Share
  • Link copied

الوعي الفكري.. أزمة السلطوية المحتكرة أم إشكالية المجتمع المدني المتماهي؟

السلطوية هي نمط للحكم يتموقع بين الشمولية و الديمقراطية و يقبع راخياً ظِلالَه على الكلّ. وهي مشتقة لغوياً من مصطلح “السلطة”، لذا فهي تنتهج خيار احتكار “مطلق لهذا المفهوم” لكن بواجهة ديمقراطية و صورة شكلية للتداول تلغي في كنهها حرية الأفراد و أدوار المجتمع المدني. فالسلطوية – في تصريف منهجها- تلغي الوضوح و الشفافية و تستعيض عنهما بالإلتباس و الضبابية التي ترخي بأستار الحجب و التعتيم عن الواقع و بنياته المُعِيبة.

يقول الحق سبحانه وتعالى في سورة البقرة: “و لولا دَفْعُ الله النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لفسدت الأرض”.

و في سورة الحج: ” وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا”. صدق الله العظيم.

فالأصل في الوجود هو الإختلاف و التدافع و التباين و كلها تفاعلات اجتماعية و سياسية إيجابية و صحية للحياة و لِحركية الإنسان و لِدينامية المجتمع. فالتماثل لا يُوَلِّد إلاَّ جموداً و انتكاسةً و موتاً.

فالديمقراطية كنمط للحكم، و الحكامة في التدبير كهدف في العمل الإداري تَنبَنيَان على مفاهيم التدافع و الحركية و التداول، أما أنظمة الحكم الشمولية و السلطوية فهي ذات طبيعة رجعية كونها جامدة و منغلقة وقابلة للإندثار من داخل المنظومة ذاتها.

إن أزمة السلطوية تكمن أساساً في فراغ فكرها و تقديسها لصورتها و تأليهها للسلطة كوسيلة للقهر حيث تتكلس و تتجوهر حول ذاتها و رؤيتها. ففي استعلائها لا تصغي سوى لِصَدَى صَوتِها يتردد و لا تبصر سوى من منظورها الخاص لِتُرمِق صورتها وحيدة في المرآة حيث لا حَيِّز وجودي للآخر. في مأزقها الوجودي هذا لا مناص من وضع قناع الإيديولوجيا و ممارسة التنميط والتدجين.

هكذا وجب أن نفهم لماذا تحيز القرآن للإختلاف و الحوار وَ نَبَذَ بقوة رموز الفساد والإستبداد و التماثل من أمثال فرعون و قارون و بلعم ابن باعوراء.

حين أخرج “ميشال فوكو” مقولته: ” حيثما توجد سلطة، توجد هناك مقاومة”، فالمفكر عَنَى بالمقاومة -على الأرجح-  حركية المجتمع المدني و دوره في خلق حالة الردع و التوازن أمام ممارسات السلطة بالنظر لإحتكارها لآليات القهر و القوة.

فإشكاليات العدالة و الحرية و الكرامة و تغييبها قسراً عن الواقع تكمن أصلاً في إقصاء الفرد الفاعل و المجتمع المدني القوي الواعي ببنيات الواقع و المستوعب لتعقيداته و دوره المحوري في مسلسل الإصلاح والتغيير.

يقول “عزمي بشارة” في كتاب (المجتمع المدني: دراسة نقدية): “إن المجتمع المدني من دون سياسة و خارج سياق المعركة الديمقراطية هو إجهاض لِمَعَانِي المجتمع المدني التاريخية و طاقته النقدية، فضلاً عن نزع قدرته التفسيرية على فهم البُنَى الإجتماعية و السياسية”.

فالمجتمع المدني هو مجتمع المكونات المؤطرة (أحزاب، جمعيات، نقابات، وسائط، منظمات، …) لا يتبلور بمعزل عن المواطنين و لا حتى عن السلطة بل ينبني أساساً من خلال عملية تفاعل قوي و تباين حادّ معها. و حين لا يتأتَّى ذلك، آنذاك نكون إزاء مكونات لمجتمع مدني مستلب و ضعيف بأدوار شكلية و تبريرية و إزاء دولة تحتكر السلطة بمنهج للحكم السلطوي تمرر عبره مفهومها الوحيد للمجتمع المدني و للديمقراطية بل و تكرس نفسها مصدراً وحيداً للتنزيل طالما تؤمن بفوقية و عقيدة أن من يقبع أسفلها غير مؤهلون لم يبلغوا مرحلة الرُّشد بعد و أن رِهَانَها الأسمى و واجبها التاريخي توجيه و إرشاد و حماية الجميع فما بالك إن كانت الوضعية تتّسم بالإستثنائية كالحالة الوبائية.

من ناحية أخرى، طرحنا هذا لا يبرئ المجتمع في ضعفه و سلبيته حين يُقَاد عن بُعد و لا يتحرك بإستقلالية في تدبير شؤونه و اتخاد قراراته (الجامعة نموذجاً) أو حين تأتي الممارسات متماهية مع إرادة السلطة و متناغمة معها عبر مواقف سلبية و تبريرية حتى صارت (غالبية مكونات المجتمع المدني وأيضاً الأكاديمي) سلطوية -أكثر من السلطة- نظراً لتغييبها للديمقراطية الداخلية في فرز هياكلها و تدبير شؤونها فكان أن تفردت المومياءات برئاستها بلا سقف زمني. تأبى الرحيل و ترحل فقط حين يتوفَّاها عزرائيل أو حين تُؤمَر هاتفياً بالرحيل فهي قطعاً لا و لن ترحل يوماً بقرار القواعد. فالسلطوية اليوم هي التي تُملِي على الجميع ثقافة و شكل و مضمون و توقيت مفعول الديمقراطية.

 هكذا وجب أن نَعِي اليوم سياقات الجوائح (الفساد، التسلط، التحكم، الإفلات من العقاب، فيروس الريع، جائحة كورونا….) و كيف تتعاطى السلطة مع الحركات الإجتماعية و المقاطعة و هكذا علينا فهم محاولتها تمرير القوانين الفضيحة في ظرفية غير ملائمة تماماً و في غفلة من الكل. فكيف و متى تنهزم الجوائح الحقيقية؟

تنهزم حين ننتصر على الترهيب و التضليل و التضخيم و التجهيل و على تَغَوُّل “الأنا” و الجشع و الوصولية والإسترزاق بآلام الناس و حين ننتصر على خوفنا الفطامي من سيف رق -السلطوية و التسلط- المُصَوَّب على رِقَاب الوعي و على الفكر الحرّ و الفعل المستقل. ستنهزم الجوائح حين نتجَاوَز الأسقام النفسية الدفينة فينا فرداً فرداً و من المركبات والعُقَد الكامنة بهدوء و ارتياح في أعماق المخيلة و اللاوعي الجمعي.
انتهى.

عبد الكبير بلاوشو
Share
  • Link copied
المقال التالي