يمكن القول بدون مجازفة أنه من الخلاصات المركزية للأزمة الحالية بين المغرب والاتحاد الأوروبي، أنها أعادت بشكل ما طرح عقدة حضارية ثقافية قديمة متمثلة في النظرة الثقافية لأوروبا، ولحصانة وتميز ورقي الرجل الأبيض على رجل دول الجنوب.
وفي محاولة لقراءة عناصر لغة تواصل مسؤولي أوروبا إثر أزمة التوافد على ثغر سبتة المحتلة، أفترض أنها لغة حملت تناقضات كبيرة، منها ما أعتبره خارج قاموس التواصل المطلوب مع شريك تاريخي الذي هو المغرب، ومنها ما قد يبدو غير منسجم مع قناعات فكرة الوحدة والشراكة الأوروبية، ومنها ما يمكن وصفه بالخارج عن الأعراف والقواعد القانونية والسياسية الدولية.
تصريحات مسؤولي أوروبا في نظري تحتمل وقوعها في عدة أخطاء، وتناقضات ربما يمكن الاحتجاج بها كدليل عن وجود جاهزية ورغبة أوروبية مسبقة لمواجهة وإضعاف ومحاصرة المغرب، وكأنها كانت تنتظر الفرصة السانحة لذلك، أو خططت لذلك بشكل ما.
قد يكون الخطأ الأول في هذه التصريحات هو بمثابة تناقض تواصلي. فعندما سكت الإتحاد عن استقبال شخصية يعتبرها شريك استراتيجي موثوق فيه بحكم الوقائع الملموسة، الذي هو المغرب، شخصية يعتبرها معادية عنيفة مضرة به أي إبراهيم غالي زعيم تنظيم البوليساريو، معتبرين في ذات التصريح، أن المسألة من وجهة نظر قانونية هي قرار يدخل ضمن نطاق حدود إسبانيا، خاضع لتقديرها ولسيادتها، ولا يجوز لهم التدخل فيه، ولو من باب إعطاء المشورة وتوجيه النصيحة لها لحثها للعدول عن أمر استضافة رئيس منظمة مسلحة، وهم يعلمون مسبقا أن هذا الاستقبال سيضر بشريك وصديق إلى جانب كونه مضر بالعلاقات بين المغرب واسبانيا وبين أوروبا ككل.
التناقض اتضح عندما وقع شنآن وفود سبتة المحتلة. حينها اعتبر الاتحاد أنه مس بسيادة أوروبا وبحدودها. هنا يرفع التساؤل، أين كانت سيادة أوروبا وحدودها عندما اخترقها بشكل غير نظامي وغير قانوني، شخص متزعم لمنظمة لها ذراع عسكري كمنظمة إيتا الباسكية الانفصالية سابقا، يحمل ويدعو إلى حمل السلاح ضد دولة عريقة أي المغرب، ويهدد مصالحها بل يشكل تهديدا لمصالح شركائها الأوروبيين، المثبتة من خلال عدة اتفاقيات فلاحية أو بواسطة عقود استثمارات أجنبية.
إذن كيف يمكن تفسير امتناع أوروبا عن التعبير عن قلقها وغضبها على اختراق حدودها الحقوقية والترابية من طرف شخص متهم بجرائم خطيرة، المفترض فيها كتكل اقتصادي وسياسي وحقوقي على الأقل الدعوة إلى فتح بحث في التهم وتمحيصها بشكل مستقل وعادل ولم لا إنشاء محكمة خاصة لمحاكمته بجميع ضمانات المحاكمة العادلة في أوروبا؟
ثم في هذه الواقعة، تغاضى الإتحاد الطرف عن حقوق المغرب التاريخية على تراب مدينتي سبتة و مليلية، وتنكر للتاريخ بشكل صريح ولكل حيثيات هذا النزاع الترابي التاريخي، حول سبتة و مليلية، المتوارث منذ قرون عدة.
في هذا الفصل من فصول النزاع حضرت حدود أوروبا المصلحية المناورة الضاغطة على المغرب، وغابت أوروبا الحقوقية والقانونية.
الخطأ الثاني أعتقد أنه متعلق بتناقض استراتيجي سياسي. لم يتوفق الاتحاد الأوروبي في تحديد طبيعة الحدود، كنقطة للتواصل والانفتاح واللقاء وحماية المصالح، واعتبرها كسور عالي للقطيعة يحميها من الآخر. الاتحاد الأوروبي تبنى في موقفه تجاه المغرب مفهوما تقليديا للحدود باعتماد وجهة نظر جغرافية، تشمل حدود إسبانيا الترابية بحكم الواقع بغض النظر عن حقائق التاريخ ومنازعة الشريك الجنوبي.
الاتحاد من هذا المنطلق غيب بشكل غير ملائم مع سياق العولمة، مفهوم الحدود الاستراتيجية التي تتجاوز الجغرافي والترابي إلى الحدود السياسية والاقتصادية، التي ينبغي أن تضم المغرب. فهل يمكن اعتبار المغرب خارج حدود أوروبا استراتيجيا سياسيا واقتصاديا وثقافيا وأمنيا؟
البحث في هذا التساؤل يدعو ضمن ما يدعو إليه إلى إعادة النظر في علاقات المغرب مع أوروبا، وإلى إعادة تعريف وتحديد الخطوط الفاصلة بين المغرب و وأوروبا.
في اعتقادي أن موقف الإتحاد الأوروبي بشأن دفاعه عن حدود إسبانيا الترابية غير المتفق عليها تاريخيا وقانونيا، واعتبارها حدودا للقارة الأوروبية انطلاقا من مدينة سبتة التاريخية المغربية، يمكن وصفه بعدم الدقة لتبنيه مفهوما منغلقا للحدود، من منطلق التصور الذي تحدثنا عنه أعلاه حول الحدود، وأيضا باستحضار الممارسة بحيث أن دولا أوروبية عديدة، اعتادت على برمجة تدخلات عسكرية في عدد من بقاع المعمور، خصوصا في سمراء القارات إفريقيا، لحماية مصالحها الاقتصادية أو التاريخية أو الثقافية بادعاءات إنسانية أو حقوقية أو بادعاءات مباشرة بحماية مصالحها الاقتصادية.
الخطأ الثالث في موقف أوروبا في نظرنا، هو التغييب غير المفهوم وغير المبرر لمنهج الوساطة والصلح والتحكيم، التي دأب الإتحاد الأوروبي على ممارسته عند نشوب أي نزاع داخل دول الإتحاد أو بين دوله ودول خارجه.
هي أعراف وتقاليد عريقة تمارسها الأمم المتحضرة، وتمارسها أوروبا غالبا مع شركاء أو مع دول جارة لفض النزاعات بطريقة سلمية. منهج أو قيم الوساطة، استعمله الإتحاد مؤخرا في نزاع تركيا واليونان، بمناسبة النزاع حول الحدود البحرية بينهما. كما تم استعمال هذا المنهج الحضاري الأخلاقي في عدة خلافات، بإرسال مبعوث أو وسيط للجلوس مع الأطراف المتتازعة قبل اتخاذ أي قرار.
الخلاف مع إسبانيا تحول إلى خلاف مع الاتحاد الأوروبي ككل، وهو خلاف يفرض على المغرب إعادة تعريف مخاطبيه الحقيقيين داخل أوروبا، وإعادة تحديد الأطراف الحقيقية القوية في الاتحاد التي ينبغي الحديث إليها أو التواصل معها أثناء الأزمات، وهي حتما ليست إسبانيا نظرا لحجم سلطة قرارها داخله.
اليوم ينبغي الحديث إلى فرنسا، أحد الآباء المؤسسين لفكرة وفلسفة الاتحاد، وأحد الأطراف الحقيقية داخله خصوصا بعد خروج بريطانيا منه.
فرنسا تربطنا معها علاقات متنوعة وكبيرة ومتشعبة، وعليها أن تختار إما أن تحافظ على شريك تاريخي وثقافي مستقر، وإما أن تفقده بشكل شبه نهائي لفائدة مصالح تكتيكية لدولة عضو في الاتحاد، بما يعنيه ذلك من إمكانية انسحاب المغرب من الفضاء الفرنكفوني، والتوجه نحو الفضاء الأطلسي نحو أمريكا، أي نحو الثقافة الأنجلوساكسونية واللغة والمعرفة الإنجليزية.
الارتباط بشريك كيفما كان نوع العلاقة معه، اقتصادية أو ثقافية أو سياسية، هو ليس مسألة مصلحة عادية أو عابرة، وإنما هو عملية تكامل واندماج وهو إنتاج عقلاني له أهداف إنسانية أكبر من الاقتصاد، إقرار واختيار الشريك مسألة لاتحركها الديناميات الاقتصادية فقط وإنما أيضا تفرضها قرارات سياسية بعمق ثقافي كبير.
وبالنسبة للمغرب سيصبح من غير المعقول مواصلة تبني جزء من ثقافة شريك مستعمر قديم، لايقوم بفعل حقيقي بما في ذلك القيام بوساطة جادة لكبح تغول أصدقاء مشتركين كإسبانيا، بل يزيد من سلبية فرنسا أنها تساهم عن طريق إعلامها في إعدام آخر خيوط الوصال التاريخي والثقافي، من خلال مهاجمة الشريك التاريخي. الأزمة الحالية يمكنها بسهولة أن تقطع ذلك “الحبل السري’ الذي طالما جمع المغرب بدول أوروبية لقرون من الزمن.
وإذا عدنا إلى النظر في تصرف اسبانيا في قضية إبراهيم غالي، الذي ربما تعتبره أحد مواطنيها ويحمل جنسيتها، بالنظر إلى كون ولادته كانت إبان الاستعمار الإسباني للصحراء، مما يعطيه الحق في الجنسية الإسبانية بشكل تلقائي، فإنه يبدو موقفا متناقضا بشكل سكيزوفريني، مع تصورات وسلوكات الدولة الإسبانية تجاه فكرة الانفصال الداخلي لديها، مع مطاردتها للعنف الانفصالي المجسد في حركتي استقلال الباسك وجناحها المسلح إيتا، و حركة استقلال منطقة كطلانويا شرق اسبانيا.
اسبانيا لاحقت المطالبين باستقلال الإقليمين، يواسطة مذكرات بحث واعتقال وإصدار أحكام قضت بالسجن في شأن قياديي الحركتين، الشيء الذي تبيحه وتشرعنه لنفسها وتمنعه على المغرب على مستوى الواقع، مما يعطي انطباعا عن وجود نظرة استعلائية استعمارية قديمة، وعن وجود شبهة ابتزاز، لعدم اكثراتها بالقانون ولا بقناعاتها الحقوقية والوحدوية التي تظهرها للعلن.
غير أن ذلك كله لا يمنع من القول أن المغرب ساهم بشكل أو بآخر لترسيخ نظرة شركاء أوروبا له ولحقوقه ومصالحه. المغرب لم يشتغل بشكل جيد على الجانب القانوني والقضائي، في مسألة محاكمة وتسليم ابراهيم غالي وباقي قادة جبهة البوليساريو.
ولن أبالغ إذا قلت أن أهم الدروس المستخلصة من هذه الأزمة، هي إغفال الوسائل القانونية لمتابعة قيادة البوليساريو في المغرب بسبب جرائمهم المتعددة بالقتل، والهجوم على القوات العمومية بالأسلحة واحتجاز مواطنين مغاربة، منهم جنود أشرفت على عودتهم للمغرب منظمة الصليب الأحمر بشكل رسمي وموثق، وهناك تهم أخرى وشهود على وجود جرائم التعذيب والاختطاف، تقتضي فتح تحقيقات وأبحاث قضائية فيها، وإنجاز محاضر قضائية بشأنها تحت اشراف النيابة العامة، ثم إحالتها على الجهات القضائية المغربية المختصة التي قد تحولها إلى مذكرات بحث دولية لاعتقال المشتبه فيهم أو تسليمهم عند الاقتضاء للمغرب على غرار ماقامت به اسبانيا مع انفصالييها، بناء على اتفاقيات ثنائية لتسليم المجرمين، من بينها اتفاقية 1997 الموقعة بين المغرب واسبانيا.
وبالنظر إلى كون تهم ارتكاب جرائم الحق العام الموجهة إلى ابراهيم غالي، وإلى عدد من قيادات البوليساريو لاتعد جرائم سياسية تمنع عملية تسليمهم، نظرا لكون هؤلاء المتهمين هم مغاربة من أبوين صحراويين مغاربة ولدوا فوق التراب المغربي، وباعتبار أن اسبانيا لا تعترف بجنسية صحراوية ولا بجمهورية صحراوية يدعي الاتفصاليون تأسيسها، وباعتبار أن الممارسة القضائية الإسبانية لها نفس التوجهات في التصدي للانفصال والاستقلال، ظهر ذلك في رفض انفصال منطقة كاطالونيا ومنطقة الباسك و في ملاحقة الانفصاليين أينما حلوا ، بجميع الوسائل القانونية المتاحة، فلماذا إذن تسير مملكة إسبانيا عكس قناعاتها الحقيقية عندما يتعلق الأمر بقضية وحدة المملكة المغربية؟
*باحث في العلوم السياسية بجامعة محمد الخامس بالرباط
تعليقات الزوار ( 0 )