شارك المقال
  • تم النسخ

باحث أكاديمي يفحص بلاغة الخطاب السياسي السجالي عند حزب “البيجيدي” وزعيمه بنكيران

نوقشت يوم الخميس الماضي أطروحة جامعية، في البلاغة السياسية، تقدم بها محمد الأمين مشبال، لنيل درجة الدكتوراه برحاب كلية الآداب بجامعة عبد المالك السعدي بتطوان.

وتناول مشبال في أطروحته موضوع “بلاغة الخطابة السياسية السجالية-نموذج حزب العدالة والتنمية”، باعتبار الحزب فاعلا سياسيا بارزا انبثق من الحركة الاسلامية المغربية، ولكون زعيمه عبد الاله بنكيران، قاد الحزب عبر خطابته وسجاله السياسي، لإنجاز سياسي لافت مكنه من تولي قيادة الحكومة ولايتين متتاليتين.

وانطلق الطالب في هذا البحث من إشكالية مركزية مفادها أن الخطابة السياسية لحزب العدالة والتنمية خطابة شعبوية بامتياز تصدق عليها المواصفات التي حددها مجموعة من الباحثين المتخصصين في مفهوم الشعبوية كما هو الشأن لإرنست لاكلو، وألكسندر دورنا، وباتريك شارودو، وجان فيرنر ميلر، وما يمنح تلك الخطابة السياسية خصوصيتها، مقارنة مع الخطابة الشعبوية في أوروبا وأمريكا اللاتينية، كونها تتغذى وتتلون بالمرجعية الدينية وتحديدا بالخطاب الوعظي، باعتبار أن الخطيب والجمهور المتلقي معا، ينتسبان لثقافة عربية إسلامية تحضر فيها الثقافة والقيم الدينية بشكل لافت.وبارتباط مع تلك الاشكالية المركزية، حاول مشبال في الأطروحة الإجابة عن مجموعة من الإشكاليات المتفرعة عنها من قبيل حدود وعلاقة أسلوبه السجالي بالخطاب الشعبوي وإكراهات الوسائط الحديثة، التي بقدر ما توفر الانتشار الواسع وتطرق أبواب جمهور عريض لم تكن الوسائط التقليدية المكتوبة والمسموعة تبلغه من قبل، فإنها تفرض نوعا من الابتذال والتبسيط وتحوله إلى شكل من أشكال الفرجة.

كما اعتمد الباحث فرضية مفادها أن الخطاب السياسي للحزب، لم يعرف مراجعة عميقة لأسسه الفكرية، ربما، لأن من شأن ذلك تعريض المشروع السياسي للجماعة لخطر الانقسام والتشتت، لذا اقتص رأصحابه على جراحة تجميلية للخطاب شملت بعض نتوءاته المخيفة من قبيل مفهوم الحاكمية وتطبيق الحدود، الأمر الذي جعل محور استراتيجيته السياسية تتمحور منذ لحظة التأسيس على إنجاح التدبير السياسوي (الانتخابات، المشاركة في الحكومة)، والتجذر في المجتمع والتغلغل تدريجيا في أجهزة الدولة، بارتباط وثيق مع ذلك، اعتمد فرضية كون خطابة الحزب بصفة عامة وبنكيران بصفة خاصة، عفوية ومدروسة في آن واحد، وبأن اعتمادها على دارجة عالمة منحها فرادتها في التواصل السياسي المغربي، إضافة إلى اعتمادها تقنية المحكي الدرامي شكل مصدرا مهما لإشعاعها.

أما من ناحية المنهج، فإن هذا البحث اندرج ضمن السياق النظري الخاص بتحليل الخطاب وبلاغة الحجاج، خصوصا تلك التي أسهم فيها باتريك شارودو من خلال أبحاثه في هذا المجال، خصوصا كتابه “الخطاب السياسي، مرايا السلطة” “Discours politique ; miroirs du pouvoir “، وكتاب محمد مشبال “في بلاغة الحجاج” الذي شكل مرجعا مهما في دراسة وفهم مختلف العناصر المكونة والمؤثرة في الخطابات المختلفة، بما فيها المتن موضوع البحث.

وبموازاة ذلك اعتمد الباحث مقاربات أخرى موازية تروم الانفتاح على ما يحكم الخطاب السياسي من خارجه: الحقل السياسي وتاريخيته ورهاناته، أي الخطابات العينية اللصيقة بالخطاب وخطابات عامة لصيقة به، والتي بدونها يصعب تلمسه.وهو المنهج الذي أسماه المفكر الفرنسي إدغار موران بــ “الفكر المركب “.

واقتضت خطة البحث تقسيمه إلى بابين: الباب الأول يشتمل على فصلين، يعالج الفصل الأول المفاهيم النظرية ذات الصلة المباشرة بصميم البحث من قبيل مفهوم الخطاب السياسي ومكوناته وخصائصه، والسجال والشعبوية، وفصل ثان يستعرض تجربة حزب العدالة والتنمية من حيث المسير الفكري الذي أفضى به للقبول بمؤسسات الدولة وبإمارة المؤمنين، ويتناول أيضا تجربته السياسية منذ تأسيس الحزب والتي توجت بتوليه رئاسة الحكومة لولايتين متتاليتين. أما الباب الثاني فقد توجه إلى تحليل الاستراتيجيات الخطابية المتضمنة في المتن الذي يتكون من عديد من الخطب التي ألقاها بنكيران في مناسبات مختلفة وعلى مدى زمني يناهز سبع سنوات. وقد قام بتقسيم الباب الثاني إلى فصلين: الأول يستعرض أخلاق الخطيب والتجليات المختلفة لذاته عبر خطبه، أما الفصل الثاني فهو مخصص لتجليات أخلاق وصورة الخصم عبر تحليل خطب بنكيران نفسها.

كما عمد الباحث في الختام إلى صياغة استنتاجات وخلاصات عامة تروم الإجابة عن الإشكالات المتعددة التي أثيرت في مدخل الأطروحة مع إثارة بعض التساؤلات/الفرضيات التي لم يتمكن من الإجابة عنها، والتي يمكن أن تشكل منطلقا لأطاريح وأبحاث أخرى.

في الفصل الأول من الباب الأول، استعرض مجموعة من المفاهيم النظرية التي قادتنه في معالجة عديد من القضايا والإشكاليات التي هي من صميم هذه الأطروحة.

في البداية تناول الخطاب السياسي باعتباره إنتاجا لغويا يرتبط بسياق معين، غايته الرئيسة التأثير في المتلقي لتحقيق الإذعان لأطروحة معينة، أو تعديل سلوك معين. كما أنه لا يمكن إدراك مقاصده ومراميه بمعزل عن السياسة التي هي نشاط يروم تنظيم الحياة البشرية من حيث العلاقة ما بين الأفراد،وما بين هؤلاء والمؤسسات التي ينشئونها. فالخطاب السياسي يعتمد لإيصال رسائله وإحداث التأثير المنشود على تقنيات التواصل السياسي الحديثة من جهة، وعلى مجموعة من الاستراتيجيات الخطابية من جهة أخرى. وبجانب تقنيات التواصل السياسي، يدعم الخطاب السياسي سبل نجاعة تأثيره باستراتيجيات خطابية تتضمن مجموعة من الصور الأسلوبية. إضافة إلى تلك العناصر، يتضمن الخطاب السياسي الحجاج باعتباره مكونا تفاعليا مرتبطا بسياق، ويتوجه إلى متلق ما لأجل تعديل رأيه أو سلوكه.

في السياق نفسه ولغاية التأثير أيضا، يوظف الخطاب السياسي مجموعة من حجج آدهومينيم Ad Hominem بحيث يتقاطع في ذلك مع السجال الذي تحضر فيه بقوة هذا الضرب من الحجاج، التي تروم عموما مهاجمة الشخص وتسفيه مواقفه، علما أن السجال، وكما تعتبره روث أموسي، يشكل جزءا لا يتجزأ من الممارسة الديمقراطية. ومن تجليات هذا الخطاب السياسي يحضر الخطاب الشعبوي باعتباره أسلوبا سياسيا في مواجهة وضع سياسي/اجتماعي محدد، يتميز بصفة خاصة بحضور زعيم ذي كاريزما يتبنى خطابا لاذعا ضد النخب، ويتحدث عن وجود مؤامرة من قوى شر مبهمة ضد الشعب وقيمه.

أما في الفصل الثاني من الباب الأول، فقد سعى الباحث من خلاله لإبراز كيف اجتاز حزب العدالة والتنمية عدة أشواط حاسمة قبل أن يصبح جزءا ومكونا رئيسا من المعادلة السياسية بالمغرب. فقد تطلب منه الأمر مراجعة عديد من المفاهيم المتطرفة التي اكتسبها مؤسسوه ومجموعة من أطره إبان فترة الاشتغال داخل حركة الشبيبة الإسلامية، والتي كانت على العموم تستنسخ الأطاريح المتشددة لحركات الإسلام السياسي في المشرق العربي، التي كانت تكفر الأنظمة القائمة وترفض العمل ضمن مؤسسات الدولة.وتطلب ذلك مجهودا تنظيريا من عناصره القيادية، وذلك من أجل تأسيس ما يمكن تسميته بفقه المشاركة السياسية. وتمحورت تلك الاجتهادات حول إشكالات عملية لها علاقة مباشرة بالموقف من النظام الملكي ومن الديمقراطية وما ينبثق عنها من مؤسسات سياسية،وكذا القطيعة مع التنظيم السري والقبول بالعمل الشرعي.

في الباب الثاني، الذي يضم الجانب التطبيقي من الأطروحة، عمل الباحث على استقصاء الصفات التي شكل بها زعيم الحزب صورته الذاتية باعتبارها آلية للإقناع وإسباغ المصداقية على أقواله بحيث تكون الممارسة منسجمة ومتماهية معها،عبر استعراض عديد من الصفات الخطابية التي حرص بنكيران على إبرازها، وكذا تحليل كيف تمكن من استثمار مختلف العناصر التي من شأنها لفت انتباه الجمهور وكسب تعاطفه.ولم تكن تلك الصورة لتكتمل ملامحها في وجدان الجمهور وتحقق تأثيرها المنشود إلا بهدم صورة الآخر، مما يعني أن هذه الاستراتيجية الخطابية القائمة على إثارة الانفعالات السلبية هي استراتيجية لا تنفصل عن صورته الذاتية في الأذهان.

وتعد الخطابة السياسية عند بنكيران نموذجا لاستثمار هذه الاستراتيجية الإقناعية، فقد كان حريصا في كل خطبة، وفي كل تدخلاته على توظيف آليات الخطاب لإبراز ذاته وذات الجماعة التي ينتمي إليها في صورة مؤثرة تكسبه وجماعته الحظوة اللائقة.كما قام الباحث مشبال في الفصل الأول بإبراز كيف حرص الخطيب من جهة، على تقديم تمثله وتجسيده لمختلف القيم الدينية النبيلة التي يهفو إليها قلب الجمهور من قبيل الزهد، والإيمان بالله، والدفاع عن دينه، ومن جهة أخرى، تجسيد قانون القرب على مستوى لغة الخطاب السياسي من حيث توظيف لغة دارجة غنية بالأمثال والصور الحسية. إضافة إلى كل ذلك تمكنه من تطويع اللهجة الدارجة والجعل منها أداة سجال وحرب في مواجهة الخصوم السياسيين بغية قتلهم رمزيا، والسخرية من الممارسات المشينة التي ينسبها إليهم.

كما سعى محمد مشبال إلى تحليل كيفية انفرد الخطيب في خطابته السياسية بتوظيف أسلوب السرد الدراميstorytelling، الذي يعتبر أسلوبا شائعا في الخطابة الغربية عموما والأمريكية خصوصا، مما حقق فرجة سياسية حظيت باهتمام ومتابعة جمهور واسع ومتنوع.

في الفصل الثاني من الباب الثاني، بين الباحث أن تشكيل الخطيب لصورته (وصورة جماعته)، كان في سياق سجالي مع خطاب الآخر المناوئ المعلن أو المضمر؛ إذ كان مطالبا بتقديم صورة أخلاقية عن الجماعة كفيلة بخلق تصديق الجمهور وتعزيز اعتقاده في مشروعها السياسي؛ وهي صورة تمتثل للمبادئ الأخلاقية والدينية والاجتماعية والوطنية المشتركة. فقد حرص الخطيب على إظهار البعد الوطني في شخصيته وشخصية جماعته.

وبما أن صورة الخطيب لا تكتمل إلا عبر صراعها ودحضها لأطروحات الخصم، أو تشنيع أفعاله، فقد عمد بنكيران إلى السجال والعنف اللفظي وتقديم خصومه السياسيين في صورة أشخاص متآمرين، لاأخلاقيين يمارسون الكذب ويشترون الذمم. لذا لا يتردد في أن يخلع عليهم صفات الحيوانات(حنش،تماسيح)، والسخرية منهم، باعتبارها أسلوبا محببا لدى الجمهور ويخلق تواطئا معه.هذه الخصائص التي رصدها البحث في الخطابة السياسية لحزب العدالة والتنمية بصفة عامة، ولزعيمه عبد الإله بنكيران بصفة خاصة ،إن كان يسوغها التواصل البلاغي السياسي المبني على التصادم والصراع، إلا أنها لم تسلم من ثغرات جعلت خطابة بنكيران معرضة للنقد بسبب ما تخللها من مغالطات وفساد في استعمال الوسائل الحجاجية المتاحة له في بناء الإيتوس أو في العنف اللفظي أو في حجة السلطة.

في القسم الأخير من هذه الأطروحة الأطروحة، سعى الباحث إلى الإجابة عن الإشكالات التي شكلت منطلق هذا البحث، الذي تتمحور الإشكالية المركزية فيه حول مدى تطابق الخطاب السياسي السجالي لحزب العدالة والتنمية مع خصائص الخطاب الشعبوي كما حددته دراسات عديد من الباحثين، أمثال باتريك شارودو وألكسندر دورنا وجان فيرنير مولر،في بعض المعايير من قبيل فساد النخب ومعاداة التعدد من خلال تصور موحد للشعب،ووجود مؤامرة أو مؤامرات تستهدف الحزب أو الأمة من طرف قوى شر خفية،ووجود زعيم ذو كاريزما، يتفاعل إيجابا أو سلبا مع الوسائط.

وانطلاقا من ذلك اتضح، حسب خلاصات الباحث، أن الخطيب بنكيران وضع مثلثا خطابيا، إذا جاز التعبير، قاده في مواجهة الخصوم وحشد الأتباع والمتعاطفين في آن. فمن جهة هناك فساد النخب، وهناك مؤامرات الخصوم، بالمقابل يوجد البديل المتمثل في الزعيم المتماهي مع جماعته السياسية.كما تجلت شعبوية خطابه السياسي على مستوى لغته السياسية التي اتسمت بمزاولة العنف اللفظي ضد خصومه بغية تسفيههم والتقليل من قدرهم لدى الرأي العام، انطلاقا من منطق يتأسس على ثنائية مانوية تترجح بين تعظيم الأنا (التي تضم أنا الزعيم والجماعة) من جهة، وشيطنة خطاب وممارسة الآخر (الدولة، النقابات، الأحزاب)، وتعمد لنقل النزاع والصراع من الحقل السياسي، بما هو تعبير عن تضارب الرؤى الفكرية والمصالح الاقتصادية، إلى المجال الأخلاقي باعتباره في نهاية المطاف صراعا بين “الشعب العفيف والطاهر” الذي يمثله زعيم الجماعة، وبين “النخبة الفاسدة والمخادعة”.لكن مامنح شعبوية الحزب، ومن خلاله تيار الإسلام السياسي المغربي، سمتها الخاصة كونها جاءت تعبيرا عن أزمة الانتقال نحو الحداثة في المجتمع المغربي الذي تتعايش فيه في نفس الآن بنيات اجتماعية واقتصادية وثقافية متباينة ومتداخلة، والتي اصطلح عليها السوسيولوجي الراحل بول باسكون بـ”المجتمع المركب”.

تلك التحولات السياسية كانت مرفوقة بتطورات تكنولوجية في عالم الاتصال والتواصل. فإلى حدود الثمانينيات كان التواصل السياسي مع المناضلين والجماهير عموما يعتمد على المطبوع (جرائد، مجلات، منشورات…)، وكانت السجالات السياسية تعتمد على المقالات والافتتاحيات المنشورة بالجرائد، بما يستدعي ذلك من مجهود سواء على مستوى الحجاج أو البيان، وهو الأمر الذي يفسر إلى حد بعيد، إلى جانب التقاطبات الإيديولوجية آنذاك بين يمين ويسار، الرقي الذي كان يعرفه الخطاب السياسي المغربي.بيد أنه ومنذ تسعينيات القرن الماضي وخصوصا مع مطلع القرن الحالي، أخذ التواصل عبر الوسائط المطبوعة يتوراى باستمرار ليفسح المجال أمام العالم الرقمي وتقنيات جديدة تعتمد الصوت والصورة وسرعة الانتشار والتي ساهمت إلى حد بعيد فى تسطيح الخطاب وتدعيم بنيان مجتمع الفرجة كما قام بالتنظير لذلك غي دوبور وبودريلار.

كما اتضح في الختام، بالنسبة للباحث، أن جل اجتهادات الجماعة، تركزت واقتصرت تقريبا على مجال التنافس السياسي الانتخابي(الموقف من الملكية والعمل داخل المؤسسات الدستورية)،ولم تشمل الجوانب الفلسفية للديمقراطية وفي مقدمتها قضايا الحرية الفردية،مما يرسخ الانطباع بكون هاجس الحسابات المتمثلة في الحصول على شرعية الحزب ولموطئ قدم في الساحة السياسية المغربية كانت الحافز الرئيس لمجمل تلك المراجعات.وقد عمد مشبال في نهاية الاطروحة إلى وضع ملحق للخطب التي تم تنزيلها من اليوتوب مع الحفاظ على أصالتها وعنفوانها المتمثلين في اللهجة الدارجة، حتى يتأتى للباحثين مستقبلا الاعتماد أو الاستئناس بها. كما وضع قائمة بأسماء الأعلام التي وردت في خطب بنكيران موضوع البحث والتي قد تساعد في فهم أفضل لمرجعيته الفكرية والثقافية.

شارك المقال
  • تم النسخ
المقال التالي