سررت كثيرا عندما أخبرني الباحث التونسي منعم شيحة إنهاءه ترجمة كتاب حول السرديات ما بعد الكلاسيكية، يتعلق بالسرد غير الطبيعي. لم أخف عدم اتفاقي مع هذا الاتجاه بالخصوص، لكننا في الوقت نفسه عبرنا معا عن ضرورة وأهمية ترجمة أي عمل يقدم لنا معرفة جديدة بما يتصل بالدراسات السردية المعاصرة. لكن في غياب الحوار بين الباحثين العرب، لغياب مؤسسات ترعى البحث العلمي، قطريا وعربيا، لا نتعرف على مجهودات بعضنا، ولا على ما نفكر فيه، أو نعمل على إنجازه لترسب عادات سيئة في واقعنا الثقافي التي تكرس الفردانية والعزلة. ولعل من بينها: سرقة الأفكار، والموضوعات، والمشاريع، فيكفي أن تعبر عن عنوان كتاب تفكر فيه، أو موضوع تهتم به، لزميلك حتى يسبقك إلى إنجازه، بهدف ادعاء السبق، ونيل «قصبه».
إن التكتم لدى باحثينا من جهة، والتفكير في ادعاء السبق والريادة من جهة ثانية، من الأمراض المثقفوية التي تولدت لدينا مما عرفته الثقافة العربية الحديثة والمعاصرة، التي لم تتشكل في الجامعة من خلال البحث العلمي، لكنها تكونت من خلال «الساحة الثقافية» والإعلام الثقافي و»الصراع السياسي».
إن الحديث عن «الأوائل» في التقليد العربي القديم كانت له أبعاد تاريخية، لكن ادعاء السبق والتبجح به سليل هذا التقليد، لكن غايته لدى من يدعي أنه «الأول» لا علاقة لها بالتاريخ. إن سؤال من السابق في دراساتنا؟ أهم عندنا من السؤال حول ما يقوله السابق أو اللاحق. استهلك النقاش حول نازك الملائكة والسياب، لكن الثاني يظل الشاعر الحقيقي. اقترح تودوروف مصطلح السرديات، لكن رائد السرديات وابن بَجدتها، ومولّدها هو جيرار جنيت. ألم يقل المعري إنه آت بما «لم يستطعه الأوائل»؟ أو ليس لهذا سمي شاعر الفلاسفة، وفيلسوف الشعراء؟
إن هناك ضرورة لترجمة الأعمال التي تقدم معرفة جديدة، أو تمثل اتجاها يمكن أن يسهم في تجديد ثقافتنا، لكن انتقاء الأصول المؤسِّسة، والدراسات ذات القيمة العلمية الحقيقية، هي الأجدر بلفت انتباهنا إليها، هناك بعض الدراسات والاتجاهات الفكرية والثقافية، حتى في الغرب، يسهم الترويج لها في جعلها متداولة على نطاق واسع، لأنها تتوفر، دعائيا، على ما لا يتوفر عليه غيرها من الدراسات الأكثر جدية، وأرى من وجهة نظري أن السرديات غير الطبيعية من هذا النوع.
يرتهن الإقدام على الترجمة في واقعنا على ثقافة الشخص وميولاته، ولا يكون ذلك دائما مبنيا على أسس تفرضها الضرورة والحاجة الثقافية. أرى في ضوء هذا أهمية كبرى لترجمة كتابين حول السرديات ما بعد الكلاسيكية، أحدهما بالإنكليزية، وآخر بالفرنسية، لأنهما يقدمان لنا معا صورة شاملة عن أهم اتجاهاتها ومناقشات، بين المشتغلين بها، حول الكثير من قضاياها الجوهرية.
أما الكتاب الأول، فهو: «النظرية السردية: المفاهيم الأساسية والنقاشات النقدية» (2012): ساهم في هذا الكتاب خمسة من أعلام السرديات ما بعد الكلاسيكية، وهم: ديفيد هيرمان، جيمس فيلان، بيتر رابينوفيتس، بريان ريتشاردسن، روبين وارول. إن كل واحد من هؤلاء ممثل لاتجاه من اتجاهات السرديات ما بعد الكلاسيكية. يبدو ذلك في تقسيم هذا الكتاب «الحواري» إلى قسمين كبيرين: ركز القسم الأول على تقديم التصور النظري العام لأربع مقاربات في التحليل السردي، وهي: المقاربة البلاغية (جيمس فيلان ورابينوفيتس) والنسائية (روبين وارول) والمعرفية (ديفيد هيرمان) وغير الطبيعية (بريان ريتشارسن). وبعد هذه المقدمات الأربع، قدم كل اتجاه تصوره للمفاهيم التالية: المؤلف والراوي، والزمن والحبكة، والعوالم السردية من خلال الفضاء والمنظور، والشخصيات والتلقي.
أما القسم الثاني فكان عبارة عن مناقشة كل باحث للتصورات الأخرى في مختلف المحاور التي تناولها الكتاب، ويبدو لي أن هذا الكتاب له قيمة خاصة. والذين يترجمون إلى العربية يمكنهم الانتباه إلى هذا النوع من المؤلفات التي تعكس النقاش بين المشتغلين بالسرديات ما بعد الكلاسيكية.
أقدمت سيلفي بارتون على إعداد وتقديم والمشاركة في بعض ترجمات كتاب: «مدخل إلى السرديات ما بعد الكلاسيكية: الاتجاهات الجديدة في البحث حول السرد» (2018) إلى القارئ بالفرنسية. أشكر بالمناسبة الزميل الداهي الذي حصل لي على نسخة منه إبان زيارته فرنسا، صدّرت الباحثة الكتاب بمقدمة عامة عن السرديات ما بعد الكلاسيكية، وضمنته دراسات ممثلي الاتجاهات التي جاءت على النحو التالي: النسائية (سوزان لانسر) والبلاغية (فيلان) والطبيعية (مونيكا فلوديرنيك) والمعرفية (هيرمان) والمعرفية ـ البلاغية (أنسار نونينغ) والوسائطية (ماري ـ لور رايان) وغير الطبيعية (ريتشاردسن).
إن الكتابين معا يقدمان لنا صورة شاملة عن أهم الاتجاهات، ومن خلال ممثليها، ومواقف بعضهم من الاتجاهات الأخرى، وهذا هو المطلوب، لأنه يدفع القارئ العربي لتكوين صورة دقيقة عن كل اتجاه على حدة، وتشكيل رؤية عامة عن مختلف الآراء، وما تعرفه من نقاشات وتصورات.
عندما نصبح قادرين على عدم التكتم عن أبحاثنا والموضوعات التي نفكر فيها، ونتجاوز عقدة السبق، ونرى أن الأهم هو طريقة التناول والتفكير، سنمسي قادرين على إنتاج البحث العلمي، وعلى المساهمة الإيجابية في الفكر العالمي.
تعليقات الزوار ( 0 )