Share
  • Link copied

باحث يبرز طفرة السلوك الدبلوماسي المغربي على ضوء الأزمة الحالية مع إسبانيا

عرفت الدبلوماسية المغربية في السنوات الأخيرة طفرة هائلة في تعدد آليات اشتغالها من أجل الدفاع عن القضايا الوطنية في سياق متغيرات إقليمية ودولية جديدة، ولما كانت الدبلوماسية من منظور أرنست ساتو Ernest Satow هي “فن تطبيق الحيلة والذكاء في إدارة العلاقات الرسمية بين الحكومات والدول المستقلة”، فإن الدبلوماسية المغربية في الوقت الراهن تسعى إلى توظيف الدهاء الدبلوماسي، بما يقتضي ذلك من الإعمال بمبادئ القانون الدولي ونصوص المعاهدات، ثم الاتفاقيات الدولية الثنائية والمتعددة الأطراف في إدارة علاقاتها الدولية عن طريق المفاوضات.

على هذا الأساس، تتفاعل الدبلوماسية المغربية وفق ما يمليه صانعوا القرار في المغرب استنادا إلى محددات السياسة الخارجية، حيث تستمد هذه الأخيرة أسسها على المصالح الوطنية العليا، والتي تقتضي الحفاظ عليها من منطلق مرجعية صلبة قوامها الانفتاح، التسامح، التاريخ، مناصرة السلام، وتقوية التفاهم بين الشعوب والأمم مهما كانت عقائدها ومذاهبها.

وإذا كانت السياسة الخارجية كما يعرفها تشارلز هيرمان Charles Herman هي “مجموعة من السلوكيات السياسية الخارجية من تلك السلوكيات الرسمية المتميزة التي يتبعها صانعوا القرار الرسميون في الحكومة أو من يمثلونهم، والتي يقصدون بها التأثير في سلوك الوحدات الدولية”، فإن الدبلوماسية المغربية لا يمكنها أن تخرج عن هذا الإطار، خاصة في قضايا هامة كالوحدة الوطنية أو الهجرة أو غيرها، فما هي – إذن – أنماط السلوك الدبلوماسي المغربي في التفاعل مع هاتين القضيتين في ظل الأزمة الدبلوماسية المغربية – الإسبانية؟

أولا: سياق توظيف الدبلوماسية المغربية لملف الهجرة في العلاقات المغربية الإسبانية

يتفق كثير من الباحثين والمهتمين بشؤون الهجرة على أن التجربة المغربية في مجال الهجرة واللجوء هي من بين التجارب الرائدة على المستوى العالمي، بحكم أنها ارتكزت على مجموعة من الأبعاد الإنسانية والحقوقية والاجتماعية والتنموية التي تهم حقوق المهاجرين واللاجئين على حد سواء، بصرف النظر عن لونهم أو جنسهم أو دينهم أو عرقهم أو انتماءاتهم الجغرافية..

إذ لا يمكن أن نجهل حجم الإمكانيات الهامة التي سخرتها الدولة المغربية لتنفيذ الاستراتيجية الوطنية للهجرة واللجوء، حيث أطلقت السلطات المغربية عملية تسوية الوضعية الإدارية للمهاجرين المقيمين بطريقة غير قانونية بالمملكة المغربية بين 2 يناير و31 دجنبر 2014، وعبأت لها إمكانيات لوجيستيكية وبشرية مهمة أسفرت عن قبول 23.096 طلبا، أي بنسبة 83 في المائة من العدد الإجمالي للطلبات المقدمة.

فضلا عن ذلك، تم إطلاق المرحلة الثانية لعملية تسوية وضعية الأجانب في وضعية غير قانونية خلال الفترة الممتدة من 15 دجنبر 2016 و31 دجنبر 2017 بتوجيهات ملكية، حيث استقبل 28400 طلب لتسوية الوضعية، يمثلون 113 جنسية، فقبلت منهم اللجان المختصة 20000 طلبا، والباقي بصدد الدراسة من طرف اللجنة الوطنية للطعون، كما استفادت من هذه التسوية فئات من النساء وأبنائهن والقاصرين غير المرافقين والأجانب القادرون على إثبات مزاولتهم لنشاط مهني، بغض النظر عن المعايير الأولية التي تم التنصيص عليها مسبقا. وعلى غرار هذه الإجراءات، فقد تمت تسوية وضعية 780 من طالبي اللجوء لدى مكتب المفوضية السامية لشؤون اللاجئين بالرباط، ناهيك عن إعادة فتح مكتب اللاجئين وعديمي الجنسية على مستوى وزارة الخارجية.

كما لعب المغرب – لمدة طويلة من الزمن – دور دركي أوربا في مواجهة تدفقات المهاجرين الأفارقة القادمين من جنوب الصحراء، إذ كلف ذلك المغرب تحمل أعباء هؤلاء الوافدين، وتطلب منه تضحيات كبيرة وفاء منه للالتزامات الدولية ومرجعية حقوق الإنسان الكونية، الأمر الذي استفادت منه دول الاتحاد الأوربي بشكل عام وإسبانيا على وجه الخصوص، وتجدر الإشارة في هذا الصدد بأن المغرب تمكن من الحد من تدفقات آلاف المهاجرين غير الشرعيين، إضافة إلى تفكيكه للمئات من الخلايا التي تهرب البشر والمخدرات والتنظيمات الإرهابية.

في سياق هذه المعطيات التي لا يمكن تجاوزها، وبالموازاة مع ما تعرفه علاقات المغرب بجاره الشمالي من تطور في شتى المجالات، فقد عرفت العلاقات المغربية الإسبانية في الأيام الأخيرة توترا بسبب دخول زعيم البوليساريو التراب الإسباني بهوية مزورة، حيث تلاه العديد من ردود الأفعال المغربية، والتي تجلت بالأساس في تخلي السلطات المغربية عن مراقبة الحدود المغربية الإسبانية، إذ لم ينبع هذا السلوك الدبلوماسي المغربي لمن فراغ، بل استند إلى اعتبارات واقعية في توظيفه لملف الهجرة، نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر:

  • تجاهل إسبانيا لمعظم الاتفاقيات الثنائية القضائية والأمنية.
  • الازدواجية في المواقف من خلال القبول بدخول زعيم الانفصاليين بهوية مزورة ودون علم المغرب أو التشاور معه، بالرغم من أن المغرب يتخذ مواقف واضحة بخصوص حركات الانفصال في العالم، وإسبانيا معنية بهذا الأمر.
  • مسؤولية إسبانيا وإمساكها للعصا من الوسط في قضية وحدتنا الترابية بالرغم من حجم المصالح التي تربطها بالمغرب.
  • الإخلال بالشراكة القوية في جميع المجالات، وبالتالي لا يمكن للمغرب أن يقبل بشراكة ذات اتجاه وحيد، وإنما يتطلب الأمر تفعيل هذه الشراكة في جميع مناحيها ومنها الشراكة الأمنية التي تحفظ أمن الدولتين.

    من هذا المنطلق، تفرض الدبلوماسية المغربية واقعا جديدا وتعاملا مغايرا خلافا لما كان عليه الأمر في السابق، وذلك من خلال تكثيف آليات استغلالها على المستويين الرسمي والموازي من أجل الحفاظ على المصالح العليا للمغرب وفي مقدمتها قضية الصحراء المغربية، خصوصا وأن المغرب في الوقت الراهن لديه العديد من الملفات الممكن أن يلجأ إليها إذا ما صعدت إسبانيا في عدائها للوحدة الترابية المغربية، من أهمها ملف إدارة الهجرة في المتوسط.

    ثانيا: الوجه الجديد للدبلوماسية المغربية في ظل المتغيرات الراهنة

    فرضت المعطيات الواقعية الراهنة على الدبلوماسية المغربية ضرورة التعامل مع مختلف الفاعلين تعاملا يتسم بالواقعية والندية، بخصوص مصالحه الحيوية وفق محددات يؤمن بقوتها وصلابتها في مواجهة كل التحديات وطبيعة السلوك الدولي، إذ تجدر الإشارة إلى أن الدبلوماسية المغربية تستمد مرجعتيها – إضافة إلى الاتفاقيات الدولية – من مبادئ الممارسة الدبلوماسية في إدارة العلاقات مع الدول والتي تنبني على مبدأ المعاملة بالمثل الذي كرسته الدبلوماسية المغربية من خلال الأزمة الأخيرة.

    فقد أبانت العلاقات المغربية الإسبانية – لمدة طويلة – عن نجاعة المقاربات المغربية في التصدي لمعضلات الأمن في المتوسط، حيث قام المغرب في هذا الصدد بتنفيذ وتتبع البرامج والشراكات التي أسست بينه وبين الاتحاد الأوربي، خاصة سياسات حسن الجوار والوضع المتقدم وإدارة الهجرة بروح من المسؤولية، إلا أن إسبانيا سعت إلى خرق كل هذه الشراكات من خلال سلوكها الذي ينم عدم الثقة والتآمر على مصالح المغرب، كما أن إسبانيا من خلال هذا السلوك تبين على أنها لا زالت تتعامل مع المغرب بمنطق الدول الاستعمارية.

    علاوة على ذلك، فالتوتر الأخير الناتج عن استقبال زعيم الإنفصاليين قد أبان على أن الدبلوماسية المغربية لن تقبل بهذه السلوكيات الصادرة من إسبانيا ذات الصلة بتهديد أمن واستقرار المغرب، خصوصا وأن زعيم البوليساريو متهم من طرف القضاء الإسباني بتهم خطيرة، أبرزها جرائم الإبادة الجماعية والإرهاب والتعذيب، في ذات السياق، فإن عدم تشاور إسبانيا مع الاتحاد الأوربي بهذا الخصوص والتشاور معه بشأن الهجرة، أبان على ازدواجية في المواقف والقرارات الاسبانية، كما كشف عن سوء نيتها خلافا لما هو معمول به في القوانين والأعراف الدولية.

    ويرى كثير من الباحثين والمهتمين بالعلاقات المغربية الإسبانية أن صانعوا القرار في إسبانيا أصبحوا لا يدركون التحولات العميقة التي عرفتها مكانة المغرب في محيطه الإقليمي والدولي، إذ يتعلق الأمر بقوة إقليمية صاعدة تطمح إلى علاقات متوازنة تطبعها الندية والواقعية والشراكة الثنائية بعيدا عن الرؤية الاستعلائية. إضافة إلى ذلك، أضحت الدبلوماسية المغربية اليوم لا تقبل ازدواجية المواقف والخطاب المسيء لها ضمنيا أو صراحة، خاصة وأن العلاقات بين الدول لا تتحمل مسؤولية بعض السلوكيات التي تمس أمنها.

    خاتمة

    ترتكز الدبلوماسية المغربية على مبادئ وممارسات تجد مرجعتيها في القانون الدولي وفق معايير المعاملة بالمثل والتسامح والتعاون وحسن النية، إلا أن سلوك هذه الدبلوماسية يتكيف مع المتغيرات الخارجية ويشكل نسق يأخذ بعين الاعتبار المصالح الوطنية كمخرجات لا محيد عنها، وبناء عليه، فإن حسن الجوار والشراكة يقتضيان – وفقا لما يؤكده المهتمين بشأن العلاقات المغربية الإسبانية – ضرورة سلوك إسبانيا مسلك يرقى إلى مستوى تعامل المغرب معها في شتى المجالات.

    باحث في الدراسات السياسية والقانون العام.
Share
  • Link copied
المقال التالي