شارك المقال
  • تم النسخ

بعد المصالحة الخليجية..إغلاق الحدود بين المغرب والجزائر حكمة سياسة أم فروسية دونكشوطية؟

المتتبع للعلاقات المسيطرة على أنظمة دول جامعة العرب، سيلاحظ أنها تتميز بإغلاق الحدود فيما بينها البين. وفي أفضل الأحوال يتم ربط وضعها بالأمزجة المتشنجة للحاكمين الذين يبدو انهم يتقنون الانغلاق على الذات وإغلاق الحدود وقطع التواصل وتجييش العواطف السلبية ضد جيرانهم؛ وقلما تتقن أنظمتهم سياسة حسن الجوار الإيجابي، بل يندر أن تجد في معاجم ممارساتهم للسلطة مفردات تدل على تيسير الاتصال والتواصل بين الشعوب التي فرضت عليها الجغرافيا الجوار الأبدي.

أغلقت السلطة الجزائرية حدود الجزائر البرية، التي يبلغ طولها 1601 كلم مع دولة المغرب، منذ صيف 1994 ولا تزال مغلقة، بل ليس هناك ما يشير إلى إمكان فتحها في المدى المنظور. والواقع أن علاقة النظامين الجزائري والمغربي كانت شديدة التشنج منذ خريف 1975، وكانت قبل ذلك خاضعة لهواجس التوجس منذ السنة الثانية لاستقلال الجزائر. الأمر الذي جعل بعضهم يعلق بأن علاقة النظامين الجزائري والمغربي تميزت بسنوات من الخصومة الشديدة التنافر، مقابل ساعات معدودة من التوافق والوئام.

يشيد البعض بأن الحدود الجوية بقيت مفتوحة بين الجزائر والمغرب بعد 1994، وكذلك الحدود البحرية. لكن الجزائريين والمغاربة يعرفون أن التواصل أو تبادل الزيارات عن طريق الجو لا تقدر عليه الغالبية العظمى من سكان البلدين الذين لا تسعفهم أوضاعهم الاقتصادية السفر عبر الطيران. ولذلك فإن المستفيدين من الانتقال عن طريق الجو محدودون جدا، ويمثلون بخاصة أصحاب الامتيازات. أما السفر والتنقل عن طريق البحر بين البلدين فقد تم التخلي عنه منذ الاستقلال عن فرنسا. والأغرب من ذلك أن تبادل الصلع بينهما، على ندرته، يتم بوساطة الموانئ الفرنسية والإسبانية كما يعلم الجميع.

مما لا شك فيه أن تصلب مواقف البلدين إزاء بعضهما البعض، واستمرار فشلهما في استشراف واكتشاف المسالك المؤدية إلى الخروج من النفق الذي دخلا فيه، يستدعي وجوبا المراجعة الجادة لخطط العلاقة بين الدولتين، من أجل تجاوز أوهام ونزعات الدولة الغالبة في المنطقة. إن المنطقة بحاجة إلى دولة قاطرة نحو التقدم وازدهار الشعوب، وليس إلى دول تزدري قيم جيرانها والحط من كرامتهم، أو دول تتفاخر على جيرانها بتفوقها على اقتناء سلاح فتاك، بدل أن تتفاخر بتقدمها العلمي، والحكم الرشيد، والاقتصاد الاجتماعي المنتج للشغل والثروة، وتحقيق المواطنة لكل رعاياها.

نعتقد بأن الشعبين الجارين ونخبهما المتحررة من ثقافة إنسان ما بعد الموحدين، تتمنى دوما أن تسلك الدولتان نحو بعضهما البعض مسلكا سياسيا براغماتيا، والتخلي عن نهج السياسات السابقة، التي لم تحقق إلا خلق مشاعر التباغض بين شعبين جارين جغرافيا، بل محكوم عليهما بالتجاور الأبدي. وليس من الحكمة والمنطق السياسي الاستمرار في التشبث بمضمون المثل المغاربي “معزة ولو طارت”.

ما دام العجز عن إيجاد حلول ناجعة للقضايا العالقة بين الدولتين قد قارب الستة عقود من الزمن، ولا مؤشرات إيجابية في الأفق على وجود تفاهمات حقيقية بينهما، وجب وجوبا اضطراريا على أصحاب القرار القبول بالوساطات الخارجية، التي بوسعها أن تقترح مخارج ممكنة للخروج من وضع الفشل الذي رافق العلاقة بين الدولتين، من أجل تجاوز السياسة النمطية التي لا يمكن لها إلا أن تعيد تكرار النتائج السابقة، وتجاوز لغة الوعي الشقي المرددة لعبارات ومصطلحات من مثل: أخوّة الشعبين، والأشقاء، ووحدة المصير، ووحدة الدين، واللغة المشتركة…إلخ، في الوقت الذي تعمل فيه السياسات المتبعة  ضد تلك المصطلحات والعبارات.

على عكس ما جرى ويجري في شمال إفريقيا، استطاع الخليجيون وضع حد لمعضلة مماثلة بل أشد. ففي 5 يونيو 2017، اعلنت المملكة السعودية ومن معها (الإمارات والبحرين ومصر)، عن إغلاق كلي للحدود مع قطر بل محاصرتها، حصارا شاملا، حتى تخضع لمطالبها المعروفة بالشروط الـ 13. وهي شروط أقرب ما تكون إلى إملاءات نظام دولة القبيلة والغلبة. لكن بعد مرور خمس سنوات ونصف السنة أعلنت دولة الكويت، الوسيط بين الفرقاء، يوم 4 يناير 2021، عن حدوث اتفاق على فتح ما أُغلق. ثم تأكد الفتح والانفتاح يوم 5 من الشهر نفسه في بيان مؤتمر القمة لمجلس التعاون لدول الخليج العربية.

علما أن العداء بين دولة السعودية ومن معها من جهة، وبين دولة قطر من جهة ثانية، بلغ مبلغا لا يمكن تصنيفه في أي خطة سياسية تنتمي إلى الثقافة السياسية المعاصرة، مهما تكن درجة العداء بين الدول المتنازعة. فقد أوحت أجهزة دولة السعودية إلى وسائل إعلامها ودعايتها بتغيير اسم قطر من على التداول الإعلامي والشعبي، وتعويضه باسم “جزيرة شرق سلوى”. الأمر الذي جعل سكان المملكة السعودية، كرها أو طوعا، يرددون عبارة “جزيرة شرق سلوى” بدل قطر في اتصالاتهم ومداولاتهم، بل أن الدولة السعودية كانت قد أعلنت في 1 – 9 – 2018 عن عزمها على حفر قناة بحرية على طول حدودها البرية مع دولة قطر. ومن ثمة ستصبح قطر جزيرة مفصولة كلية بالبحر عن السعودية.

ومن جانب آخر لطالما كرر وزير خارجية السعودية في تصريحاته الصحفية لوسائل إعلام عالمية أن دولة قطر تعرف ما يجب فعله، لكي يُرفع عن شعبها الحصار، ويسمح لهم بالحج انطلاقا من ديارهم؛ وهو يشير إلى ضرورة تنفيذها الشروط الـ 13. وإذا لم تفعل فإن غلق الحدود والحصار سيستمر أكثر من خمسين سنة، مثلما فعلت الولايات المتحدة مع كوبا.

ويبدو أن الحكمة السياسية لم تكن غائبة عن نظام السعودية فقط، بل كانت مغيبة أيضا عن صناع سياسة دولة الإمارات العربية. ونعتقد بأنه لم يكن بينهم من تشرّب من حكمة الشيخ زايد رحمه الله، لأنهم لم يفهموا ولم يستوعبوا أن المشكلات التي يتسبب فيها الإنسان، فإن هذا الإنسان نفسه هو من يجب أن يبحث عن مخارج وحلول ملائمة لها، وليس تعقيدها بمزيد من المضاعفات. اللهم إذا عادت شريعة القبيلة إلى سياسة دول الخليج، عوضا عن منهجية الساسة المدنية؛ لأن الابتعاد عن السياسات المدنية ينجم عنه ابتعاد آخر، يتمثل أساسا في التنكر لقدرة الإنسان على إيجاد المخارج الممكنة لتجاوز سوء الفهم والعثرات المسببة في خلق المشكلات. وقد بلغت عقيدة القبلية بالمتنفذين في الإمارات إلى حذف دولة قطر من مناهجها المدرسية منذ بدايات 2018.

أما مقررو السياسة الخارجية لدولة الإمارات فقد جندوا كل الوسائل لإحكام غلق الحدود مع دولة قطر. وأقرب مثال في زمن الغلق تصريح السفير الإماراتي في واشنطن؛ الشهير بمركزيته في رسم السياسة الخارجية لدولة الإمارات العربية، جاء فيه “إن حلحلة موضوع حصار قطر ليس من أولوياتنا”. كان ذلك التصريح قبل أقل من شهرين من تاريخ إعلان خارجية الكويت فتح الحدود مع قطر؛ وقبل أيام قليلة من إصدار ترامب أوامره بالفتح إلى نفس الجهات التي نفذت الإغلاق، كي لا يستفيد من ذلك خصمه اللدود جوزيف بايدن بعد 20 يناير 2021. لكن، ومهما يكن من أمر، لا نغمط دور الوسيط الكويتي وإصراره على الاستمرار في القيام بالوساطة الإيجابية بن دولة السعودية ومن معها ودولة قطر. فالأهم لدى دولة الكويت هو ظهار نجاعتها ودورها كدولة ديمقراطية تؤمن بحل الخلافات عن طريق التفاوض السياسي والدبلوماسي، بعيدا عن قنابل العصبية والقبيل؛ فكان لها شرف الإعلان عن نهاية الانغلاق والإغلاق، والنظر بالتالي إلى ما جرى كمجرد حدث “عارض”. 

فكيف استطاع الخليجيون تجاوز أمزجتهم العشائرية والقبلية لصالح الانفتاح والانحياز إلى سياسات برغماتية، ولو مرحليا، في الوقت الذي فشلت فيه جميع المحاولات في شمال إفريقيا طوال 26 سنة ونيف، لدفع دولتي الجزائر والمغرب إلى عدم تكرار طرح الخطط نفسها التي لم ينتج عنها في العقود الماضية إلا الخيبة، وأن تكرارها لم ولن يتولد عنها إلا نتائج سلبية أخرى، وتداعيات قد تنذر بأسوأ المخاطر.

  من سوء حظي أنني عاصرت كل المراحل الزمنية التي يطلق عليها “الدولة الوطنية” في البلدين، واطلعت على كثير من أفكار وآراء الجانبين التي ساعدتني على تقييم اختيارات وسياسات النافذين في كلتا الدولتين. وأستطيع أن أصف جل آرائهما الخاصة بالعلاقة بين الشعبين باقتباس قول القرآن الكريم {يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم}، أو أن أُدرِجها ضمن فلسفة جوزيف غوبلز Joseph Goebbels)‏) وزير الإعلام والدعاية في العهد النازي، التي أدت في آخر المطاف إلى انهيار النازية ومنظريها.

يبدو، والحال هذه، أن الصفوة السياسية في البلدين المغاربيين لم تكن لديهم القدرة الكافية على إيجاد الحلول لمشكلاتهم؛ ورغم ذلك رفضوا على الدوام الاستعانة بالوسطاء الأكفاء والناجعين قصد مساعدتهم على الخروج من سياسة “معزة ولو طارت”. أضف إلى ذلك، أن كل طرف مغاربي راهن ولا يزال يراهن على فرنسا لمساندته ضد جاره. والطرفان قدما ويقدمان صورة كاريكاتورية عن حالهما، وهما يقومان بتنافس شديد بينهما على تقديم أفضل الامتيازات لفرنسا، على أمل أن تضمن له الانتصار على جاره. وفرنسا الخبيرة بعقلية الطرفين تتفنن في ابتزازهما طولا وعرضا.

والواقع أن سياسة الابتزاز الفرنسية لدول مستعمراتها السابقة ليس استثناء، بل أنها سياسة تعبر عن ذهنية أكثر المنتمين إلى الثقافة اللاتينية؛ وهي تخالف ذهنية الأنجلو – سكسون، وتخالف كذلك المنهجية البرغماتية التي تدفع كل الأطراف، بما في ذلك المتخاصمين، إلى الاستفادة المتبادلة مع إمكانية الوصول إلى مرحلة “الاعتماد المتبادل”. وهذا ما تم تطبيقه من قِبل أمريكا على المتخاصمين الخليجيين. ويحق لنا أن نعتقد بأن ملف منطقة شمال إفريقيا لو وجد في يد أمريكا أو انجلترّا لكان حل خصومات المغاربيين ممكنا. أما إذا بقي المغاربيون غير مؤهلين أو غير مستعدين لحل قضاياهم ومشاكلهم، وما دامت فرنسا المتحكم الأكبر في نزاعات مستعمرتيها بالأمس، فإن الحل قد يطول ويطول.

*مفكر مغربي ودبلوماسي سابق مقيم في كندا

شارك المقال
  • تم النسخ
المقال التالي