Share
  • Link copied

تحولات‭ ‬في‭ ‬وعي‭ ‬المغاربة‭.. ‬الضجّة‭ ‬حول‭ ‬البخاري‭ ‬

أريد‭ ‬أن‭ ‬أؤكد‭ ‬من‭ ‬البداية‭ ‬وجود‭ ‬شقوق‭ ‬وتصدّع‭ ‬في‭ ‬الوعي‭ ‬المغربي‭ ‬الحالي‭ ‬حيال‭ ‬كتاب‭ ‬صحيح‭ ‬البخاري،‭ ‬الذي‭ ‬أصبح‭ ‬مستهدفا‭ ‬بشكل‭ ‬متزايد‭ ‬ضمن‭ ‬النقاش‭ ‬الجاري‭ ‬في‭ ‬المجال‭ ‬العام‭. ‬وأعلّق‭ ‬هنا‭ ‬على‭ ‬الضجة‭ ‬الكبيرة‭ ‬التي‭ ‬يعرفها‭ ‬المغرب‭ ‬حول‭ ‬قضية‭ ‬السنة،‭ ‬وبالضبط‭ ‬ما‭ ‬يتعلق‭ ‬بصحيح‭ ‬البخاري،‭ ‬لكن‭ ‬من‭ ‬ناحية‭ ‬ملاحظة‭ ‬التحولات‭ ‬التي‭ ‬يعرفها‭ ‬وعي‭ ‬المغاربة‭ ‬في‭ ‬علاقتهم‭ ‬بكتاب‭ ‬الصحيح‭. ‬

البخاري‭ ‬قصة‭ ‬اجتماعية‭ ‬شعورية

المغاربة‭ ‬منذ‭ ‬الماضي‭ ‬لم‭ ‬يتعاملوا‭ ‬مع‭ ‬صحيح‭ ‬البخاري‭ ‬باعتباره‭ ‬مجرد‭ ‬كتاب‭ ‬في‭ ‬الحديث‭ ‬النبوي،‭ ‬فقد‭ ‬صاغوا‭ ‬علاقتهم‭ ‬به‭ ‬في‭ ‬قصة‭ ‬اجتماعية‭ ‬وشعورية،‭ ‬تجاوزت‭ ‬البعد‭ ‬الديني‭ ‬المجرد‭. ‬وربما‭ ‬لا‭ ‬يعرف‭ ‬الكثيرون‭ ‬من‭ ‬الجيل‭ ‬الحالي‭ ‬عناصرها‭ ‬التاريخية‭ ‬والشعورية‭. ‬ورغم‭ ‬أن‭ ‬موطأ‭ ‬الإمام‭ ‬مالك‭ ‬هو‭ ‬عمدة‭ ‬المغاربة‭ ‬لارتباطهم‭ ‬به‭ ‬مذهبيا،‭ ‬إلا‭ ‬أن‭ ‬المغاربة‭ ‬لم‭ ‬ينسجوا‭ ‬حوله‭ ‬قصة‭ ‬تخترق‭ ‬تفاصيل‭ ‬الحياة‭ ‬اليومية‭ ‬مثلما‭ ‬فعلوا‭ ‬مع‭ ‬البخاري‭. ‬كما‭ ‬أن‭ ‬موطأ‭ ‬مالك‭ ‬لا‭ ‬يتعرض‭ ‬للطعون‭ ‬والانتقادات‭ ‬في‭ ‬المجال‭ ‬العام،‭ ‬ربما‭ ‬لخوف‭ ‬المنتقدين‭ ‬من‭ ‬كونه‭ ‬يشكل‭ ‬جزءا‭ ‬من‭ ‬بنية‭ ‬السلطة،‭ ‬أو‭ ‬لإدراكهم‭ ‬الحقيقي‭ ‬أن‭ ‬هدم‭ ‬البخاري‭ ‬يهدم‭ ‬تلقائيا‭ ‬ما‭ ‬يأتي‭ ‬بعده‭.‬

لقد‭ ‬تم‭ ‬انتقاد‭ ‬البخاري‭ ‬طوال‭ ‬التاريخ‭ ‬من‭ ‬جانب‭ ‬عدد‭ ‬من‭ ‬العلماء،‭ ‬وكانت‭ ‬الانتقادات‭ ‬مقبولة‭ ‬من‭ ‬طرف‭ ‬الناس،‭ ‬ومن‭ ‬آخرهم‭ ‬ناصر‭ ‬الدين‭ ‬الألباني‭ ‬الذي‭ ‬ضعّف‭ ‬بعض‭ ‬أحاديث‭ ‬صحيح‭ ‬البخاري‭. ‬لكن‭ ‬القبول‭ ‬يتأسس‭ ‬على‭ ‬انتماء‭ ‬النقاد‭ ‬لدائرة‭ ‬الاحترام‭ ‬العلمي‭. ‬ويبدو‭ ‬أن‭ ‬رفض‭ ‬الكثيرين‭ ‬للطعن‭ ‬في‭ ‬البخاري‭ ‬في‭ ‬الوقت‭ ‬الحالي،‭ ‬يأتي‭ ‬من‭ ‬كونهم‭ ‬لا‭ ‬يعتبرونهم‭ ‬في‭ ‬الدائرة‭ ‬نفسها‭.‬

ولم‭ ‬نعرف‭ ‬قصة‭ ‬مشابهة‭ ‬للبخاري‭ ‬في‭ ‬الثقافات‭ ‬الأخرى‭ ‬تجعل‭ ‬الناس‭ ‬يحلفون‭ ‬بكتاب‭ ‬معين‭ ‬أو‭ ‬يقرأونه‭ ‬في‭ ‬الأزمات‭. ‬إن‭ ‬ولادة‭ ‬القصّة‭ ‬أمر‭ ‬بالغ‭ ‬الأهمية،‭ ‬وليس‭ ‬من‭ ‬السهل‭ ‬أن‭ ‬تجعل‭ ‬شخصا‭ ‬معاصرا‭ ‬لا‭ ‬يمتلك‭ ‬أدوات‭ ‬علم‭ ‬الحديث،‭ ‬ولا‭ ‬يمكنه‭ ‬التحقق‭ ‬بشكل‭ ‬فردي‭ ‬من‭ ‬الصحيح‭ ‬والضعيف‭ ‬عند‭ ‬سماعه،‭ ‬أن‭ ‬يتبنى‭ ‬موقف‭ ‬التسليم‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬له‭ ‬ارتباط‭ ‬بالشعور‭ ‬العام‭ ‬للمغاربة،‭ ‬ووعيهم‭ ‬الدفين‭ ‬بالقصة‭ ‬الكبرى‭ ‬التي‭ ‬نسجت‭ ‬حول‭ ‬كتاب‭ ‬البخاري،‭ ‬الذي‭ ‬يعتبر‭ ‬حاسما‭ ‬للموضوع‭. ‬إن‭ ‬شخصا‭ ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬يتفاعل‭ ‬مع‭ ‬حدث‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬طرفا‭ ‬فيه،‭ ‬ومضى‭ ‬منذ‭ ‬قرون،‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬وعيه‭ ‬الحاضر‭ ‬مستمرا‭ ‬في‭ ‬تبني‭ ‬تلك‭ ‬القصة‭. ‬

وعندما‭ ‬يتشكل‭ ‬وعي‭ ‬عام‭ ‬حول‭ ‬قضية‭ ‬معينة،‭ ‬فالمسألة‭ ‬تتحول‭ ‬إلى‭ ‬نوع‭ ‬من‭ ‬الإجماع،‭ ‬الذي‭ ‬يصبح‭ ‬اختراقه‭ ‬إساءة‭ ‬لشعور‭ ‬الناس‭. ‬لقد‭ ‬أصبح‭ ‬مفهوم‭” ‬الشعور‭” ‬ذا‭ ‬أهمية‭ ‬قصوى‭ ‬في‭ ‬وعي‭ ‬المجتمعات‭ ‬الحالية،‭ ‬وفي‭ ‬إدارة‭ ‬الخلاف‭ ‬حول‭ ‬كثير‭ ‬من‭ ‬القضايا‭ ‬بداخلها‭. ‬والقصة‭ ‬التي‭ ‬ينسجها‭ ‬الوعي‭ ‬بخلاف‭ ‬الأفكار،‭ ‬يصعب‭ ‬أن‭ ‬تنهار‭ ‬بسهولة،‭ ‬رغم‭ ‬كل‭ ‬ضربات‭ ‬ومحاولات‭ ‬التجديد‭ ‬الزائفة‭ ‬وحتى‭ ‬الحقيقية‭ ‬أحيانا‭. ‬

إن‭ ‬صحيح‭ ‬البخاري‭ ‬بالنسبة‭ ‬للمغاربة‭ ‬ليس‭ ‬مجرد‭ ‬كتاب‭ ‬لسرد‭ ‬الأحاديث‭ ‬النبوية‭ ‬الصحيحة،‭ ‬فقد‭ ‬تحول‭ ‬مع‭ ‬مرور‭ ‬الزمن‭ ‬في‭ ‬وعيهم‭ ‬إلى‭ ‬حدث‭ ‬يومي،‭ ‬فبالأمس‭ ‬القريب‭ ‬كان‭ ‬بعض‭ ‬كبار‭ ‬السّن‭ ‬إذا‭ ‬سمع‭ ‬الأبناء‭ ‬يختلفون‭ ‬حول‭ ‬بعض‭ ‬الأفكار،‭ ‬يجيبونهم‭ ‬بالقول‭: ‬ما‭ ‬دام‭ ‬الخلاف‭ ‬ليس‭ ‬في‭ ‬البخاري‭ ‬فلا‭ ‬إشكال‭. ‬

لا‭ ‬يعرف‭ ‬الكثير‭ ‬من‭ ‬الأغنياء‭ ‬المغاربة‭ ‬الذين‭ ‬يبنون‭ ‬المساجد،‭ ‬أن‭ ‬الأغنياء‭ ‬في‭ ‬الماضي‭ ‬في‭ ‬المغرب‭ ‬كانوا‭ ‬يضعون‭ ‬شروطا‭ ‬تتعلق‭ ‬بالبخاري‭. ‬حيث‭ ‬يفرض‭ ‬أصحاب‭ ‬الوقف‭ ‬قراءة‭ ‬البخاري‭ ‬وفق‭ ‬ترتيب‭ ‬معين‭. ‬أما‭ ‬السياسة‭ ‬فكانت‭ ‬تساهم‭ ‬في‭ ‬ترسيخ‭ ‬الوعي‭ ‬العام‭ ‬بأهمية‭ ‬صحيح‭ ‬البخاري،‭ ‬حتى‭ ‬إن‭ ‬السلطان‭ ‬محمد‭ ‬الشيخ‭ ‬السعدي‭ ‬مؤسس‭ ‬الدولة‭ ‬السعدية،‭ ‬كان‭ ‬يحفظ‭ ‬صحيح‭ ‬البخاري‭ ‬كاملا‭.

ويعود‭ ‬سبب‭ ‬تسمية‭ ‬جيش‭ ‬عبيد‭ ‬البخاري‭ ‬في‭ ‬عهد‭ ‬السلطان‭ ‬العلوي‭ ‬المولى‭ ‬إسماعيل،‭ ‬لكونه‭ ‬جمع‭ ‬العبيد‭ ‬من‭ ‬مناطق‭ ‬متفرقة‭ ‬من‭ ‬المغرب،‭ ‬وجمع‭ ‬قادتهم‭ ‬وأحضر‭ ‬نسخة‭ ‬من‭ ‬صحيح‭ ‬البخاري،‭ ‬وقال‭ ‬لهم‭: ‬أنا‭ ‬وأنتم‭ ‬عبيد‭ ‬لسنة‭ ‬رسول‭ ‬الله‭ ‬صلى‭ ‬الله‭ ‬عليه‭ ‬وسلم‭ ‬وشرعه‭ ‬المجموع‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬الكتاب،‭ ‬وعلى‭ ‬ذلك‭ ‬القتال‭ ‬والجهاد‭. ‬وعاهده‭ ‬العبيد‭ ‬على‭ ‬ذلك،‭ ‬وأمر‭ ‬بحفظ‭ ‬تلك‭ ‬النسخة،‭ ‬وأن‭ ‬يحملوها‭ ‬عند‭ ‬مسيرهم‭ ‬ويقدموها‭ ‬في‭ ‬حروبهم‭ ‬كتابوت‭ ‬بني‭ ‬إسرائيل،‭ ‬حسب‭ ‬وصف‭ ‬المؤرخ‭ ‬الناصري‭. ‬

ونجد‭ ‬البخاري‭ ‬في‭ ‬مجال‭ ‬العلاقات‭ ‬الإنسانية،‭ ‬فقد‭ ‬تكون‭ ‬الخيانة‭ ‬سببا‭ ‬في‭ ‬الفراق‭ ‬بين‭ ‬المتحابّين‭. ‬ولذلك‭ ‬لا‭ ‬تُقبل‭ ‬الأعذار‭ ‬حتى‭ ‬وإن‭ ‬وضع‭ ‬الخائن‭ ‬صحيح‭ ‬البخاري‭ ‬على‭ ‬رأسه،‭ ‬وأقسم‭ ‬أنه‭ ‬لن‭ ‬يعود‭ ‬للخيانة‭. ‬ونجد‭ ‬هذا‭ ‬المعنى‭ ‬في‭ ‬بعض‭ ‬أشعار‭ ‬الأمازيغ‭ ‬في‭ ‬منطقة‭ ‬سوس‭ ‬في‭ ‬المغرب،‭ ‬مثل‭ ‬حمو‭ ‬الطالب‭ ‬الذي‭ ‬توفي‭ ‬أواخر‭ ‬القرن‭ ‬الثامن‭ ‬عشر‭. ‬

إن‭ ‬تصدّع‭ ‬جدران‭ ‬القصة‭ ‬يحتاج‭ ‬إلى‭ ‬زمن‭ ‬لكنه‭ ‬ممكن‭ ‬الحدوث،‭ ‬وبالنسبة‭ ‬لمكانة‭ ‬صحيح‭ ‬البخاري‭ ‬فإن‭ ‬جزءا‭ ‬من‭ ‬التصدع‭ ‬في‭ ‬الوعي‭ ‬العام‭ ‬أمر‭ ‬يمكن‭ ‬مشاهدته‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬الحقبة‭ ‬الزمنية‭ ‬التي‭ ‬نتحدث‭ ‬فيها‭. ‬إن‭ ‬المغاربة‭ ‬لم‭ ‬يعُد‭ ‬لديهم‭ ‬نفس‭ ‬الوعي‭ ‬الكثيف‭ ‬السابق‭ ‬تجاه‭ ‬القصة‭ ‬التي‭ ‬صيغت‭ ‬حول‭ ‬كتاب‭ ‬البخاري‭ ‬ومكانته‭ ‬الدينية‭ ‬والاجتماعية‭ ‬والشعورية‭. ‬وبتراجع‭ ‬مظاهر‭ ‬العناية‭ ‬بهذا‭ ‬المصنف،‭ ‬تراجع‭ ‬الوعي‭ ‬العام‭ ‬للجيل‭ ‬الحالي‭ ‬بقيمته‭. ‬إن‭ ‬من‭ ‬أهم‭ ‬مظاهر‭ ‬التحول‭ ‬في‭ ‬الوعي‭ ‬المغربي‭ ‬والمصري‭ ‬هو‭ ‬أن‭ ‬الطعن‭ ‬في‭ ‬صحيح‭ ‬البخاري‭ ‬قد‭ ‬انتقل‭ ‬إلى‭ ‬المجال‭ ‬العام،‭ ‬كما‭ ‬أن‭ ‬تلك‭ ‬القداسة‭ ‬التي‭ ‬ارتبطت‭ ‬به‭ ‬يتم‭ ‬استهدافها‭ ‬باستمرار‭.‬

والحقيقة‭ ‬أن‭ ‬ما‭ ‬يعرفه‭ ‬الوعي‭ ‬المغربي‭ ‬من‭ ‬تحولات‭ ‬شبيه‭ ‬بما‭ ‬يعرفه‭ ‬وعي‭ ‬المصريين‭ ‬من‭ ‬تحولات‭ ‬كذلك،‭ ‬وفي‭ ‬الماضي‭ ‬القريب‭ ‬كان‭ ‬كثير‭ ‬من‭ ‬المتّهمين‭ ‬في‭ ‬مصر‭ ‬يحلفون‭ ‬بالبخاري‭ ‬لنفي‭ ‬التهمة‭ ‬عنهم،‭ ‬أو‭ ‬لإثبات‭ ‬أقوالهم‭ ‬أمام‭ ‬القضاء‭. ‬إن‭ ‬هذا‭ ‬بلا‭ ‬شك‭ ‬انحراف‭ ‬عقدي،‭ ‬لكنه‭ ‬من‭ ‬ناحية‭ ‬أخرى‭ ‬يكشف‭ ‬كيف‭ ‬يحوّل‭ ‬الناس‭ ‬وعيهم‭ ‬بشيء‭ ‬إلى‭ ‬قصة‭. ‬ويذكر‭ ‬ابن‭ ‬حجر‭ ‬شارح‭ ‬البخاري‭ ‬في‭ ‬مقدمته‭ ‬عن‭ ‬ابن‭ ‬أبي‭ ‬جمرة‭ ‬في‭ ‬اختصاره‭ ‬للبخاري،‭ ‬أنه‭ ‬قال‭: ‬قال‭ ‬لي‭ ‬من‭ ‬لقيته‭ ‬من‭ ‬العارفين‭ ‬عمن‭ ‬لقي‭ ‬من‭ ‬السادة‭ ‬المُقَرِّ‭ ‬لهم‭ ‬بالفضل،‭ ‬أن‭ ‬صحيح‭ ‬البخاري‭ ‬ما‭ ‬قُرئ‭ ‬في‭ ‬شدّة‭ ‬إلا‭ ‬فُرجت،‭ ‬ولا‭ ‬رُكب‭ ‬به‭ ‬في‭ ‬مركب‭ ‬فغرق‭. ‬وهذا‭ ‬جزء‭ ‬من‭ ‬القصة‭ ‬الكبيرة‭ ‬التي‭ ‬نسجها‭ ‬الوعي‭ ‬الإسلامي‭ ‬حول‭ ‬كتاب‭ ‬البخاري‭. ‬وكان‭ ‬المصريون‭ ‬إذا‭ ‬نزلت‭ ‬بهم‭ ‬مصيبة،‭ ‬اعتكفوا‭ ‬في‭ ‬المساجد‭ ‬لقراءة‭ ‬صحيح‭ ‬البخاري‭. ‬

وكان‭ ‬يُقرأ‭ ‬البخاري‭ ‬بقصد‭ ‬النّصرة‭ ‬للسلاطين‭ ‬والأمراء،‭ ‬ورفع‭ ‬الوباء‭ ‬والطاعون‭. ‬وكان‭ ‬المصريون‭ ‬يدخلون‭ ‬الجامع‭ ‬الأزهر‭ ‬ويقرأون‭ ‬صحيح‭ ‬البخاري‭ ‬تضرعا‭ ‬إلى‭ ‬الله‭ ‬من‭ ‬القنابل‭ ‬التي‭ ‬يلقيها‭ ‬الفرنسيون‭ ‬عليهم‭. ‬كما‭ ‬أن‭ ‬أعيان‭ ‬المصريين‭ ‬اعتادوا‭ ‬وضع‭ ‬صحيح‭ ‬البخاري‭ ‬في‭ ‬مداخل‭ ‬بيوتهم،‭ ‬إلى‭ ‬جوار‭ ‬القرآن‭. ‬وفي‭ ‬إحدى‭ ‬المناسبات‭ ‬أخطأ‭ ‬الإمام‭ ‬في‭ ‬الصلاة‭ ‬فصحّح‭ ‬له‭ ‬الناس‭ ‬مرارا،‭ ‬فلما‭ ‬أنهى‭ ‬صلاته‭ ‬أجابهم‭:” ‬هو‭ ‬أنا‭ ‬غلطت‭ ‬في‭ ‬البخاري‭ ‬يعني‭”. ‬وهي‭ ‬مقولة‭ ‬تحولت‭ ‬إلى‭ ‬مثل‭ ‬شعبي‭ ‬عام،‭ ‬يكشف‭ ‬أن‭ ‬الخطأ‭ ‬في‭ ‬البخاري‭ ‬أقصى‭ ‬ما‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬يرتكبه‭ ‬الإنسان‭.‬

حالة‭ ‬غياب‭ ‬الوعي

لا‭ ‬شك‭ ‬أننا‭ ‬في‭ ‬المنطقة‭ ‬بشكل‭ ‬عام‭ ‬نعيش‭ ‬حالة‭ ‬من‭ ‬الانكماش‭ ‬وغياب‭ ‬الوعي‭ ‬الكثيف‭. ‬وعندما‭ ‬يكون‭ ‬الوعي‭ ‬كثيفا،‭ ‬فإن‭ ‬جاذبيته‭ ‬تصبح‭ ‬أكثر‭ ‬قدرة‭ ‬على‭ ‬التأثير‭ ‬في‭ ‬الأجيال‭ ‬المعاصرة‭. ‬إن‭ ‬قياس‭ ‬مستوى‭ ‬الجاذبية‭ ‬التي‭ ‬تمارسها‭ ‬عناصر‭ ‬الوعي،‭ ‬وقدرتها‭ ‬على‭ ‬التأثير‭ ‬النفسي‭ ‬والفكري،‭ ‬محدد‭ ‬أساسي‭ ‬لتحليل‭ ‬مستقبل‭ ‬وعي‭ ‬المغاربة‭ ‬بقضاياهم‭ ‬الدينية‭ ‬والتاريخية‭. ‬أما‭ ‬الوعي‭ ‬الخفيف،‭ ‬فيحاول‭ ‬إفراغ‭ ‬الإطارات‭ ‬الشعورية‭ ‬والاجتماعية‭ ‬من‭ ‬محتوياتها‭ ‬القديمة،‭ ‬وتعويضها‭ ‬بنوع‭ ‬من‭ ‬السيولة‭. ‬

إن‭ ‬أكبر‭ ‬تحول‭ ‬يعيشه‭ ‬المغاربة‭ ‬هو‭ ‬أن‭ ‬جزءا‭ ‬كبيرا‭ ‬من‭ ‬الشباب‭ ‬لا‭ ‬يعرف‭ ‬أصلا‭ ‬عن‭ ‬البخاري‭ ‬ومحتوياته،‭ ‬ما‭ ‬يجعله‭ ‬يقبله‭ ‬أو‭ ‬يرفضه،‭ ‬أو‭ ‬حتى‭ ‬أن‭ ‬يبدي‭ ‬في‭ ‬ما‭ ‬يتعرّض‭ ‬له‭ ‬رأيا‭ ‬متعاطفا‭ ‬معه‭. ‬فهو‭ ‬ببساطة‭ ‬لا‭ ‬يملك‭ ‬تجاهه‭ ‬قوة‭ ‬القصة‭ ‬الشعورية‭ ‬أو‭ ‬الدافع‭ ‬الديني‭ ‬نفسه‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬في‭ ‬الأجيال‭ ‬السابقة‭. ‬إن‭ ‬المشاعر‭ ‬الإنسانية‭ ‬أقوى‭ ‬بكثير‭ ‬من‭ ‬التحليل‭ ‬المنطقي‭ ‬للقضايا‭ ‬الدينية‭. ‬وحتى‭ ‬في‭ ‬حال‭ ‬ضعف‭ ‬اكتساب‭ ‬الناس‭ ‬العاديين‭ ‬للقدرات‭ ‬العلمية‭ ‬التي‭ ‬تسمح‭ ‬لهم‭ ‬بالتعامل‭ ‬مع‭ ‬علوم‭ ‬الدين‭ ‬ومعرفة‭ ‬صحيحها‭ ‬وضعيفها،‭ ‬فإن‭ ‬الشعور‭ ‬الذي‭ ‬يمتلكونه‭ ‬يستمر‭ ‬في‭ ‬التفوق‭ ‬على‭ ‬التحليل‭ ‬العلمي‭ ‬والمنطقي‭ ‬للأشياء،‭ ‬لأن‭ ‬المشاعر‭ ‬مرتبطة‭ ‬بالوعي‭.‬

والوعي‭ ‬الكثيف‭ ‬يتشكل‭ ‬عندما‭ ‬تتحول‭ ‬المنجزات‭ ‬العلمية‭ ‬والمناسبات‭ ‬والتواريخ‭ ‬الدينية،‭ ‬إلى‭ ‬طقوس‭ ‬اجتماعية‭ ‬منتظمة‭ ‬ومؤسسة‭. ‬وهذا‭ ‬المستوى‭ ‬من‭ ‬الوعي‭ ‬بإمكانه‭ ‬مواجهة‭ ‬العولمة‭ ‬والحداثة،‭ ‬ووضعها‭ ‬ضمن‭ ‬حدودها‭ ‬المقبولة‭.‬

لقد‭ ‬تراجعت‭ ‬الدولة‭ ‬السنية‭ ‬المعاصرة‭ ‬وأصبحت‭ ‬أكثر‭ ‬برودة،‭ ‬في‭ ‬صناعة‭ ‬الوعي‭ ‬الكثيف،‭ ‬وبتراجع‭ ‬هذا‭ ‬المنحى‭ ‬خسرت‭ ‬أدوات‭ ‬أساسية‭ ‬لصناعة‭ ‬الوعي‭ ‬الكثيف‭. ‬إننا‭ ‬حين‭ ‬نتوقف‭ ‬عن‭ ‬فعل‭ ‬أشياء‭ ‬ضرورية‭ ‬نحتاج‭ ‬إلى‭ ‬فعلها،‭ ‬فإننا‭ ‬نتوقف‭ ‬أيضا‭ ‬عن‭ ‬التعلّق‭ ‬بها‭. ‬وكذلك‭ ‬بالنسبة‭ ‬للقضايا‭ ‬الدينية‭ ‬والاجتماعية،‭ ‬فإذا‭ ‬توقفت‭ ‬المجتمعات‭ ‬عن‭ ‬مشاهدة‭ ‬تفاصيلها‭ ‬في‭ ‬الحياة‭ ‬اليومية،‭ ‬فإنها‭ ‬تفقد‭ ‬قداستها‭ ‬في‭ ‬النفوس‭ ‬تدريجيا‭ ‬في‭ ‬هدوء‭. ‬إن‭ ‬الحدود‭ ‬الحقيقية‭ ‬للمجتمعات‭ ‬هي‭ ‬التي‭ ‬يصنعها‭ ‬الوعي‭ ‬الثقافي‭ ‬والاجتماعي‭. ‬والصراعات‭ ‬التي‭ ‬يخوضها‭ ‬الوعي‭ ‬أو‭ ‬الإنجازات‭ ‬التي‭ ‬يحققها‭ ‬عابرة‭ ‬للحدود‭. ‬وعندما‭ ‬تضيق‭ ‬السياسة‭ ‬بالناس،‭ ‬يستوعبهم‭ ‬الوعي،‭ ‬ويمنحهم‭ ‬مقومات‭ ‬الوجود‭ ‬والاستمرار‭.‬

Share
  • Link copied
المقال التالي