منذ انتشار جائحة كورونا تسببت خلال أشهر قليلة بالعديد من الآثار السلبية على دول العالم بما فيها المغرب. ولكن ليس كل ما نجم عن الجائحة يندرج في جانب الأضرار، فرب ضارّة نافعة. وهناك بعض الدروس الإيجابية التي يمكن أن نستفيدها من هذا التحدي الخطير الذي ألمّ بالبلاد. إن أهم درس يمكن استخلاصه من جائحة كورونا هو أن على المغرب البناء على الزخم الإيجابي الذي تولد عنها وعن المصالحة التي يكمن اعتبارها تاريخية بين مؤسسات الدولة وجميع مكونات الشعب المغربي وجعل هذه المصالحة مع الذات هي نقطة انطلاقة لبناء مغرب جديد ينعم فيه جميع المغاربة بالحرية والمساواة أمام القانون وتكافؤ الفرص ويتم فيه نبذ كل القيم الشاذة التي تقف أمام بناء مجتمع متقدم ومزدهر ومنفتح على الآخر.
في ظل الظرفية غير المسبوقة التي يمر بها العالم، على المغرب التفكير في كيفية التعاطي مع التداعيات الاقتصادية والاجتماعية التي تمخضت عن أزمة كورونا وكيفية بناء مغرب أفضل، مغرب يقطع الصلة مع التبعية للخارج، ومع تفضيل الكفاءات الأجنبية على الكفاءات المغربية ومع الإحساس بالدونية تجاه الغرب، ومع اقتصاد الريع ومع الفساد المستشري في البلاد، الذي يساهم الكثير من السياسيين في تفشيه.
الكثيرون يقولون إن العالم سيتغير بعد انفراج أزمة كورونا، ولكنهم في نفس الوقت ينسون أنه لن يقع أي تغيير حقيقي أو نوعي على حياتنا إذا لم نغير سلوكنا كمجتمع وحكومة ودولة وإذا لم نراجع أوراقنا ونضع أصبعنا على مكامن الخلل التي حالت دون تبوء بلدنا المكانة التي يستحقها بين الأمم.
صحيح أن هناك العديد من السلوكيات المجتمعية المقيتة التي لا يمكن تغييرها بين عشية وضحاها لجيل على الأقل وتحتاج لإصلاح جاد ونوعي لمنظومة التعليم من أجل تحقيقها، لكن هناك أمورا أخرى يمكن تغييرها إذا كانت لنا الإرادة وبعد النظر والحس الوطني لوضع بلادنا في الطريق الصحيح نحو بناء مستقبل مشرق للجيل الحالي والأجيال الصاعدة. ولعل أول هذا الأمور هو استعاد الثقة في الإنسان المغربي والكفاءة المغربية والاعتماد على الكفاءات المحلية وإشاعة ثقافة الاستحقاق وتشجيع الصناعات المحلية في كل القطاعات وتقليل اعتمادنا على الخارج في شتى المجالات.
فقد تفاجئ الكثير من المغاربة والعديد من العواصم العالمية من الطريقة الاستباقية والمهنية والمتبصرة التي تعامل من خلالها المغرب مع جائحة كورونا، والتي مكنته من تفادي انتشار مهول للوباء في البلاد ومن إصابة المنظومة الصحية بالشلل، وبالتالي إنقاذ حياة عشرات الآلاف من الأرواح. فبالإضافة إلى الإسراع في غلق الحدود وفرض حالة الطوارئ وإنشاء صندوق لمواجهة التداعيات الاقتصادية والصحية لهذه الجائحة، وبناء مستشفيات ميدانية مجهزة بكل المعدات الضرورية لاستقبال المرضى، رأينا كيف عبأ المغرب كل كفاءاته وطاقاته من أجل تزويد كافة مكونات الشعب المغربي بالمعدات الضرورية للوقاية من انتشار الوباء، على رأسها الكمامات. كما رأينا كيف تعبأ الخبراء والمهندسون والتقنيون المغاربة لصنع آلات وأجهزة تساعد على الوقاية من هذا الوباء في استكشاف من خلال الاعتماد على الذكاء الاصطناعي. ورأينا كيف تجاوبت كل مكونات المجتمع المغربي بكل وعي ووطنية ومسؤولية مع الخطوات الاحترازية التي اتخذتها الحكومة للحد من انتشار الوباء والتخفيف من تداعياته الصحية والاجتماعية والاقتصادية.
كما سارع المغرب إلى تعبئة مصانع النسيج عبر ربوع المملكة لإنتاج الملايين من الكمامات يوميا ولم يتوان في فرضها على كل المغاربة. في غضون ذلك، عاشت الكثير من العواصم الغربية في تخبط وفي تضارب في الآراء حول ضرورة ارتداء الكمامة من عدمه للوقاية من تفشي الوباء، ولم تزود أسواقها المحلية بما يكفي من الكمامات بسبب اعتمادها الكلي على الصين. وقد أبانت الدول الغربية عن ممارسات غير أخلاقية في كيفية حصولها على الكميات الضرورية من الكمامات لتزويد أسواقها الداخلية غير مكترثة بأي من القيم الإنسانية التي لطالما تبجحت بها لقعود من الزمن. وهنا وجب استحضار حالة شركة أمريكية حرمت شركة فرنسية من الحصول على دفعة من الكمامات كانت قد طلبتها منذ مدة طويلة واستحوذت عليها من إخلال إغواء المزود الصيني بالدفع له أكثر من الشركة الفرنسية.
وقد وضع المغرب نفسه في منأى عن هذه الحسابات والمزايدات من خلال اعتماده الكلي على صناعته وكفاءاته المحلية. بالإضافة إلى ذلك، في ظل الجدل القائم بين الأطباء عبر العالم حول المضاعفات الجانبية التي قد يتسبب فيها بروتوكول هيدروكسي كلوروكين للمرضى المصابين بفيروس كورونا مقابل نجاعة هذا الدواء في علاج المرضى، فقد اتخذ المغرب منذ أواخر شهر مارس قراره السيادي الشجاع باستعماله.
وكنتيجة مباشرة لذلك، حافظ المغرب على نفس نسق اكتشاف عدد الحالات ما بين 100 و200 على أكبر تقدير، مما يعني أنه تفادى الارتفاع الأسي (exponential) لعدد الحالات. وقد ساعدته هذه الإجراءات على تفادي كارثة صحية غير مسبوقة كان من شأنها أن تعصف بحياة عشرات الآلاف من الأرواح. وفي الوقت الذي فقدت العديد من الدول الآلاف من الأرواح، فقد ساعد البروتوكول العلاجي المتبع من طرف الأطر المغربية على خفض وتيرة عدد الوفيات، الذي لم يتعدى لحد الآن 186 حالة، بينما عدد المتعافين في ارتفاع مضطرد. وقد حظيت نجاعة المغرب في التصدي لجائحة كورونا بإعجاب وسائل إعلام دولية كصحيفة الباييس الإسبانية لوموند الفرنسية، التي دأبت في الماضي على تحين أي فرصة لانتقاده والانتقاص من إصلاحاته السياسية.
ولعل مقارنة بسيطة بين المغرب وجيرانه في أوروبا، على رأسهم إسبانيا وإيطاليا وفرنسا، تظهر بشكل لا يدع مجال للشك أن تبصر المغرب وتعلمه من أخطاء الآخرين وتعامله بشكل استباقي مع الجائحة مكنه من تفادي السيناريوهات الكارثية التي وقعت في تلك البلدان على الرغم من قوتها الاقتصادية والمالية وجودة أنظمها الصحية بالمقارنة مع المغرب. وقد دفعت هذه النجاعة المبهرة العديد من السياسيين الإسبان إلى التعبير عن إعجابهم بالنموذج المغربي في التصدي لتداعيات جائحة كورونا.
غير أن كل هذه المكتسبات قد تذهب سدى إذا لم تستخلص الدولة المغربية والمجتمع المغربي العبر من هذه الجائحة لبناء ميثاق وطني جديد يكون قوامه السيادة في اتخاذ القرارات بمعزل عن أي تأثيرات خارجية وإصلاح التعليم وجعله يساير المتغيرات المتسارعة لعالم اليوم وإصلاح المنظومة الصحية. كما ينبغي أن يرتكز الميثاق المجتمعي الجديد على تشجيع البحث العملي في شتى المجالات وجعله أولى الأولويات التي ينبغي تسخير جميع الإمكانيات والطاقات البشرية لتحقيقها، وسد الفجوة الرقمية والعمل على إنشاء مختبرات علمية بمواصفات عالمية من شأنها ليس فقط الإبقاء على الكفاءات الوطنية في المغرب، بل على استقطاب خيرة الأجانب للعمل فيها.
بالإضافة إلى ذلك، ينبغي الاعتماد على الطاقات والكفاءات المغربية وإعادة الاعتبار لها والقطيعة مع عقيدة الأجنبي ومع ثقافة تفضيل هذا على المغربي، كما لو كانت جنسيته أو جواز سفره ضمانا لكفاءته بغض النظر عن قدراته العلمية والعملية.
علمتني تجربتي في الغرب لأكثر من 20 سنة أن الإنسان الغربي لا يتفوق على الإنسان المغربي في الملكات الفكرية أو العلمية أو في قوة الإدراك أو في الذكاء، بل يستفيد من منظومة تعليمية ومن تأطير يؤهله للحصول على المهارات والكفاءات التي تمكنه من دخول سوق الشغل أو في تطوير ملكاته التفكيرية أو الابتكارية. ولعل هذا هو ما يدفع بالكثير من الكفاءات المغربية إلى الهجرة سنويا للخارج بحثاً عن فرص تتناسب مع طموحاتهم العملية وعن مناخ مهني يحفزهم على العطاء أكثر وتحقيق ذاتهم. إن الكفاءات المغربية التي تعمل في كبريات الشركات العالمية في جميع أنحاء لا تعد ولا تحصى. ويكفي أن نذكر في هذا الصدد أن أكثر من 600 مهندس مغربي يغادرون المغرب سنويا للبحث عن فرص شغل تتناسب مع طموحاتهم المهنية والمالية وتوفر لهم المناخ الأمثل لتطوير مهاراتهم.
إن ما يحز في النفس هو أن المغرب يدفع الملايير سنويا لتكوين الأطر العليا ويهديها بشكل مجاني لدول مثل فرنسا أو إسبانيا أو الولايات المتحدة. وفي آخر المطاف تشتغل تلك الأطر المغربية في قطاعات تجني منها الشركات الأجنبية أموالاً طائلة من صادراتها للمغرب. أما الأطر المغربية التي لم يحالفها الحظ لسبب من الأسباب للهجرة للخارج، فإما أن ملكاتها العلمية تصاب بانتكاسة بسبب غياب فرص عمل مناسبة أو ظروف تساعد على الابتكار أو أنها تشتغل في قطاعات بعيدة عن مجال تخصصها.
وبالتالي، فعلى الدولة المغربية أن تضع من ضمن مخططاتها إصلاح المنظومة التعليمية وملاءمتها مع متطلبات العصر وتوفير الظروف الملائمة للكفاءات المغربية لصقل وتطوير كفاءاتها بما يعود بالنفع على المجتمع والبلد ككل. صحيح أنه لن يكون بمقدورنا تحقيق ذلك بين عشية وضحاها، غير أن اتخاذ أي خطوة إيجابية في هذا الاتجاه في مرحلة ما بعد كورونا سيكون لها وقع إيجابي على اقتصاد البلاد وازدهاره وتماسكه الاجتماعي بعد عشرة أو عشرين سنة من الآن. بالموازاة مع ذلك، على الحكومة إعادة النظر في كل اتفاقيات التبادل الحر التي تم اعتمادها دون دراسات دقيقة وعميقة لأثرها على النسيج الصناعي المغربي وعلى سوق الشغل، وعلى الميزان التجاري.
ولعل الأثر الكارثي الذي تركته، على سبيل المثال، اتفاقية التبادل الحر مع تركيا على قطاع النسيج لخير دليل على الضرر الذي ألحقته ذلك بالاقتصاد المغربي. وما قيل عن اتفاق التبادل الحر مع تركيا ينطبق على اتفاقات التبادل مع دول وتكتلات إقليمية أخرى، بما في ذلك الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي. كما ينبغي وضع حد لسياسة الباب المفتوحة مع الصين، التي أثرت بشكل كارثي على جميع القطاعات الصناعية، بما في ذلك الصناعة التقليدية بعدما أصبح الصينيون يصدرون منتجات الصناعة التقليدية بأثمان بخسة دون مراعاة معايير الجودة، مما تتسبب في إفلاس العديد من مقاولات الصناعة التقليدية في مدن مثل فاس ومراكش. على المغرب إعادة النظر في شراكات مثل الشراكة التي تجمعه مع الصين، التي يتجاوز حجم صادراتها للمغرب 13 مرة حجم وارداتها.
وإذا كان على الدولة اتخاذ الخطوات الضرورية لوضع الاقتصاد الوطني على الطريق الصحيح وإعادة الاعتبار للكفاءات الوطنية، فعلى المجتمع المغربي كذلك أن يضطلع بدوره. فلا يمكن للخطوات التي على الحكومة اتخاذها لتعزيز النسيج الصناعي المغربي والتقليل من الاعتماد على الخارج أن تنجح إذا استمر المستهلك المغربي في تفضيل المنتوج الأجنبي على المنتوج المحلي.
بعد الرجة الاقتصادية والنفسية التي خلقتها جائحة كورونا في جميع أنحاء العالم، على المستهلك المغربي أن يتحلى بنوع من الوطنية وأن يكون على علم أن تفضيله للمنتوجات الأجنبية يعني تدمير فرص شغل أو قطاعات صناعية برمتها والمساهمة بشكل مباشر في تعميق العجز المزمن الذي يعانيه المغرب في الميزان التجاري، ومن تم تعميق مديونته للخارج. كما على المستهلك المغربي، خاصةً في حالة الركود الاقتصادي التي سيعشها المغرب في الفترة القادمة، إعادة الاعتبار للسياحة الداخلية. فبلادنا تزخر بالعديد من المنتجعات السياسية والمؤهلات الطبيعية المنقطعة النظير التي يستفيد منها في الغالب السياح الأجانب. فعوض الذهاب لقضاء عطلة في الخارج واستعمال العملة الصعبة التي ستكون خزينة البلاد في حاجة ماسة إليها لتسديد الدين الخارجي أو لتغطية الواردات، فلنحرص على تشجيع السياحة الداخلية والمساهمة في إنعاش هذا القطاع الحيوي الذي أدخلته جائحة كورونا في حالة ركود غير مسبوقة.
على الرغم من الضرر الاقتصادي والنفسي الذي تسببت فيه جائحة كورونا للملايين من المغاربة، فإنها تعتبر فرصة تاريخية على الدولة وجميع مكونات المجتمع المغربي استعمالها كنقطة بداية لإصلاح التعليم وبناء نموذج اقتصادي جديد ينبذ الريع ويكون أحد أهم أهدافه التقليل من الواردات ومن العجز التجاري وتعزيز قدرات البلاد في القطاعات الصناعية ذات القيمة المضافة العالية.
*خبير مغربي في العلاقات الدولية مقيم بالولايات المتحدة الأمريكية ورئيس تحرير موقع Morocco World News
تعليقات الزوار ( 0 )