Share
  • Link copied

تاريخ المغرب القديم من ظهور الإنسان العاقل إلى الفتح الإسلامي – قراءة أخرى

إن تاريخ المغرب القديم الذي حاولنا إجمال قصته في هذا العمل يقدم الدليل تلو الدليل على خصوصية المغرب، وأن تاريخه في جانب كبير منه متميز ومستقل عن تواريخ أقاليم إفريقيا الشمالية كلها، فبالإضافة إلى كونه مهد الإنسان العاقل، وأن قصة البشرية انطلقت من آفاقه الأطلسية أو على الأقل في نفس الفترة تقريبا التي ظهر فيها الإنسان العاقل على صعيد العالم، فإن المغاربة كانوا من الشعوب الأولى التي اكتشفت الزراعة ومارستها، ودجنت الحيوانات… كما أن تاريخ الدولة بالمغرب يتجاوز 2500 سنة. وكانت هذه الدولة بعد -على الأقل- خمسة قرون من تأسيسها آخر ناحية يحتلها الرومان سنة 40م، واحتلوا فقط جزأها الشمالي، كما كانت أول ولاية انسحبوا منها سنة 285م، حيث أمسى كامل التراب المغربي تقريبا مستقلا ابتداء من سنة 285م وحتى مجيء الإسلام في بداية القرن 8م.

ومن الأمور الطريفة التي ميزت الحضارة المغربية القديمة، ولعلها لا زالت مستمرة إلى اليوم هي أنها لم تكن في العصور التاريخية التي نعرفها حضارة إثنية أو عرق معين، بل كانت حضارة أرض تفاعلت فوق ترابها عدّة أعراق وقبائل وافدة من الجنوب الإفريقي، ومن الشرق الإغريقي والفينيقي، ومن الشمال الروماني… فالجماعات البشرية التي استقرت بالمغرب وأنتجت حضارته كانت متنوعة ومتعددة، فبالإضافة إلى القبائل المحلّية المورية أو اللّيبية، ضمت هذه الجماعة عناصر فينيقية، وقرطاجية، وإيطالية، وإيبيرية، ومن وسط أوربا… وكانت هذه العناصر تعدّ بالمئات إن لم تكن بالآلاف، وانصهرت هذه الجماعات مع بعضها البعض، واختلط دمها بصورة يصعب التمييز بينها.

وفيما يلي تقديم موجز بأهم النتائج التي خلصنا إليها:

1- لقد ظهر الإنسان العاقل بالمغرب الأقصى (إغود) حوالي 300 ألف سنة قبل الحاضر، وكان المغرب قد أخذ شكله الجيولوجي الحالي خلال الأزمنة الجيولوجية الأربعة. كما أن مناخه، وبالمواصفات التي نعرفها اليوم، يعود على الأقل إلى نهاية العصور الحجرية (ما بين 4000 و2000 قبل الميلاد). ومنذ نهاية العصر الحجري الجديد لم يحدث تغير مناخي ذو أهمية كبيرة في المغرب، وأقصى ما حصل في هذا الباب تراجعٌ نسبي في معدل التساقطات ومجالها على حوافي الصحراء، وهو ما يدل عليه نوع النبات والوحيش الذي كان سائدا في المنطقة والذي تشهد عليه الرسوم الحجرية ونصوص المؤرخين اللاتين والإغريق في العهود التاريخية.

2- وكان سكان المغرب في العصور الحجرية القديمة يعيشون في المغارات والكهوف، ويستعملون الأدوات الحجرية أساسا، ويعيشون على الموارد الطبيعية الخامة التي توجد في محيطهم من منتجات الغابة والبراري والصيد البري ثم البحري. ومن أبرز الشعوب أو الأجيال التي عمّرت المغرب في هذه العصور المبكرة: الآشوليون، والموستريون، والعاتريون، والإيبيروموريون. وتختلف هذه الأجيال عن بعضها من حيث نوعية وطبيعة الأدوات الحجرية التي استعملتها، ودرجة تقدمها.

وفي العصور الحجرية القديمة تمكن الإنسان المغربي من اكتشاف النار واستعمالها. ولم يكن هذا الإنسان عديم الذوق فقير الروح، بل على العكس من ذلك تشهد الكثير من الآثار على وجود حياة روحية وجمالية معتبرة لدى هذا الإنسان، حيث تمّ العثور على أقدم قلادة زينة في المغرب، كما أنه كان يعتقد بحياة أخرى بعد الموت…

غير أن أبرز تقدم عرفه المغرب في العصور الحجرية هو اكتشاف الزراعة وممارستها وأيضا تدجين الحيوانات وذلك حوالي الألف الثامنة قبل الحاضر، الشيء الذي أدى إلى تغيير حياة المغاربة بشكل شبه كلّي، وتكونت القرى، وازدهرت الصناعة الخزفية وتحسنت أشكالها وتلوَّنت…

إن هذا المنحى الحضاري التصاعدي للمغاربة سيزداد تطورا في العصور المعدنية التي استغرقت حوالي ألفي عام تقريبا، فبالإضافة إلى التراكمات الاجتماعية والاقتصادية والحضارية… السابقة عرف هذا العصر تطورا تقنيا مهما، تمثل في الأدوات والأسلحة المعدنية. وقد ساعد هذا التطور على إحداث نقلة حضارية مهمة، بلغت ذروتها باختراع الكتابة في منتصف الألف الأولى قبل الميلاد (2500 ق.ح)، وانتشار الخزف الجرسي.

3- تعتبر المملكة المورية أول مملكة مغربية في التاريخ، وهي من الممالك المتوسطية المظلومة في التاريخ، والتي لم توفَّى حقها. وقد استغرقت هذه الدولة أزيد من خمسة قرون قبل الميلاد، واستمرت بعده إلى سنة 40م. وكان أول من عرفنا من ملوكها باكَا، ثم عددا آخر من الملوك. وقد استطاعت هذه الدولة الحفاظ على استقلالها عن الرومان بعد سقوط قرطاج، واستمرت على ذلك بخلاف الممالك الأهلية الشرقية حتى سنة 40 م.

وكان سكان المغرب في العهد الموري، يتشكلون من الموريين أساسا، وإلى جانبهم سكن الأثيوبيون، والجيتوليون… وكان هؤلاء موزعين بين عدد من القرى والمدن التي كان أغلبها ساحلي. وبالإضافة إلى الأهالي بقبائلهم المختلفة استقرت بالمغرب جالية فينيقية، وقرطاجية مهمة، وخاصة في المدن الكبرى كمدن ليكسوس، وسلا، وموكَادور، وروش أدير، وتمودة…

وما من شك أن الاستقرار السياسي للمملكة المورية، والظروف الاقتصادية والاجتماعية التي توفرت لها سمح لها بتحقيق تراكمات ثقافية وحضارية مهمة، فعلى مستوى اللغة، عرفت الأبجدية المورية تطورات وتغيرات متعددة سواء على مستوى شكل الكتابة وحروفها أو على مستوى الأصوات الخاصة بكل حرف وأيضا عدد الحروف. وكانت هذه اللغة مختلفة عن اللغة الليبية الشرقية. وإلى جانب اللغة المورية التي اقتصر دورها على التواصل الشعبي وبعض الوظائف الدينية، وجدت اللغات الأجنبية البونيقية واللاتينية التي أسندت لها وظائف سياسية وإدارية وتجارية، الشيء الذي أدخل المغرب مبكرا في نوع من الازدواجية اللغوية والثقافية.

وفي مجال العادات والفنون الجميلة، فقد عُرِف الموريون نساء ورجالا بعنايتهم الظاهرة بأمور الزينة والجمال، فاتخذوا الحلّي والقلائد التي كان يلبس بعضها الرجال، واحتفلوا بالحياة بتعاطي الموسيقى والرقص، واخترعوا لذلك الآلات كالطبل، والناي، والصنج… والتي لا نعلم مدى أصالتها. 

أما في المجال الديني، وبالرغم من الأبحاث الكثيرة التي أجريت، فإننا لا نعلم على وجد الدقة واليقين ديانة أو أديان الموريين، لكننا نقف على مزيج مختلط ومتعدد الروافد من الديانات والعقائد، بعضها مَحلّي مرتبط بتقديس الحيوانات وبعض البشر… وبعضها أجنبي وافد من الخارج مع الإغريق والفينيقيين والقرطاجيين، غير أن أبرز ديانة ارتبطت بالموريين أكثر من غيرهم هي عبادة الكبش.

4- إن القضاء على الدولة المورية والسيطرة على موريطانيا الطنجية واحتلالها من طرف الرومان ابتداء من سنة 40م، أحدث في المغرب الأقصى انقساما لم يكن حاصلا ولا واضحا في السابق بين القسم الشمالي الخاضع للرومان، وبين القسم الجنوبي الخاضع للممالك القبلية، وهو الانشقاق الذي لم يكن ظاهرا في السابق في العهد الموري، وتسبب في اندلاع مقاومة محلية طويلة اختلفت بين أعمال ثورية من داخل الولاية وبين حملات عسكرية شنتها القبائل من خارج الحدود. وكانت هذه المقاومة إلى جانب عوامل أخرى أحد الأسباب الرئيسة وراء انسحاب الرومان سنة 285م من الحدود الجنوبية سلا – مكناس نحو الحدود الجديدة بالشمال ليكسوس – تمودة.

غير أن انكماش ولاية موريطانيا الطنجية الرومانية في القرن الرابع الميلادي وإلحاقها بالممتلكات الرومانية في جنوب إسبانيا لم يجلب لها الأمن والاستقرار بحيث سرعان ما تسرب إليها الضعف وانهارت تحت تأثير الظروف الجديدة في شبه الجزيرة الإيبيرية في بداية القرن الخامس الميلادي، حيث أدى ظهور الوندال في جنوب إسبانيا واجتياحهم لشمال إفريقيا إلى القضاء على موريطانيا الطنجية الرومانية سنة 429م، والتحاقها بالمغرب المستقل. وبقي الأمر على هذا النحو حتى عودة البيزنطيين إلى المنطقة ما بين 533/534م والذين لم يتمكنوا من استعادة نفوذ الرومان في المنطقة وانحصر نفوذهم في الشريط الساحلي الممتد ما بين طنجة وسبتة.

ومن ثمّ، فقد استعاد المغرب الأقصى استقلاله الكامل تدريجيا ابتداء من 285م وحتى سنة 534م، ولم يتبق تحت الاحتلال سوى ثغري سبتة وطنجة، اللذان استمرا تحت حكم البيزنطيين حتى الفتح الإسلامي في أواخر القرن السابع وبداية الثامن الميلاديين.

5- لقد شهد المغرب الأقصى بعد الاحتلال الروماني وحتى الفتح الإسلامي على مدى حوالي سبعة قرون تطورات اجتماعية واقتصادية، وثقافية، وحضارية، ودينية مهمة، فعلى المستوى الاجتماعي  ترسخت الظاهرة الحضرية في موريطانيا الطنجية مقارنة بالعهد السابق، حيث اتسعت ظاهرة التمدين وظهرت عدد من المدن الجديدة واتسعت أخرى، وهو ما أنتج تراتبية اجتماعية حضرية أكثر قوة من العهد السابق، تمثلت في ظهور طبقة أرستقراطية إدارية وتجارية وعسكرية في المدن الكبرى كطنجي ووليلي مقابل طبقة دنيا من صغار التجار والصناع والفلاحين والعبيد. وقد تأثر هذا المجتمع الحضري بالعديد من تقاليد العيش الرومانية، وفنونهم. ومقابل هذا التطور النوعي حافظ العالم القبلي (المغرب المستقل) وخاصة وراء حدود البلاد المحتلة على خصوصيته الاجتماعية ونمط عيشه التقليدي القائم أساسا على الترحال.  

ومن ناحية أخرى اغتنى المجتمع المغربي خلال هذا العهد بعناصر اجتماعية جديدة، واستقبل هجرات بشرية متنوعة، فقد ترافق احتلال الرومان لموريطانيا الطنجية مع استقرار عدد كبير ومتنوع من العناصر البشرية الأجنبية بهذه الولاية، وفي مقدمتهم الرومان والإيطاليين الذين شغلوا وظائف إدارية وعسكرية، والإيبيريين، وأهل الدنوب…

أما من الناحية الاقتصادية فقد عرفت موريطانيا الطنجية نموا اقتصاديا ملحوظا، عزز من اندماجها في نسيج اقتصاد البحر الأبيض المتوسط. وقد ساعدها على هذا الاندماج والنمو تفوقها في إنتاج عدد من المواد والسلع الحيوية في ذلك العهد كالسمك المُصَبَّر، والزيت، والحبوب، والحيوانات الضارية.

أما من الناحية الثقافية والحضارية، فقد نجح الاحتلال الروماني في رَوْمَنَة المغرب الأقصى، وخاصة الجزء الذي كان خاضعا لسيطرة الرومان (موريطانيا الطنجية)، كما شكل النموذج الثقافي والحضاري الذي أرسوه في الحواضر في اجتذاب العناصر الأهلية وإغرائها، بحيث لم يتردد الكثير من عناصرها في تبني الثقافة الرومانية أو التَّرَوْمُن الحضاري، وقد امتدَّ ذلك إلى ما وراء اللّيمس (الحدود). وقد تمثّل الترومن الثقافي والحضاري للمغرب الأقصى في عدد من المظاهر كانتشار اللغة اللاتينية التي أمست لغة رسمية للبلاد طيلة فترة السيطرة الرومانية، وانتشار الفنون والألعاب الرومانية…

أما في المجال الديني، فقد أدخل الرومان عقائدهم وآلهتهم إلى موريطانيا الطنجية، التي احتلت مكانتها بين باقي الآلهة المحلّية، والبونيقية… ثم بعد ذلك ظهرت الديانتين اليهودية والمسيحية ابتداء من القرن 2م، حيث أمسى بعض الأهالي المغاربة يهودا ومسيحيين.

وإجمالا؛ إن تاريخ المغرب القديم انطلاقا من هذه الرؤية التركيبية لا يوجد وراءنا، بل إنه على الحقيقة يوجد أمامنا، وهو ما يبرز أهميته في حاضرنا ومستقبلنا، فالكثير من العادات السياسية والحضارية التي تميز هذا البلد تعود جذورها إلى هذه العهود السحيقة من تاريخ المغرب، كما أن الهوية المتوسطية للمغرب، وارتباطه بالضفة الشمالية للبحر الأبيض المتوسط وخاصة إيبيريا قدر لا يمكن تجاوزه، حيث يؤكد هذا التاريخ الصلاة المباشرة والدائمة بين الضفتين في مختلف مراحل هذا التاريخ.

ومن ناحية أخرى، إن تاريخ المغرب القديم يبعث على الثقة في المستقبل، فقد كان المغاربة كما هو واضح من خلال أمثلة عديدة في هذا الكتاب من الشعوب الأولى التي دخلت التاريخ، وعاشته ثوراته المبكرة مثل الزراعة، وتدجين الحيوانات، واختراع الكتابة، وتأسيس الدولة… وما من شك أن شعبا بهذا الماضي قادر على استعادة قوته وريادته في الحاضر والمستقبل.

Share
  • Link copied
المقال التالي