التوتر La tension بين الأهداف التي يشرعنها النظام الثقافي/الرأسمالي (الثراء والنجاح الاجتماعي) وبين المعايير والقواعد الاجتماعية والقانونية الصارمة، التي تفصل بين الفعل السوي والمنحرف لبلوغ هذه الأهداف. أما عن مدرسة شيكاغو، فهناك مدخلان أساسيان لتفسير كافة أشكال الإجرام والانحراف، والأمر يتعلق طبعا بالعامل الثقافي والعامل الإيكولوجي/المجالي. وبخصوص نظرية الضبط الاجتماعي Le contrôle sociale، فإن تفسير الانحراف يعود إلى مدى قدرة أو عدم قدرة وسائل الضبط الغير رسمية Informel على جعل الامتناع عن الانحراف والجنوح أمرا ممكنا، في وسط اجتماعي ينتج ويشجع الجريمة. أما فيما يتعلق بنظريات الوصم La stigmatisation والوسم L’étiquetage، فإن الجريمة كشكل من أشكال الانحراف، هي صناعة المجتمع بامتياز؛ وذلك عن طريق وصم ووسم الأفعال المفترض أنها منحرفة في تعريف وتوافق مجموعة اجتماعية، وبالتالي إلصاق صفة منحرف/مجرم على فاعليها.

وإذا انتقلنا إلى نظرية الزجاج المكسور أو النوافذ المهشمة La vitre cassé ، فإن تفسير الجريمة يتم على أساس العامل الأمني، بحيث كلما كانت يقضة رجال الأمن أكبر، كلما تمت محاصرة الجريمة في مهدها (التركيز هنا على الأمن الاستباقي وشرطة القرب). أما بخصوص نظريات الفعل الإجرامي، أو المجرم كفاعل عقلاني، فالجريمة تفسر بكونها إستراتيجية تنم عن قدرة الشخص المجرم على القراءة الجيدة للوضعيات، وتصيد مواطن الشك واللايقين Les zones d’incertitude  لتنفيذ مشاريعه الإجرامية. وبخصوص النظرية الماركسية، في إطار ما يعرف بعلم الإجرام الجديد، ف(الجريمة) لا يمكن فهمها وتفسيرها إلا في إطار علاقات القوة والصراع ما بين الطبقتين البرجوازية والبروليتارية في ظل النظام الرأسمالي القائم، على اعتبار أن ما يسمى (جريمة) في هذا السياق هو نتيجة مباشرة للتوزيع اللامتكافئ للثروات، والاستنزاف المستمر للطبقة البروليتارية؛ وعلى هذا الأساس فإن ما يصنف انحرافا، ليس في الحقيقة سوى شكلا من أشكال خوض الصراع ضد الاستغلال والحيف الطبقيين.

علاوة على كل ما تقدم، يجدر التنويه إلى وجود نظريات أخرى، من قبيل نظرية الاختلاط التفاضلي L’association différentielle  لسيذلاند، وهي تطوير لبعض أفكار طارد بخصوص مبدأ المحاكاة، دون أن ننسى الإشارة إلى بعض النظريات المعاصرة، التي اهتمت بدراسة الأشكال المنبثقة الجديدة لظواهر الانحراف والإجرام، من قبيل جرائم الطرق والنصب والاحتيال الرقمي…وهي عادة ما تعرف بجرائم الدهاء Les crimes astucieux, وفي نفس السياق أصبح الاهتمام أكثر بما يعرف بجرائم الياقات البيض والجرائم السياسية والجريمة المنظمة بكل أنواعها…

أمام كل هذا إذن، هل يبقى هناك من مبرر للاطمئنان إلى أي نوع من أنواع التحليل الأحادي العامل، لظاهرة متداخلة الأبعاد والأسباب؛ لعل هذا سؤال يؤكد على أكثر من مستوى مأزق أي تصور وضعي وعلموي. 

* أستاذ السوسيولوجيا والأنثروبولوجيا بجامعة مكناس

Share
  • Link copied
المقال التالي