شارك المقال
  • تم النسخ

الوجه الآخر لـ”قصة ريان”.. تضامن وتآزر وطفل أصبح معلّماً للعالم دون مدرسة

إغران، القرية التي عاش فيها ريان الصغير، استيقظت يوم الأحد شبه خالية، أخذ ثلاثة أولاد ستة ماعزٍ وذهبوا للمرعى في الساعة التاسعة صباحاً. كان آخر الصحفيين يجمعون متعلقاتهم. كان الجبل مليئا بعبوات صغيرة فارغة من زجاجات المياه، وهي إحدى الآثار القليلة التي تركها مئات الشباب الذين رافقوا عملية الإنقاذ لعدة ليالٍ.

إلى مكان الفقراء، كان الفقراء يأتون من جميع أنحاء المغرب، وحتى الأغنياء، يحتشدون من كلّ حدب وصوب، طوال ساعات عملية إنقاذ ريان. وجد الكثير منهم مأوى للنوم، ولكن الآن (الأحد)، بدا منزل الصبي الذي انتشل ميتاً بعد أن قضى خمسة أيام داخل بئر، فارغا، اختفت الأسرة المرهقة بعد ليالٍ عديدة من الأرق.

بقي في المنطقة بعض أفراد القوات المساعدة، ورجال يتجاذبون أطراف الحديث، وأظهر لهم البعض الفجوة الهائلة التي انفتحت في أربعة أيام، وحتى أنه أُمسك بمراسل صحفي حتى لا يخطو مباشرة فوق الحفرة التي سقط من خلالها ريان. كانت البئر التي طمرت بعدها، متصلة بالمنزل، قبل أن يصير قربه جرف ضخم بطولٍ يزيد عن الـ 30 متراً، إذ إنه من المخيف حتى النظر إليه.

كل تلك المناطق التي يمكن رؤيتها من منزل ريان، جبال الريف، حيث يعيش أغلب الناس على زراعة الحشيش، مليئة بالوديان شديدة الانحدار، والطرق الترابية الضيقة للغاية، والأماكن الصعبة، التي تعقّد الحياة، مثل إغران. المغرب مليء بقرى كهذه، حيث يعيش الناس حياتهم اليومية، مع فرنهم التقليدي “ثينورث” على باب المنزل.

ربما لأن الجميع يعرف أن عائلة إغران، واحدة من بين كثير من الأسر التي تقاتل من أجل لقمة العيش، اعتبر المغاربة ريان ملكا لهم، كما لو أن الطفل قد لمس عواطفهم وسكن قلوبهم حتى اللحظة الأخيرة. حتى عندما أزال رجال الإنقاذ جسده الميت، مساء السبت الماضي، اعتقد مئات الشباب الذين كانوا هناك أنه أخرج حيا، وبدأوا بالاحتفال والهتاف، لكن فور وصول خبر موته سادت الأحزان.

في منزل ريان، عند الساعة الـ 11 من مساء السبت، بدأت إحدى أفراد الأسرة بالصراخ والبكاء وأمسكها رجلان وسحبوها إلى الغرفة، بعدما علمت بنبأ وفاة الطفل. قبل أن يعمّ صمت كبير المكان. كان الجميع في ذلك الوقت يحاولون المساعدة، وخصوصا جيران الأسرة في دوار إغران، سواء كان لغرض نقل الشخص إلى أقرب مدينة، على بعد 15 كيلومترا، أو لتوفير شاحن هاتف، أو لمجرد الابتسامة في وجه غريب.

بدا جزء كبير من البلاد غارقا في ذلك الشعور بالأخوة خلال أيام الإنقاذ. كتب لاعبون مغاربة دوليون مثل لاعب ريال مدريد السابق أشرف حكيمي رسائل على مواقع التواصل الاجتماعي. من الجزائر أيضا، كتب آخرون تدوينات حول الأمر، وأرسلوا رسائل دعم، مثل يوسف بلايلي، رياض محزر، إسماعيل بن ناصر.

كما وصلت الرسائل من الشاطئ الآخر للبحر الأبيض المتوسط. مساء الأحد، وبينما كان هناك ثلاثة أطفال من القرية يجمعون القمامة من كيس بعيد، في ساحة القديس بطرس بروما، أرسل البابا فرانسيس رسالة شكر للأمة المغربية، قال فيها، إن الدولة “بأكملها كانت هناك لإنقاذ شخص واحد. طفل”، كما وصلت التعازي من جميع السفارات تقريبا، فضلا عن رسالة الرئيس الفرنسي إلى أسرة ريان والمغاربة.

صباح الإثنين، تأهّب الجميع لنقل جثمان ريان إلى مثواه الأخير. كانت السلطات تعدّ مكان صلاة الجنازة، والناس يصلون تباعاً. رجال يتجاذبون أطراف الحديث عن الواقعة المحزنة، منهم من لا تزال الدموع تنهمر من عينيه رغم مرور ثلاثة أيام على إخراج الطفل ميتاً من الجب.

أشخاص قدموا من مناطق مختلفة، تكبدوا عناء المشي لكيلومترات على الأقدام، بعدما منع الدرك الملكي العديد من السيارات من المرور، بسبب الازدحام الشديد على مقربة من منزل والدي ريان. لم يفهموا إلى حدود الآن، كيف جاءوا إلى هنا، وما السبب الذي دفعهم لذلك، وفق تصريح أحدهم لـ”بناصا”.

“لم أستطع البقاء أشاهد البث المباشر من بعيد، فقررت المجيء إلى دوار إغران. حين كنت قادمأً في الطريق سمعت أن ريان قد مات. كان الأمر صادماً ومحزناً، تمنينا لو رأينا ابتسامته، ولكن قدر الله سبق”، يقول أحد المغاربة القادمين من مناطق بعيدة إلى منزل والدي ريان.

بعدما أنهت القوات المساعدة وعدد من المتطوعين مكان صلاة الجنازة، وصلت جثة ريان، وتجمع المصلون في مكان الصلاة الضيق الذي على الرغم من أن مساحته ليست بالصغيرة، إلا أنها لم تكف الأعداد الغفيرة التي أتت، والتي بقيت في سفوح التلال القريبة، وبين الأشجار، تكفكف دموعها، وتمسح أحزانها.

دفن ريان في مقبرة الدوّار الذي نشأ فيه صغيرا، حاملاً حلم أن يصبح معلّماً. فقد كان، حسب ما روته العائلة لجريدة “بناصا”، يرفض رعي الأغنام، ويصرّ على أنه سيكون “سي ريان” معلماً للأجيال ومربيا لهم. الموت أخذ الصغير على حين غرّة، وجعله أيقونة ورمزا للعالم. احتفى به الجميع كما لم يسبق لأي إنسان أن يتخيل.

ريان الذي رحل، حقّق حلمه، بأن يكون معلّماً، فقد علّم العالم بأن حياة الإنسان ذات قيمة لا يضاهيها أي شيء، وأن الحب يجمع الإنسان، كما لم يبخل وهو داخل غيابات الجبّ، بتعليم الجميع المقاومة، فقد حاول الطفل الذي لا يتجاوز الـ 5 سنين، الساقط لتوه من مسافة 32 متراً، أن يبقى حيّا إلى آخر رمق، كافح للنجاة رغم الإصابة والكدمات.. رغم الجوع والعطش وبرد الظلمات. لكن إرادة الله سبقت فغادر وبقي اسمه مخلّدا للأبد.

شارك المقال
  • تم النسخ
المقال التالي