يجسد مفهوم القوة في العلاقات الدولية أحد المحددات الرئيسية لفهم سلوك الدول، وتعرف بأنها “القدرة على التأثير في سلوك الآخرين للحصول على النتائج التي يتوخاها المرء”، كما تعد أساسا محوريا لمعرفة مدى إمكانيات الدول وقدرتها على أن تكون مؤثرة في السياسة الدولية، خاصة محدد القوة العسكرية، فالدول التي يكون بمقدورها التأثير في السياسة الدولية هي التي تمتلك أكبر حجم من الجيوش المجهزة بأحدث الأسلحة وبعتاد عسكري جد متطور، إذ يكون بإمكانها التدخل لحماية مصالحها الداخلية والخارجية، بالاستعانة بجيشها القوي القادر على كسب المعارك في الميدان، وهذا ما يعطيها ميزة على خصومها أو تساعدها قوتها العسكرية الهائلة في حماية أمنها والحفاظ على بقائها، مما يحول دون تعرضها لهجوم أو تعطيل مصالحها الخارجية.
بيد أن مفهوم القوة العسكرية لم يعد كافيا لتحديد ما إن كانت الدول قوية أم لا، لأن تطور العلاقات الدولية أفرز محددات أخرى وأنواع جديدة من القوة، ولم يعد محصورا فقط على الجانب العسكري، بحكم ظهور دول قوية عالميا لكنها لا تمتلك مقومات القوة العسكرية أو بروز دول قوية عسكريا لكنها ضعيفة اقتصاديا، وهذا ما يعني بأن هناك عوامل أخرى لتعريف القوة، لعل أبرزها القوة الاقتصادية وحجم الثروة الباطنية أو المنتجة والموقع الجغرافي الاستراتيجي وعدد السكان والمساحة الجغرافية والقيم الثقافية وطبيعة القيادة السياسية، وغيرها من المحددات التي يستعان بها لتصنيف الدول إلى القوية/الضعيفة، الغنية/الفقيرة، الكبرى/الصغرى، العظمى/غير العظمى..
تحاول هذه المقالة معالجة تطور مفهوم القوة في العلاقات الدولية من خلال عرض ستة أنواع من القوة، والتي تمت معالجتها من طرف بعض المدارس والنظريات في حقل العلاقات الدولية، كالمدرسة الواقعية والليبرالية المؤسساتية والبنائية.. إضافة إلى مفاهيم أخرى ظهرت مع التطورات والمتغيرات الجديدة بحقل العلاقات الدولية كظهور فيروس كورونا المستجد (كوفيد19)..
أولا: المفهوم التقليدي للقوة.. القوة الصلبة Hard Power
ارتبط مفهوم القوة بالنظرية الواقعية في حقل العلاقات الدولية، حيث تعتمد جل اتجاهاتها على مفهوم القوة كمحدد رئيسي لفهم سلوك الدول، لأن فوضوية النظام الدولي تضع الدول أمام المعضلة الأمنية، فتتجه الدول إلى تعظيم قوتها إما بالزيادة النسبية في القوة بغية التفوق على خصومها (الواقعية الهجومية) أو بالحفاظ على وضعها الراهن الذي يضمن لها التوازن في القوة مع غيرها من الدول بالنظام الدولي (الواقعية الدفاعية) من خلال بناء تحالفات وتطوير آليات التعاون الدولي، ويرى الواقعيون بأن القوة وسيلة، بينما الغاية منها هي تحقيق الأمن والبقاء، فالدول تتصرف بطريقة عقلانية لحماية مصالحها الخاصة، لذلك تولي أهمية قصوى للقوة باعتبارها الوسيلة التي تمكنها من تحقيق ذلك.
وقد تطور مفهوم القوة مع المدرسة الواقعية، حيث تبلور معها مفهوم القوة الصلبة التي ترتكز على “الأداة العسكرية كمحور لها” وتعتمد على الإكراه “والتأثير بالتهديد والضغط”، لكن الاتجاهات الواقعية الحديثة أضافت محددات أخرى للقوة كالاقتصاد والثروة، إذ يقسم جون ميرشايمر John Mearsheimer في كتابه “مأساة سياسة القوى العظمى” الصادر سنة 2001، القوة إلى نوعان، القوة الكامنة (المساحة الجغرافية الشاسعة؛ عدد السكان الهائل؛ الثروة؛ الموقع الجغرافي؛ التصنيع) والقوة العسكرية، حيث “تشكل الأولى أساس الثانية”، لكنه يرى بأن الدول الغنية ليست بالضرورة هي دول قوية، لأنها تعتمد في أمنها على الغير (نموذج اليابان وألمانيا)، لهذا فإنه يركز على المعيار العسكري لتعريفه للقوة، والتي تتكون من أربعة أنواع “البرية والبحرية والجوية والنووية”، في حين يعتبر “القوة البرية هي المكون الأساسي للقوة العسكرية”، بحكم أن المعارك تحسم بفعل جاهزية الجيوش في الميدان.
لذلك، فمفهوم القوة عند الواقعيين يستند على الموارد المادية الملموسة كالجيوش وقدرة الدول على استعمال قوتها العسكرية في جميع مناطق المعمور، أي الدول التي تمتلك قوة عسكرية هائلة بالإضافة إلى القوة الاقتصادية الممكن أن تمارس بها الضغط عبر العقوبات، الأمر الذي يضعها ضمن مصاف القوى العظمى، بينما الدول القوية اقتصاديا دون القوة العسكرية هي دول غير قادرة على حماية أمنها إلا بالاعتماد على الغير، لكن إذا حولت قوتها الاقتصادية إلى قوة عسكرية آنذاك تصبح قوة منافسة بالنظام الدولي، لكن هذا التعريف يثير الكثير من الإشكاليات لأنه أولا، لا يقحم دول قوية اقتصاديا ضمن مصاف القوى العظمى بسبب ضعف قوتها العسكرية لأسباب متداخلة، وثانيا، لكونه يعتبر الدول الصغرى من حيث المساحة الجغرافية والسكان والقوة العسكرية والاقتصادية ليست قوى ذات وزن أو تأثير كبير بالنظام الدولي، لأن هذا الأخير تتحكم في صناعة سياسته وترسم قواعده القوى العظمى.
ثانيا: جوزيف ناي ومفهوم القوة الناعمة Soft Power
ارتبط مفهوم القوة الناعمة بجوزيف ناي Joseph Nye أحد رواد المدرسة الليبرالية المؤسساتية، إذ يعد من المروجين لهذا المفهوم منذ سنة 1990، ليطوره من خلال كتابه “القوة الناعمة: وسيلة النجاح في السياسة الدولية” الصادر سنة 2004، حيث استهله بالقول “قبل أربعة قرون نصح نيكولا ميكيافيلي الأمراء في إيطاليا بأن يكون المرء مخوِّفا أكثر ما يكون محبوبا، ولكن الأفضل في عالم اليوم أن يكون المرء مالكا لهاتين الصفتين معا، فقد كان كسب القلوب والعقول مهما على الدوام، ولكن الأهمية أكثر في عصر المعلومات المعولم”، ويرتبط مفهوم القوة الناعمة بالقدرة على التأثير في الآخرين واستمالة الناس والإغراء، إذ تعرف بأنها القوة الجذابة، أي الإقناع على مسايرة الآخرين بدون تهديد واضح، أما مواردها فهي الموجودات التي تنتج مثل هذه الجاذبية كالشخصية الجاذبة أو القائد الملهم والمبادئ والمنظومة الثقافية والفن والإعلام والمؤسسات والقيم السياسية والأخلاق، ثم “السياسات التي يراها الآخرون مشروعة أو ذات سلطة معنوية أخلاقية”.
وتتبلور القوة الناعمة عند جوزيف ناي وفق كتاب ” القوة الناعمة”، وكتاب “مستقبل القوة” الصادر سنة 2010، على مصادر ثلاث لكل دولة “ثقافتها (حيث تجتذب الآخرين) وقيمها السياسية (حين تتمسك بأهدافها سواء في الداخل أو الخارج) وسياستها الخارجية (حين يراها الآخرون مشروعة وذات سلطة معنوية)”، كما يضيف ناي بأن هناك مصادر أخرى غير الثقافة والقيم والسياسات، إذ يمكن للقوة الاقتصادية والعسكرية أن يشكلان مصدرا للقوة الناعمة، حينما تنجذب الدول نحو نماذج في النجاح الاقتصادي والتطور العسكري، إضافة إلى أن القوة الناعمة تمارسها أيضا اتحاد الشركات والمؤسسات والمنظمات غير الحكومية والفاعلين الآخرين بالعلاقات الدولية من غير الدول.
إن استعمال القوة الناعمة حسب جوزيف ناي يتم بشكل حسن أو سيئ شأنها شأن باقي أشكال القوة، كما أن هذا المفهوم لا يتعارض حسب زعمه مع الطرح الواقعي للقوة، فهي وسيلة للوصول لنتائج منشودة، بل يستدل بالواقعيين التقليديين كإدوارد هاليت كار (1939) الذي صنف القوة إلى ثلاث فئات “القوة العسكرية والقوة الاقتصادية والقوة المسيطرة على الرأي”، ورغم أن ناي يندرج ضمن الليبرالية المؤسساتية، فإنه يوصف “بالواقعي الليبرالي”، حيث يجد مفهومه للقوة صداه في الكتابات الواقعية، إذ على غرار هاليت كار، يجادل البعض بأن هذا المفهوم عالجه الواقعي التقليدي هانس مورغانتو “الذي قصد بها السيطرة على عقول الآخرين وأفعالهم”، لذلك فإن مفهومه يتعرض لانتقادات كثيرة، حيث يعتبر البعض بأن مساهمة جوزيف ناي وروبرت كيوهن مجرد “تعديلا للواقعية أكثر من كونه إطار عمل لفكر جديد يمكن أن يحل محل الواقعية”. (أنظر: جهاد عودة، النظام الاجتماعي والاستراتيجي الأمريكي المأزوم، كنوز للنشر والتوزيع، القاهرة، الطبعة الأولى 2013).
ثالثا: المزج بين القوة أو مفهوم القوة الذكية Smart Power
وظف هذا المفهوم من طرف سوزان نوسل Suzanne Nossel في مقال منشور بمجلة Foreigns Affairs بتاريخ 21 يناير 2004، وتم الترويج له من طرف جوزيف ناي وريتشارد أرميتاج Richard L. Armitage and Joseph S. Nye في تقرير لمركز الدراسات الإستراتيجية والدولية (CSIS) سنة 2007، تحت عنوان Smart Power A smarter, more secure America، كما أشار إليه أيضا جوزيف ناي في كتابه “مستقبل القوة” الصادر سنة 2010، ليصبح هذا المفهوم متداول على نطاق واسع باعتباره شكلا من أشكال القوة.
ويوصف مفهوم “القوة الذكية”، بالقدرة على المزج بين القوة الصلبة والقوة الناعمة والجمع بينهما، أي أنها تعتمد على المحدد الصلب للقوة من خلال الجيوش والترسانة العسكرية والقوة الاقتصادية، بالإضافة إلى الاستثمار في الشراكات والتحالفات والتأثير الدولي عن طريق القيم والثقافة والسياسات، فالدول التي تستطيع توظيف هذا المفهوم تحقق نتائج غاية في الأهمية، إذ غالبا ما تتجه الدول الصغرى إلى استعمال هذا المفهوم من خلال الاستثمار في إمكانياتها الذاتية المحدودة لغاية الحفاظ على مصالحها، بحكم أنها شكل من القوة يمكن من خلاله للقوى الدولية التي لا تمتلك المقومات اللازمة للقوة الصلبة من البروز في الساحة الدولية والتأثير في محيطها الإقليمي والدولي.
رابعا: القوة الإلكترونية أو السبرنيتية Syber Power
ظهر هذا المفهوم ضمن مساهمات لمجموعة من المؤلفين بكتاب جماعي صدر سنة 2009 تحت عنوان “Cyberpower and National Security”، عن جامعة نبراسكا، من بينهم دانيال كويل Daniel T. Kuehl في مقالته “من الفضاء الإلكتروني إلى القوة الإلكترونية: تحديد المشكلة From Cyberspace to Cyberpower: Defining the Problem “، ثم وظفه جوزيف ناي Joseph S. Nye, Jr في ما بعد بمقال منشور في ماي 2010 بمركز بلفور للعلوم والشؤون الدولية، كلية كينيدي جامعة هارفرد، تحت عنوان “القوة الإلكترونية Syber Power”.
وقد ارتبط هذا المفهوم بالتطور التكنولوجي الهائل الذي شهده العصر، حيث يقصد بالقوة الإلكترونية “امتلاك المعرفة التكنولوجية والقدرة على استخدامها، من خلال استغلال الفضاء الالكتروني للتأثير على الأحداث التي تجري عبر البيئات التشغيلية”، ويتم توظيف الفضاء الإلكتروني لتحقيق مزايا أخرى قد تندرج ضمن القوة الصلبة أو الناعمة أو الذكية والحادة، في حين يرتبط هذا النوع من القوة حسب جوزيف ناي بثلاثة فاعلين “الدولة.. الفاعلين من غير الدول.. الأفراد”، كما تتطلب هذه القوة عدة محددات من بينها البنية المعلوماتية المتطورة والأجهزة الإلكترونية القادرة على الربط والبرمجيات والمهارات المدربة. ( أنظر: إيهاب خليفة، القوة الإلكترونية.. كيف يمكن أن تدير الدول شؤونها في عصر الأنترنت؟ “الولايات المتحدة نموذجا”، العربي للنشر والتوزيع، القاهرة، الطبعة الأولى 2017).
جدير بالذكر إلى أن هناك الكثير من الدراسات التي تناولت موضوع التأثير الإلكتروني، لكن هذا التأثير أضحى يندرج ضمن أحد أدوات الصراع الدولي بين القوى العالمية، وصارت القوة الإلكترونية أحد المحددات التي تخلق الفارق من خلال الهجمات الإلكترونية التي تستهدف المواقع الرسمية للمؤسسات والبنيات الإلكترونية، الأمر الذي يؤدي إلى عمليات القرصنة وتعطيل الأجهزة وسرقة المعلومات والبيانات الحساسة، إذ يصل خطورة هذا الأمر للتأثير في الأجهزة الإلكترونية المتحكمة في الأسلحة من خلال التشويش عليها وتعطيل عملها أو التحكم فيها، حيث يشهد عالم اليوم العديد من الأحداث المشابهة، سواء بين أمريكا وخصومها كالصين وإيران وكوريا الشمالية أو عمليات القرصنة والاختراق الإلكتروني التي يقودها أطراف أخرى.
خامسا: القوة “والسلطوية” أو مفهوم القوة الحادة Sharp Power
ارتبط مفهوم القوة الحادة “بالدول السلطوية التي تريد أن تمارس التأثير العالمي بنفس الأساليب التي تستخدمها في الداخل”، وهو وصف أطلقه كريستوفر والكر وجيسيكا لودفيك Christopher Walker and Jessica Ludwig على التأثير الصيني والروسي في العلاقات الدولية في مقالة لهم تحت عنوان “القوة الحادة : كيف تمارس الدول السطوية التأثير؟” منشور بتاريخ 16 نونبر 2017 بمجلة Foreigns Affairs وأعيد نشره ضمن إصدار جماعي ل National Adowment of democracy في دجنبر 2017 تحت عنوان “من القوة الناعمة إلى القوة الحادة: تصاعد التأثير السلطوي على العالم الديمقراطي”.
تعالج المقالة النموذجان الصيني والروسي من خلال تأثيرهما على الديمقراطيات الغربية، كما توجه نقدا لاذعا لهذا التأثير الذي ينبني على التمويه والكذب والدعاية الإعلامية المغرضة والتلاعب بالمعلومات والتسويق لصورة مزيفة عن الداخلي الصيني والروسي، حيث تنبه إلى أن تصاعد هذا التأثير بات مهددا للقيم الديمقراطية والمؤسسات الغربية، بالنظر إلى كون روسيا والصين – حسب كريستوفر والكر وجيسيكا لودفيك – ينبني نظامهما على الاستبداد الذي يرفض التعددية السياسية ومنظومة حقوق الإنسان، ناهيك عن قمع المعارضين وتحكم الدولة في المعلومات وممارسة أجهزة السلطة للرقابة على سائر المواطنين، بما يؤكد هجوم أصحاب المقال على النموذجين الصيني والروسي.
والقوة الحادة هي شبيهة بالقوة الناعمة من خلال استعمال القيم والسياسات والثقافة للتأثير الخارجي، لكن غاية هذا التأثير هو استهداف النماذج الديمقراطية واختراق منظومتها القيمية بما يهدد وجودها في المستقبل، كما أنها قريبة من القوة الصلبة في شكلها الحاد من خلال توظيف آليات لتحقيق أهداف منشودة ونتائج متوقعة من قبيل محاصرة الديمقراطيات وضربها من الداخل، حيث تنطبق أيضا على الديكتاتوريات العسكرية وأنظمة الحزب الواحد المقاومة للتغيير الداخلي، فتتجه إلى تصدير نماذجها إلى الخارج عبر التأثير بآليات صلبة وناعمة، وبشكل عام فإن مفهوم القوة الحادة شبيه بمفهوم ناي للقوة الناعمة لكن بشكلها السيئ.
سادسا: كورونا ومفهوم القوة الحيوية Vital Power
طرحت كورونا الكثير من الجدل حول التداعيات التي خلفتها على المستوى العالمي، بما في ذلك الطريقة التي واجهت بها الدول الوباء، حيث أرغم الجميع على الدخول في معركة المواجهة مع العدو غير المرئي، الأمر الذي برز معه مفهوم جديد للقوة في هذه المعركة، فلم تعد تنفع الجيوش القوية في المواجهة، بقدر ما أنه ظهر نوع جديد من الجيش المكون من الأطباء والممرضين أو ما أصبح يعرف بالجيش الأبيض، الأمر الذي نتج عنه فهم جديد لقوة الدولة غير ذاك المرتبط بالمفاهيم المتعارف عليها في العلاقات الدولية.
ومن بين هذه المفاهيم المتداولة “مفهوم القوة الحيوية”، حيث استعمله عز الدين عبد المولى، في دراسة تحت عنوان “ما القوة الحيوية؟ كورونا واختبار المفهوم التقليدي لقوة الدولة”، المنشورة بمركز الجزيرة للدراسات، بتاريخ 29 مارس 2020، إذ يوحي هذا المفهوم على كل ما له علاقة بمجالات الكيمياء والبيولوجيا والطب والأغذية والزراعة والعلوم الجرثومية وغيرها من المجالات المتدخلة في مواجهة الوباء المهدد لبقاء الإنسان، أي أن قوة الدولة ستقاس بمدى قدرتها في تطوير اللقاحات والصناعة الدوائية ومخابر التكنولوجيا الحيوية وتحقيق الاكتفاء الذاتي في المستلزمات الضرورية لحياة الإنسان والمتطلبات الطبية كأجهزة التنفس الاصطناعي والكمامات وعدد الآسرة وأجهزة الكشف عن الفيروس..
إن كورونا فرضت نوع جديد من معايير القوة، والتي تعتمد على قدرة الدولة في تفعيل إجراءات السلامة الصحية كالتباعد الاجتماعي والحجر المنزلي، بينما تصبح كل إمكانياتها متجهة بالأساس للقطاع الصحي، فبدل الإنفاق في التسلح واقتناء المعدات العسكرية تصبح الأولوية موجهة للقطاع الصحي، بما في ذلك توظيف كل أدوات القوة الصلبة والناعمة والذكية والحادة والإلكترونية في استراتيجيات المنظومة الصحية والوقائية، كما أن الدول تقاس قوتها بمدى تغلبها على الوباء وليس بما إن كانت قوة عسكرية أو نووية أو اقتصادية هائلة، حيث ينجلي مثلا تفوق دول لا تملتك مقومات القوة الصلبة في المواجهة على كورونا ككوريا الجنوبية وهونغ كونغ وتيوان وسنغفورة مقارنة بدول أخرى تمتلك أكبر قوة عسكرية واقتصادية في العالم، أي أن المعركة تصير على نفس المستوى بين الدول القوية والضعيفة، الكبرى والصغرى، فتختفي محددات قوة الدول المتعارف عليها.
خاتمة
يحظى المفهوم الواقعي للقوة بحضور بارز في أغلب الدراسات الدولية، فرغم تعدد المفاهيم، إلا أنه مازالت المحددات العسكرية والاقتصادية مهمة في تحديد قوة الدول بالنظام الدولي، بينما تعتبر القوة الناعمة والذكية والإلكترونية بمثابة أدوات من الممكن توظيفها من طرف الدول التي تمتلك مقومات القوة الصلبة في عالم متسم بالصراع والتنافس الدولي، وتفتح القوة الناعمة والذكية أفاقا أمام الدول الصغيرة الحجم أو التي لا تمتلك إمكانيات هائلة لمنافسة الدول الكبرى، في حين يجسد مفهوم القوة الحادة تلك النظرة المتوجسة في الخطابات الغربية للمنافسين في العالم، فشكل القوة الحاد قد ينجلي في القوة الصلبة كما في القوة الناعمة والذكية والإلكترونية، وليس فقط من خلال التأثير الصيني والروسي على السياسة الدولية، أي يمكن أن يقع بالشكل نفسه الذي تحدثه الصين وروسيا بالعالم.
ومع ذلك، فإن مفهوم القوة الصلبة لم يعد كافيا في عالم اليوم، إذ لم تعد الجيوش الكبرى محددا لقوة الدولة، بل يتطلب الأمر محددات أخرى لتصبح الدولة ذات مكانة بالنظام الدولي، حيث لم ينفع جيش روسيا القوي في حماية الاتحاد السوفياتي من الانهيار أو منعها من خفوت دورها بالنظام الدولي بالشكل الذي كانت عليه إبان الحرب الباردة، بل ساعدها في استرجاع مكانتها الانتعاش الاقتصادي بعد التعافي من أزمة الانهيار، بالاستعانة بقيمها الحضارية والتاريخية وطبيعة قيادتها السياسية، كما تطرح مشكلات العصر من قبيل الأوبئة والمتغيرات المناخية إشكاليات جديدة أمام تعريف القوة بالنظام الدولي، فقد تحقق دولة ككوبا نجاحات في مواجهة كورونا رغم أنها لا تصنف ضمن الأقوياء، وسبب ذلك راجع لقوة منظومتها الصحية وطبيعة قيمها السياسية والاجتماعية والثقافية، وهذه الإشكاليات تضع مفهوم القوة أمام محاولات لإعادة التعريف.
*باحث في سلك الدكتوراه، جامعة سيدي محمد بن عبد الله، فاس.
كالعادة مقال موجز ودقيق وممتاز، وتكمن معالم قوته في اللغة.. وفي المعلومات الدقيقة والتحليل السلس، وفي مقابل فلكل قوة ضعف وضعف قوته تكمن في شح اسقاط الدراسة والنماذج حتى غلب النظري وطفا، بالتوفيق صديقي