Share
  • Link copied

النصية القرآنية بين الكوني والعالمي

كتبت مرة: لماذا لا نقرأ حين نقرأ؟ وكنت أقصد أننا لا نقرأ ما هو مقدم إلينا، ولكننا نبحث فيما نقرأ عما يتفق مع أهوائنا، وعندما لا نجده، نصادر ما نقرأ بدون بذل جهد بسيط لفهم ما قرأناه. لقد تعلمنا من أنظمتنا التلفيق، ولذلك نبادر إلى توزيع الاتهام بلا تثبت أو تريث. أشكر كل المتفاعلين مع ما كتبته حول الكونية والعالمية بالتعجب، أو بإصدار حكم، أو بالتأييد، أو المطالبة بالتوسع. أستفيد من كل الملاحظات، ولا أحب خوض النقاشات لأنها تستدعي شروطا معرفية غير متوفرة لدينا. كنت أنتظر أن يدور النقاش حول تصوري للنص، وللأنموط، وللنصية، ولتمييزي بين النصيتين الكونية والعالمية، ومدى دقة المعايير التي اعتمدتها في ذلك. أن تكون الملاحظات حول شرعية سؤال: كيف ولماذا ندرس القرآن الكريم؟ وضرورة وضع النص القرآني في سياق النص الذي نقرأ ونتفاعل معه أيا كان هذا النص؟ هذه الأسئلة يمكن أن تكون مدخلا للتطوير والتفاعل الإيجابي، وللتجديد أيضا.

أنطلق أولا من سؤال الكيف واللماذا لأن ما يتعلق بتصوري للنص والنصية مقدم في مختلف كتبي. إن هذين السؤالين حول أي ظاهرة أو نص يتغيران بتغير الزمن لتغير المعارف. لا يمكنني فهم أو تفسير الشعر أو السرد العربيين كما فهما في مختلف الأزمنة السابقة. ويمكن قول الشيء نفسه عن القرآن الكريم، والحديث النبوي. لا بد من الإحاطة والاستفادة مما أنجز تاريخيا. لكن الوقوف عليهما إلغاء للعصر المعرفي الذي أعيش فيه. فقراءة القرآن الكريم عند ابن عباس ليست هي قراءة الزمخشري أو ابن حزم الأندلسي. ويمكن لمن يود التأريخ لتفسير القرآن الكريم أن يجعل هذين السؤالين منطلقا، وسيعاين التغييرات التي طرأت مع تغير المعارف في الزمن.

أما موقعة النص القرآني ضمن نظرية محددة للنص كما اشتغلت بها، وأريد تطويرها لأنه ما كان لي لأفكر فيها لولا إقدامي على البحث في سردية القرآن الكريم، فضرورة أملاها علي اطلاعي على مختلف الكتابات التي تدعي أنه نص مثل غيره، أو يعزى إلى بشر. وهذا هو التصور الذي ينطلق منه الغربيون، والمستشرقون، ومن يسير على منوالهم من بعض الباحثين العرب. ولذلك اعتبرت هذا السؤال مركزيا في تصوري، وجعلته مقدما على طرح سؤال الكيف واللماذا. إنه بدون تدقيق الأنموط والنصية سيظل الاختلاف بيننا في فهم النص، وعدم التمييز بين نص وآخر، وانتماء كل منهما إما إلى جنس أو نوع، بدون تأطيره ضمن بنية نصية كبرى مختلفة تستوعب أنماطا متعددة.

إن هذا التمييز انطلاقا من الأنموط دفعني إلى اعتماد معايير للتفريق بين أنموطين مركزيين هما: الكوني والعالمي. وعندما أعطيت مثال هوميروس وسيرفانتيس، أردت فقط إبراز أن تحليل أي منهما يفرض علينا رؤية كل منهما للعالم في ضوء النصية التي ينتمي إليها. وبذلك نتجاوز الرؤية السائدة في تحليل النصوص كما هو متداول في النظريات الغربية المختلفة. لم يكن قصدي مضاهاة القرآن الكريم بالأساطير وكتب العجائب، وغيرها. إنني حين أضعه ضمن النصية الكونية أريد من التحليل أن يبرز لي الفروق بين هذه النصوص في تمثل العالم، والقرآن الكريم لأنه سيبدو (بدا) لي مختلفا اختلافا جذريا عنها، وأنا أحلله (سأحلله) باعتباره مادة حكائية (قصة) وخطابا، ونصا، وهذا هو التمييز الذي اشتغلت به منذ انفتاح النص الروائي (1989)، ووضعت أسسه في تحليل الخطاب.

وحتى المقارنة بين القرآن الكريم، وهذه النصوص الكونية المختلفة، وضمنها العهد القديم والجديد ليست مما يمس بقدسية القرآن الكريم. فالميتا نص القرآني نفسه يقارن النص القرآني بغيره، ويرد على من يدعون على أن مصدره بشري: «ولقد نعلم أنهم يقولون: إنما يعلمه بشر. لسان الذي يلحدون إليه أعجمي، وهذا لسان عربي مبين» (النحل 103). إن المقارنة هنا ليست فقط لغوية (أعجمي ـ عربي)، ولكنها تتضمن أيضا ما يتعدى اللغة إلى الشكل، في سؤال الكيف، (لا يؤتى بمثله) والمحتوى، سؤال اللماذا، (يهدي للتي هي أقوم). إنها تتحقق داخل النصية الكونية.

لقد اعتبرت سؤال موقعة النص القرآني ضمن غيره من النصوص أساسيا ومركزيا، بل هو المدخل الطبيعي لممارسة تحليله تحليلا ملائما. كما أعتبره في الوقت نفسه ما يدفعني إلى تطوير تصوري للنص، والتمييز بين النصوص، ليس فقط باعتماد مقولات مثل الجنس، والنوع، ولكن بإدراج النمط أيضا. هذه التمييزات حين لا تتأطر، ليس فقط ضمن الأنماط، ولكن ضمن التمييز بين الأنموطين المركزيين، أو النصيتين الكبريين أيضا، ستجعلنا نتعامل مع جلجاميش على أنها «ملحمة» بصفتها نوعا سرديا لا تختلف عن أي نص سردي إلا بسبب انتمائها إلى نوع معروف. أما الانطلاق من النصية الكونية فتضعنا أمام ضرورة وضعها في سياق يتجاوز النوع إلى النمط. لقد اختفت الملحمة بصفتها نوعا، لكن النمط الخاص بالعلاقة بين السرد والتجربة الإنسانية موجود دائما (الكلام والخبر).

وللتدليل على ذلك أعتبر رواية الخيال العلمي والفنطازيا، باعتبارهما نوعين سرديين جديدين في العصر الحديث مثلا، يندرجان في نطاق النصية الكونية، مع فارق جوهري يتصل بالعصر. فما كان آلهة، أو طوطم أو ما يشبه (العالم العلوي) في النصوص السردية القديمة، صار «كائنات فضائية ذكية» (Aliens)   تريد غزو الأرض والسيطرة عليها. لقد تغير النوع، لكن النمط واحد، اتخذ مواصفات جديدة تتصل بالعصر التكنولوجي الذي نعيش فيه. وسنجد أن ما تشترك فيه النصوص السردية حسب الأنموط الكوني مختلفة عن نظريتها المتصلة بالأنموط العالمي على مستويات متعددة. وفي هذا نافذة لمن يريد توسيعها، والبحث في إطارها.
أما الأنموط العالمي فجعلته مقتصرا على ما يتصل بتجربة الإنسان مع العالم الذي يعيش فيها في مواجهة أخيه ـ عدوه الإنسان، أو الطبيعة. ومقارنة بسيطة بين رواية بوليسية مثلا، ورواية الخيال العلمي الجديدة التي ظهرت مع الثورة الجديدة للمعلومات والتواصل، تبين لي الفرق الكبير بينهما، وهو الفرق نفسه الذي أجده أيضا داخل كل أنموط لاختلاف الأنواع التي يندرج تحتها. فالكتاب المقدس ليس القرآن الكريم رغم اندراجهما معا ضمن الأنموط الكوني. وقس على ذلك.

يقودنا الفرق بين الكوني والعالمي إلى البحث فيما ينضوي تحت كل منهما من أنواع فرعية وفق معايير تجعل بينها اختلافات رغم الائتلاف العام بينها. ولا ينسينا هذا الأساس المنطلق منه حول الأنموط المحوري (البنية النصية الكبرى) أن أيا من الأنموطين يمكن أن نجد فيه ما نراه في الأنموط المقابل، لكن الهيمنة تكون لما يجعلنا نميز بينهما.

لقد جعلت القرآن الكريم نص الانطلاق لتطوير المفاهيم التي ذكرت استنباطا لا استقراء. ولذلك كان أساسَ التمييز بين الأنموطين بناء على ما يقدمه لنا بخصوص ما يتشكل منه الأنموط الكوني في كليته وشموليته. إن فيه تأكيدا على إنسانية هذا الأنموط، من خلال «وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا»، و«لقد أرسلنا رسلا من قبلك منهم من قصصنا عليك، ومنهم من لم نقصص عليك». وفي هذا تبدو لنا العلاقة بين العلوي والسفلي، والدنيوي والأخروي في الكثير من النصوص من حضارات قديمة تتجلى من خلال النصوص السردية: الحكايات والأساطير والملاحم، والكتب المقدسة.

Share
  • Link copied
المقال التالي