Share
  • Link copied

المغرب دولة تنتقم منها جغرافيتها

أضاف حدث دخول زعيم جبهة البوليساريو الانفصالية للأراضي الإسبانية عاملا إضافيا مغذيا لعلاقة الشك والريبة والأزمة التي باتت تميز العلاقات المغربية الإسبانية، على الرغم من تظاهر الجانبين بالحرص على متانتها وأهميتها وعلى حتمية وضرورة التعاون والتنسيق في شتى المجالات. وجاء بلاغ وزارة الخارجية المغربية يوم الخميس 06 ماي الجاري القاضي باستدعاء السفير المغربي في العاصمة الألمانية برلين للتشاور معلنا عن أزمة دبلوماسية جديدة مع قطب أوربي مهم ومؤثر إقليميا ودوليا. قبل ذلك وفي سنة 2015 كان المغرب قد علق تواصله الدبلوماسي مع مؤسسات الاتحاد الأوربي بعد قرار محكمة العدل الأوربية إلغاء اتفاقية التبادل الحر استنادا لتفسير يعتبر “إقليم الصحراء” جزءا من الاتفاق وهو ما يتنافى مع نهج الأمم المتحدة فيما يتعلق بهذا النزاع. كما سبق للمغرب أن استدعى قبل سنتين سفيريه لدى كل من الإمارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية وهما الحليفان الاستراتيجيان للمغرب بسبب توترات مرتبطة بمواقف سياسية. وقرارات استدعاء السفراء هاته شملت كذلك الجزائر غير ما مرة والسنغال والسويد وإسبانيا…

قد تبدو للوهلة الأولى هذه الأزمات الدبلوماسية عادية وطبيعية وعابرة قد تواجهها أية دولة ذات سيادة تحترم نفسها وتدافع عن خياراتها وقراراتها وتوجهاتها الدولية، خاصة وأن أجندتها وأولوياتها الداخلية والخارجية تتمركز حول قضية سيادية وترابية مصيرية مثل قضية الصحراء. لكن عند إدماج هذه الأزمات ضمن سياق جيوسياسي أكثر شمولية، فإنها تتحول من “أحداث” معزولة في التاريخ إلى خصائص جوهرية (Intrinsèque) تستوجب التفكير والتحليل والتفكيك.

فلطالما قدم المغرب نفسه دولة ذات موقع جيوسياسي وجيوستراتيجي متميز، فهو “قنطرة” بين الشمال والجنوب، و”صلة وصل” بين الحضارتين الإسلامية والغربية، و”نقطة مرور” بين الشرق والغرب. وهذه التمثلات والقياسات التشبيهية التي تم بناؤها نظريا وذهنيا حول جيوسياسية المغرب، لا شك أنها أكسبته سمعة دولية معتبرة ومكنته من الاضطلاع بأدوار إقليمية ودولية مهمة. غير أنه وبالقدر الذي يجوز به تمجيد الجغرافيا والاحتفاء بالموقع؛ لا يمكن إنكار كون إكراهات السياسة الخارجية ومطباتها وأزمات الدبلوماسية وعثراتها مرتبطة بعاملين رئيسيين: الأول وهو العامل الجغرافي نفسه. فالخريطة حسب تعبير روبرت كابلان أداة خطيرة وبالغة الأهمية من أجل التوصل لفهم السياسات العالمية والإقليمية، والمعلومات المادية والظاهرة التي تقدمها تسمو على الأفكار والسياسات التي تنتجها. وفي حالة مملكتنا، يبدو المغرب محشورا في زاوية وركن ضيق، ومحاطا بعوازل جغرافية طبيعية في ظاهرها مثقلة بالمؤامرات السياسية والهجومية والعدائية في عمقها. وهي اعتبارات لا يمكن تجاهلها، ويصعب تجاوزها بآليات الفعل الدبلوماسي التقليدية، وبمخرجات السياسة الخارجية الكلاسيكية. فالمغرب هو الدولة التي تأسست على حسابها تحالفات واصطفافات إقليمية بين تونس والجزائر وليبيا وموريتانيا في ثمانينات القرن الماضي بهدف عزله وفرملة إمكانات وفرص ريادته الإقليمية، بعد أن كان سباقا إلى الدعوة إلى التقارب والتعاون والتكتل الإقليمي في الخمسينات، إذ كان الملك الراحل محمد الخامس أول من دعا لتأسيس فدرالية بين بلدان دول إفريقيا الشمالية، واحتضن سنة 1958 أول مؤتمر مغاربي بحضور جبهة التحرير الوطني الجزائرية والحزب الدستوري التونسي وذلك من أجل مناقشة إمكانية تأسيس اتحاد بلدان المغرب العربي.

وهو الدولة الإفريقية التي تنكر لها شركاؤها الأفارقة في الكفاح ضد الاستعمار وقبلوا انضمام كيان وهمي على حساب دولة مستقلة وقطب إقليمي مثل المغرب.

وهو الدولة التي تنازع في سيادتها جارتها الشرقية الجزائر، الدولة العربية الراغبة في تقطيع أوصالها وانتزاع جزء من ترابها تحقيقا لطموحات وحسابات جيوسياسية ضيقة، جاعلة من عقيدة الهيمنة والسيطرة والاستعلاء والتسلح المرجع الرئيسي، والمحرك الأساسي في علاقتها بالمغرب.

وهو الدولة التي تنظر إليها جارتها الشمالية إسبانيا بعين الريبة وتعتبرها مصدرا لعدم الاستقرار ومنبعا للهجرة غير الشرعية والإرهاب وتجارة المخدرات… ولا ترى سبيلا لتحقيق مصالحها وانتقالها لمستوى التأثير في التوازنات الإقليمية، إلا بالحفاظ على تفوقها الاستراتيجي في مضيق جبل طارق والتواجد على ضفتيه، وتحويل سبتة ومليلية المحتلتين إلى مجالات حيوية تتحكم من خلالهما في محيط دفاعي مهم على الأراضي المغربية، وإلى مركب عسكري/أمني هدفه إحداث توازن استراتيجي مع جبل طارق الخاضع للسيادة البريطانية.

وهو الدولة التي لا تزال جارته الجنوبية موريتانيا تعترف بجبهة البوليساريو، ومتوجسة من طموحاته الجيوسياسية المشروعة التي تعتقد أنه يسعى من خلالها لعزلها عبر تحالفه الاستراتيجي مع السنغال وتوسيع دائرة نفوذه الإفريقي.
وهو الدولة التي وصفتها حركة عدم الانحياز سنة 1979 بالدولة “المحتلة” ودعمت “حق الشعب الصحراوي في تقرير المصير”، بعد أن ساهم في تأسيسها وبلورة مفاهيمها ومبادئها، وتقديم اقتراحات تعنى بمشاكل دول العالم الثالث ونزع السلاح ومحاربة التخلف وتحقيق التنمية الاقتصادية والاجتماعية.

أما العامل الثاني، فهو تصور النظام وفهم النخب الأكاديمية والسياسية للجغرافيا المغربية في بعدها الاستراتيجي، والخطاب الموظف للتعبير عن الحمولات السياسية والاقتصادية والأمنية والثقافية للمجالات والأماكن والحدود والامتدادات الترابية. لم يتم التعامل مع هذه المعطيات بمنطق الحتمية، ولم ينظر لموقع المغرب مصدرا للتهديد وتم تجاهله. والتوصيفات التي احتضنها الخطاب الجيوسياسي الرسمي ظلت باستمرار تقدم المجال الجغرافي “هبة” و”عطية” و”ميزة”، وهذا الانسياق المقصود والتركيز المتعمد أفقد الدبلوماسية المغربية خاصيتين أساسيتين: توقع سلوك ومواقف الدول الأخرى المنافسة أو المعادية المعنية بنفس الترتيبات والقضايا الإقليمية والدولية، وهامش مناورة مهم كانت ستستفيد منه لو استطاعت أن تزاوج في الخطاب والممارسة بين القوى الكامنة في جيوسياسيتها؛ والتهديدات التي تواجهها عبر تكريس صورة الدولة المقصود إحاطتها وعزلها من جيرانها واستبعادها من المعادلة.
ربما نجح القائمون على السياسة الخارجية المغربية في رسم خريطة مفاهيمية عن الدولة، ولكنهم كانوا أبعد ما يكون عن المناورة والتهديدات الضمنية والردع وإرسال الإشارات وغيرها من أشكال التفوق السيكولوجي، وهي مكانزمات وإن كانت تنتمي للقاموس الاستراتيجي؛ فإن تحولات السياسة الدولية حملتها إلى المجال الدبلوماسي. لذلك تبدو الحاجة ملحة اليوم وأكثر من أي وقت مضى، وأخذا بعين الاعتبار السياقات الإقليمية والدولية الحالية، لإطلاق دورة دبلوماسية جديدة أكثر احترافية تتجاوز الجغرافيا التقليدية المبهجة، وتشكل أنماطا مكانية خاصة لا تتجاوز دوائر الانتماء الكلاسيكية لأنها أضحت جزء من بنية السياسة الخارجية، ولكنها تتجاوز أزمة المتسَع الذي فرضته الجغرافيا الملغومة.

  • باحث في شؤون السياسة الخارجية المغربية
Share
  • Link copied
المقال التالي