بعد السابع من أكتوبر لسنة 2023، طفا على السطح صوت شاذ وشارد من خلال توقيع مقال بعنوان “كلنا إسرائيليون”، ونشره في المواقع الصهيونية. وبعد أكثر من عام على المجازر الهمجية التي باشرتها القوات الصهيونية على العزل والمدنيين من اللبنانيين والفلسطينيين، وما ترتب عن ذلك من قتل جماعي وتشريد وتجويع وقصف المشافي والمدارس ومقرات اللاجئين التابعة للأمم المتحدة، أصدرت المحكمة الجنائية الدولية قرارا يقضي بتوقيف الإرهابَيْين رئيس حكومة العدو الصهيوني ووزير حربه السابق، وهو القرار الذي لم يعرف استنكارا أو تنديدا في الغرب، بل صدرت بعده تصريحات تدل على احترام القضاء الدولي وضرورة تطبيق قراراته من قبل تلك الدول كهولندا وإيطاليا وإسبانيا والدنمارك والسويد وغيرها، بل حتى بريطانيا الوالدة والمربية والمرضعة للكيان الصهيوني لم يتردد قادتها بإذعانهم لقرار المحكمة والقول بضرورة تطبيقه.
في هذا السياق، ما كان ليدور بخلد إنسان سوي أنَّ مغربيا سينتفض ضد قرار هذه المحكمة، وسيندد به، وسيجتهد في الدفاع عن المتهمين الملطخة أيديهم بالدماء، لكننا فوجئنا وفُجعنا بصدور مقال موقع من قبل أحمد الشرعي، يعاكس روح قرار المحكمة ومنطوقه، ويدافع عن الإرهابيين المتهمين.
بالعودة إلى مقال أحمد الشرعي، والوقوف المعجمي معه، نجده يتحدث عن حركة المقاومة الإسلامية حماس وحزب الله، ويستعمل معهم معجما سلبيا (الهجوم الإرهابي ــ القتل ــ الاختطاف ــ الخطوة المروعة ــ الهجمات الوحشية ــ الجماعات الإرهابية).
وفي المقابل، فإنه يستعمل معجما طافحا بالإيجابية في حق دولة الإرهاب الصهيوني وقادتها المجرمين (رئيس الوزراء المنتخب ــ زعيم حكومة ديمقراطية ــ الدفاع عن النفس ــ استقلال القضاء ــ التقاليد الديمقراطية القوية).
أما المحكمة، فأغدق عليها الكاتب من معجمه ما يدل على تبخيس عملها والتنقيص من جهودها (التعدي على الديمقراطيات ذات السيادة التي تتمتع بأنظمة قضائية قوية ــ تجاوز المحاكم المستقلة ــ تقويض الديمقراطيات العاملة ــ مؤسسة مسيسة تخاطر بمصداقيتها ــ الاتهامات المتهورة).
قراءة سريعة لهذا المعجم تبين الهوى الصهيوني للكاتب، خصوصا حين يوازن بين (القتل والاختطاف) الذي تمارسه حماس، و(الأضرار الجانبية) التي صدرت من إسرائيل، وهذا وحده كاف لبيان وحشية الطرف الأول وإنسانية الطرف الثاني.
أولا، لا بد من تقدير ظروف أحمد الشرعي، ولا يمكن أن نتصور منه كتابة غير هذا، وهو الموجوع المفجوع من التراجع المهول لدولة إسرائيل أمام المقاومة الباسلة، لدرجة أن محللين إسرائيليين وأمريكيين لم يترددوا في الحديث عن نهاية إسرائيل، والأخبار اليومية الوافدة من هناك لا تصب إلا في هذه الخانة، ففي كل يوم نسمع عن تدمير دبابة الميركافا، وعن الصليات الصاروخية الدقيقة، وعن المسيرات الانقضاضية، بل صرنا نسمع أخبارا كأنها من برامج الرسوم المتحركة، مثل وجود مسَيَّرة في سماء إسرائيل والبحث عنها لمدة تفوق الساعة دون ضبطها أو إسقاطها، دون أن ننسى عدد القتلى والمصابين الذي يفزع الصهاينة ومواليهم … هذه الأخبار تزعج كل صهيوني في العالم، ولا غرابة في أن تقض مضجع أحمد الشرعي.
ثانيا، إن المديح الذي ما فتئ بعض المسلوبين أن يكيلوه إلى الكيان الصهيوني يجعلهم بالضرورة في خانة المدافعين عن العنصرية، لأن القرار 3379 الصادر عن الأمم المتحدة ينص صراحة على أن الصهيونية شكل من أشكال العنصرية والتمييز العنصري، لذا، فإن مؤيدي إسرائيل هم بالضرورة شخصيات وكيانات مارقة خارجة عن قرارات الأمم المتحدة.
ثالثا، إن الكتاب والمفكرين والأدباء والعلماء الكبار في العالم؛ وليس المستخدمين في إطار المناولة؛ لا يترددون في انتقاد إسرائيل وهمجيتها ووصفها بالإرهاب، وما حركة المقاطعة الدولية لهذا الكيان اللقيط منا ببعيدة، وقد رأينا طيلة السنة الماضية حملة طلابية وأستاذية لا سابقة لها، وكلها تصب في الضغط على المؤسسات الجامعية لقطع صلاتها وعلاقاتها مع إسرائيل، بل إن إسبانيا ــ وهي دولة ديمقراطية ــ منعت السفن المحملة بالأسلحة المتجهة إلى إسرائيل من الرسو في موانئها، ومع كل هذا، فإن بعض المغاربة ومنهم أحمد الشرعي، يسمحون لتلك السفن بالرسو على أرصفة قلوبهم وتشحيمها بدماء عروقهم.
رابعا، قد يحب أحمد الشرعي ونظراؤه الكيانَ العنصري الإرهابي، ويمدحون عدالته وقضاءه، لكن، ما موقفهم ـ وهم الإنسانيون ــ من الشعارات العنصرية التي تصدر عن قادة الكيان وسياسييه من الموالاة والمعارضة؟ ما موقف أحمد الشرعي ومستخدميه من أيليت شاكيد (وهي وزيرة سابقة في كل من العدل والداخلية في حكومة إسرائيل)، حين صرحت بأن المغاربة والجزائريين والتونسيين جهلة وحمقى يستحقون الموت؟ وما موقف الصهاينة المغاربة من هذه الوزيرة السابقة التي لا تتردد في وصف الأطفال الفلسطينيين بالثعابين الصغار؟
هذه الوزيرة ما هي إلا نموذج مصغر للساسة الإسرائيليين الذين ينظرون إلى العرب بنظرة الاحتقار والازدراء، وهم الذين يسوقهم الشرعي وأمثاله بأنهم قادة الدولة ذات التقاليد الديمقراطية القوية.
خامسا، منذ سنوات، أقدم شباب مغاربة على كتابة تدوينات تشيد بمقتل ديبلوماسي روسي بتركيا، وبسببها توبعوا قضائيا وزج
بهم في السجن، واليوم، هناك من يقصف المشافي والمدارس ومقار الأونروا التابعة للأمم المتحدة أمام مرأى ومسمع العالم، ويأتي أحمد الشرعي ليمدحهم ويؤيدهم ويعتبر جرائمهم النازية مجرد أضرار جانبية.
إننا أمام هذه الحالة لسنا أمام حرية التعبير أو الرأي والرأي الآخر، بل إننا أمام مدح الإبادة الجماعية، أمام مدح التجويع الجماعي.
وأمام سكوت النيابة العامة في المغرب عن هذه التصرفات، لم يجد المغاربة بدا من التنديد بهذا المقال وسابقه على مستوى مواقع التواصل الاجتماعي، إضافة إلى الموقف الصريح والواضح الصادر عن حزب العدالة والتنمية حول هذه النازلة، وهو موقف مشكور عليه، وهو الموقف/البيان الذي آلم أحمد الشرعي ومستخدميه، فأصيبوا بنوع من السعار في الرد، وقديما قيل: الصراخ على قدر الألم، لذلك لم يتورعوا النهل من قاموس الكراهية في ثلب الحزب وقيادته، حيث لم يترددوا في اعتباره فتوى (تهييجا للمؤسسة العلمائية الرسمية والوقيعة بين الحزب وإمارة المؤمنين) وأنه متناغم مع مرجعية الإخوان المسلمين إضافة إلى الحديث المتكرر عن الإرهاب، وهي سيمفونية لم تعد مجدية في مخاطبة الدولة المغربية، لأننا ببساطة لسنا في 2003، إلا إن عمد أحمد الشرعي ومناصروه إلى إرجاع عقارب الزمن إلى الوراء.
تعليقات الزوار ( 0 )