Share
  • Link copied

المحفوظي يكتب: ماذا استفاد النموذج التنموي الجديد من درس كورونا؟

لماذا عجز النموذج التنموي الحالي في تحقيق التنمية المجالية المستدامة؟ وأي دروس يمكن اعتمادها من هذه الجائحة حتى نتجاوز الأزمات والاحتقانات؟ وكيف يمكن ارساء المبادئ الدستورية من خلال إقرار ربط المسؤولية بالمحاسبة لإعادة الثقة بين المؤسسات ومختلف مكونات المجتمع المغربي؟

الخلل الرئيسي من وجهة نظري كان متأصلا في طريقة اشتغال الحكومة وتقنيات ترتيب العمل من قطاع إلى قطاع آخر وفي أسلوب التواصل المؤسساتي الذي كانت تنتهجه الحكومة مع المواطنين وكل تمثيلياته، والذي تغير رأسا على عقب منذ بدأ هذا الوباء يغير شيئا فشيئا طريقة الاشتغال عند كل أجهزة الدولة..

لقد أبانت اجهزة الدولة في هذه الفترة عن سرعة في الاشتغال وفي التنسيق والتنظيم لم يسبق له مثيل في الظروف الماضية…(التعليم عن بعد, المستشفيات الميدانية, الصناعة, الابتكار…).

سبق لي أن تحدثت عن ضرورة تقنين اشتغال الدولة وفقا لمعايير تنظيمية معروفة على الصعيد العالمي، مثل معيار المعهد الدولي للتدبير بالمشاريع ”PMBOK”، مما سيساعد الإدارة على التحول التام من طريقة العمل الكلاسيكية (منطق السلاليم والرتب) إلى طريقة العمل “بالمشاريع” ممنهجة و مرتكزة على ضوابط زمنية في الإنجاز..

هذا المسار، في رأيي كفيل بأن يمكن الدولة من الخروج نهائيا من مشكلات التواصل بين الإدارة والمواطنين تترتب عليها في بعض الأحيان اهتزازات مجتمعية وسياسية خطيرة، مثل ما شاهدناه في منطقة الحسيمة أو عبر ما وقع في كثير من البلدان العربية في زمن “الربيع العربي”.

المشكلة في كثير من الأحيان تكون مجرد غياب هيكلي للتواصل وليس للميزانيات ولا حتى للإرادات الإصلاحية… (لنبقى إيجابيين).

هذا النوع من التدبير وطريقة الاشتغال، إذا اقترن بالتدبير الاستراتيجي المحكم واقترنت الأهداف الاستراتيجية للدولة بالمشاريع التي يتم إطلاقها هنا وهناك، وربط الكل بحاجيات المواطنين على مستوى الجهة والمدينة والجماعة وحتى الحي، فذلك سيكون أول خطوة للمغرب في إرساء أولى قواعد الديمقراطية الحقيقية والسلم الاجتماعي العادل والمستدام مبني على الواقعية والصدق في الإعلان على المؤشرات وبعيد عن المزايدات السياسية وسياسات التواصل البعيدة المنفصمة عن الواقع المعاش.

فبدلا من إغراق المواطنين في متاهات التقارير الماكرو اقتصادية المعقدة، سيمكن هذا النوع من التدبير (Mode Projet) من توجيه المواطنين نحو مؤشرات مشاريع مبسطة ومفهومة مرتبطة بالجهة والمدينة والحي، وبانتظار اتهم اليومية:

*كيف يفهم المواطن ويستوعب تأثير السياسات العمومية على حياته اليومية؟

*كيف يتم استيعاب برامج العمل الحكومية، الجهوية أو المحلية، والكشف عن مدى تطابقها مع انتظارات المواطنين ومختلف الشرائح الشعبية؟

هذا في رأيي سيشكل طريقة جديدة لإرساء دعائم قوية لتواصل واقعي ومستدام بين الإدارة والمواطن (بعيدا على أساليب الاستهزاء والتضارب العقيم) ترتكز على ما يلي:

أولا: كل الحكومات المنتخبة يجب أن تحاسب وتقيم على أساس “مؤشر إرضاء” تطلعات المواطنين من خلال البرنامج الحكومي المعلن ووفق منطق للتنقيط والتقييم مؤسس على مؤشرات “مشاريعية” دقيقة ومبسطة ومعلنة مسبقا للمواطنين عبر كل القنوات المتوفرة. كيف ذلك؟

الملاحظ اليوم، وكما اتضح لنا عبر تحليلاتنا المختلفة أن هناك عجزا واضحا لدى الدولة في التواصل عبر مختلف الأبعاد المستعملة والمفهومة عند المواطنين، وإصرارها على التواصل عبر معلومات ماكرو اقتصادية فضفاضة تكون مستعصية الفهم في معظم الأحيان وصعبة الربط بالحياة اليومية عند مختلف الشرائح من المواطنين.

إن عملية التواصل عند الدولة لا تقدم اليوم أي علاقة “سببية” بالحياة المحلية للمواطنين (تقرير المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي، 2013).

ثانيا: نهج سياسة تواصلية مكونة من عناصر متكاملة ومرتبطة. هذا النموذج “التواصلي” و”العلاقاتي” يتكون من العناصر التالية:

*الاستغلال العقلاني لإيجابيات شبكات التواصل الاجتماعي.

*استعمال وسائل تحديد هويات المواطنين لتفادي فوضى الشكايات و الاحتقانات.

*تنزيل البرامج الحكومية في قائمة مشاريع مفصلة ومفهومة (مؤسساتية، قطاعية، محلية).

*خلق مساحات استقبال وتوجيه المواطنين في كل إدارات الدولة بدون استثناء ووفقا للمعايير الدولية (مستعجل).

*تمكين مرافق الدولة من الكفاءات اللازمة وعناصر بشرية مدربة في ميادين العلاقات العامة، التواصل، وتقنيات الويب ماسترينغ (Webmastering) ، وتسيير التجمعات الرقمية إلخ…

ثالثا: المكون الثالث لهذا النموذج، موضوع مقالنا اليوم، سبق أن برهنا على فعاليته عبر نتائج بحوث وإحصاءات ميدانية بينت عجز الدولة الصارخ في “التنظيم المشاريعي”؛ وذلك على نطاق جميع الإدارات تقريبا (بحث CIRM).

بحوث كثيرة مكنتنا أيضا من تحليل قابلية الدولة والإدارة بمكوناتها الداخلية المعقدة والثقيلة لنهج تواصل فعال وحقيقي مع المواطنين.

فقد لاحظنا أن الإدارة المغربية تسجل نقصا صارخا في وسائل التواصل والإعلام. (نقص وانعدام _ في قطاعات ومناطق كثيرة -لشبابيك الاستقبال والتوجيه، عدم توفر وسائل رقمية وممكنة لتسجيل الشكايات، …) كما تسجل عجزا واضحا في الكفاءات المتخصصة في التواصل والعلاقات العامة بالإضافة إلى هذه الوسائل التي أدرجناها، لاحظنا كذلك عجزا في جوانب أخرى ذات تأثير مباشر وقوي على التحول المنتظر والمنشود في طريقة اشتغال الإدارة العمومية:

*غياب تام لمكاتب المشاريع PMO تضمن الاشتغال الداخلي للإدارة بمنطق “مشاريعي” بدل المنطق “الإداري” المهترئ. هذا الاشتغال “المشاريعي” أو “المشاريعاتي” هو أبرز مصدر للمعلومات (Big data) الممكن تداولها عبر الشبكات الاجتماعية، المواقع الإلكترونية ومساحات المعلومات المفتوحة.

*غياب شبه تام للكفاءات المتخصصة في التدبير المشاريعاتي Mode projet.

هذه النواقص أقل تواجدا بالإدارات المركزية لكنها شاملة، وحرجة (Critical) على مستوى الجماعات المحلية التي تمثل، حسب منظورنا، مصدر خطر كبير ومؤكد على توازن السلم الاجتماعي في بلادنا، مما يهدد التوجه الديمقراطي في المغرب وقد يتسبب في خلق هوة تواصلية “سحيقة” بين الإدارة والمواطنين ما فتئت تتسع يوما بعد يوم…

كيف نتمكن إذا من وضع الأسس “لنهج العملاء” أو “الزبائن” بين الدولة والمواطنين: أول خطوة حقيقية تجاه المصالحة؟؟…

إن تطلعنا إلى نموذج مغربي أصيل في بناء العلاقة “الزبونية” بين الإدارة والمواطن ينجم أولا من تساؤلات علمية عديدة وأعمال أكاديمية متعددة أنجزناها في مناسبات مختلفة، وخصوصا بعد أول حكومة مغربية عينت بعد دستور 2011، وبعد تراكمات الربيع العربي (دور الشبكات الاجتماعية ورقمنة مطالب المواطنين في ترسيخ الديمقراطية في العالم العربي: المغرب نموذجا، محمد أمين المحفوظي، 2011).

كما أن الهدف المتوخى من هذا النموذج هو إرساء نهج تواصلي مستدام بين الدولة والمواطنين مرتكز أساسا على منطق ثلاثي الأبعاد: “إعلامي”، “تصريحي” و”إلتزامي بالنتائج”. لأجل ذلك، نقترح نموذجا فريدا من نوعه، وربما خاصا بالمغرب فقط، يعتمد منطقا تواصليا “تصاعديا” Ascendant و”سليليا” Descendant مرتكزا على المبادئ التالية:

*أن يتفق الجميع على أن أصغر دائرة للحياة عند المواطن هي “الحي”، أو “المقاطعة” إذا استعملنا الاصطلاح الإداري المعروف.

*أن يتفق الجميع على أن اهتمام المواطن الرئيسي يتمحور حول التأثير “المباشر” للعمل الحكومي على حياته اليومية وبالتالي على حيه، مقاطعته الإدارية… هذا التأثير تستعصي اليوم معاينته، ويستحيل تشخيصه عند عموم المواطنين الذين يفتقرون إلى الكفاءة اللازمة، والمعرفة بتحليل المعلومات الماكروــ اقتصادية وترجمتها إلى الواقع المعاش. وهذا يمثل عندنا أصل الإحباط اليومي عند شرائح الشعب.

*أن تقوم الحكومة بعملية تنزيل مبسطة ومستدامة للبرنامج الحكومي من الاستراتيجية العامة للدولة (سليليا) عبر البرامج القطاعية والوزارية، وحتى “المصلحية” (المصالح والأقسام) لتقاطعها وتوصلها بالبرامج المحلية حتى مستوى المقاطعة والحي.

*أن يسلم الجميع بأن الدولة اليوم لا توفر للمواطنين القنوات المعلوماتية اللازمة والممكنة لتمكينهم من وضع شكاياتهم وتسجيلها… وهذا الفراغ هو الذي جعل شرائح كثيرة من الشعب تغوص بل وتضيع في متاهات شبكات اجتماعية مختلفة لا تقننها الدولة ودخيلة على المجتمع المغربي، ما جعل المواطنين يقعون في فخ “الشكاية والتشكي” من كل شيء، وفي كل مكان، والدولة في فخ “الحذر” و”القمع” من ولكل شيء وفي كل قطاع.

*أن تتم عقلنة عملية التشكي أو “الشكاية” بمنع “التشكي الراديكالي” من كل شيء. من أجل ذلك، يجب على الدولة إعلان التزاماتها بكل دقة وبالمعقولية والصراحة اللازمتين في كل عملية تواصل بين طرفين. كما يجب أن يكون التصريح الحكومي الأولي دقيقا ومفصلا، كما سبق أن أشرنا، حتى يتسنى للمواطنين الالتزام أيضا بـ”العقلانية” والتأنّي في عمليات التشكي الجماهيرية والدقة في عتاب الدولة ومسؤوليها.

وحتى يتسنى للجميع احترام وتفعيل هذه المبادئ كلها، نعتقد أن كل قطاعات الدولة ستصبح مجبرة على:

الاستعمال الحتمي والعاجل لتكنولوجيات المعلومات والتواصل الاجتماعي على أكبر نطاق وبطريقة ممنهجة وذكية (وهنا يمكن أن ندرج النواقص العديدة التي ميزت برنامج Maroc Numeric 2013 ومشارع الإدارة الإلكترونية السابقة التي كانت جلها غير متصلة بشكل دقيق بحياة المواطنين اليومية. هذا الاستعمال الذكي لا بد أن يرتكز على الإدماج التقني الفعال لبرامج مراقبة الهويات والدخول “الوحيد” للبوابات الإلكترونية (SSO: Single Sign On) … الخ، لتجنب الهويات المزورة والمزايدات الشبابية غير المعقلنة والفوضوية في بعض الأحيان.

وضع الإجراءات اللازمة وخلق الهيئات الضرورية لتفعيل كل هذا، التي ستدفع المغرب في اتجاه عهد جديد للديمقراطية سيتميز غالبا على باقي بلدان العالم العربي لما للمغرب من خصوصيات؛ أولها أنه عاش تداعيات الربيع العربي بشكل مختلف تماما عن البلدان الجارة.

كيف إذاً يمكن تقنين الشكايات والمطالب الشعبية وتصنيفها على مستوى أجهزة الدولة؟ مبدأ “الحلقة” لإرساء التعريف الواقعي والمقنن للشكايات.

إن “الحلقات الدائرية” للشكايات تشكل أهم “نقطة الاتصال” في نموذجنا. فمن هذا المنطلق سنتمكن من تقييم نتائج نموذج CIRM الذي ننشده. الأمر يستدعي أن تشكل حلقات متعاقبة ومتباعدة عن المواطن الذي يمثل المركز والنقطة المحورية لكل الحلقات التي تشكل مجموع حاجياته ابتداء من الحاجيات الرئيسية والأساسية إلى الحاجيات الأخرى التي يضمنها له الدستور، وقوانين حقوق الإنسان والأعراف…إلخ.

في منهجنا هذا، وإن كنا استعرنا بعض الشيء من هرم Maslow، إلا أن نموذجنا يبقى فريدا وخصوصيا وشاملا.

حلقات “التشكي” أو “الشكايات” في نموذج CIRM:

ستمكننا حلقات “التشكي” من تنظيم وهيكلة وحتى تصنيف جل المشاكل التي يعاني منها المواطنون.

كما ستمكن هذه التقنية من احتساب معدل ظهور هذه المشاكل والوتيرة التي تتنامى بها. ومن موضع آخر، ستمكننا هذه الطريقة من الوصول إلى أعلى مستويات الشفافية في معلومات تشكي المواطنين وعلى مستوى الوطن بأسره، بحيث تستطيع الدولة أن تتعرف على أصول الشكايات عبر كل المستويات والمراحل: الجهة، المدينة، المقاطعة والحي وربما حتى شخص المواطن نفسه، وهذا سيمكن رجالات الدولة من اتخاذ الإجراءات بسرعة كبيرة وفي الوقت المناسب.

وبما أن شكايات المواطنين تختلف من قطاع إلى آخر ومن مدينة إلى أخرى، وأن الانتظارات متباينة من تجمع إلى آخر، فإن حلقات التشكي (Complaints Circle) ستختلف مثلا من قطاع الصحة إلى قطاع التعليم، مرورا من قطاع النقل العمومي…إلخ. فمثلا في حي من البناء العشوائي ستكون حلقة الربط بالماء الشروب والكهرباء أهم وأقرب إلى انتظارات المواطنين من حلقة الثقافة التي تستوجب بناء المسارح ودور السينما، كما أن حلقة جودة التعليم داخل القسم ستكون أكثر أهمية وأقرب إلى المواطن “التلميذ” من حلقة الربط بالإنترنت… إلخ. وهكذا دواليك.

إن جل المشاكل الاجتماعية يمكن تصنيفها في مستويات هرمية مبنية أساسا على شدة التأثير المباشر على المواطن، وهذه المستويات كلها يمكن ربط بعضها ببعض في منطق متشابك يسهل وضعه وإنجازه.

كما أنه ليتسنى لمنهجنا CIRM أن ينجح، لا بد من ربط كل حلقات التشكي عند المواطنين وتصنيفات مشاكلهم بالبرامج الحكومية بكل تفاصيلها. ولكي يتم ذلك، لا بد للإدارة أن تكون لها القدرة على تفصيل كل اشتغالاتها وإيصال كل استثماراتها بمشاكل المواطنين وعبر لوائح للمشاريع مفصلة ودقيقة ومنزلة حتى المستوى المحلي عبر حلقات التشكي التي تحدثنا عليها.

هذه التقنية هي في منظورنا الطريقة المثلى لربط الاستثمارات العمومية بانشغالات وانتظارات المواطنين، وأحسن وسيلة لترسيخ الثقة بين الدولة والمواطن وإرساء الدعامة الأساسية لإنجاح عملية التواصل وتعميم التصالح.

والملاحظ أيضا أن الكثير من مشاريع الدولة تؤجل ويطول أمد إنجازها لمدة طويلة جدا دون أن تحقق الأهداف المرجوة منها، بل إن البعض منها يجهض في وسط الطريق وأثناء عملية الإنجاز…

مشاريع كثيرة تطلق هنا وهناك دون أن تساهم بشكل دقيق و”مباشر” في النمو الاقتصادي للبلاد، بل دون أن تحقق الأهداف المرجوة (إن كانت قد سطرت بدقة من قبل) في تحسين حياة المواطنين على مستوى الحي والمقاطعة أو الجهة… (هذه هي الصورة النمطية الحاضرة في أذهان عموم الناس).

لذلك، فنحن نرى أن هيئة عليا لإدارة المشاريع تكون تحت وصاية رئيس الحكومة مباشرة، وإن تعذر ذلك يجب خلقها تحت وصاية الملك مباشرة، على شكل مكتب وطني للتدبير “المشاريعي” Government PMO يعمل وفق معايير PMBOK أو أي معيار دولي لتسيير المشاريع، وتكون مهامه الأساسية ملخصة في نقطتين:

تنزيل كل البرنامج الحكومي على شكل مشاريع مرقمة ودقيقة مع مؤشرات التتبع الضرورية والموافقة للقانون المالي للسنة، ووفق ميزانية الدولة السنوية.

ضمان التنزيل “السليسي” و”التصاعدي” الدقيق والمفصل بتعاون مع كل مرافق الدولة (القطاع – الوزارة – الولاية – الجهة – المدينة – المقاطعة – الحي…الخ).

التواصل بلغة “المشاريع” فقط: هل هي فرصة تاريخية لإرساء نهج جديد في التواصل بين السياسات العمومية والمواطنين؟؟.

إن ربط كل هدف استراتيجي للدولة بمشروع أو عدة مشاريع منزلة بدقة متناهية حتى احتياجات المواطنين وشرائح الشعب على مستوى الجماعات المحلية، حتى الصغيرة والبعيدة منها، يشكل كنزا من المعلومات ذات قيمة مجتمعية عالية جدا ستمكن الجميع (الباحثين – الطلبة – الأحزاب – المنظمات…)، والدولة بالخصوص، من نهج سياسة استباقية وحمائية تجاه كل أشكال الاحتجاج سواء كانت شعبية أو فردية.

وبذلك ستتمكن الدولة من خلال هذا النموذج التواصلي الجديد من اتخاذ إجراءات حمائية تجاه أي خطر في التوازنات الاجتماعية والسلم الاجتماعي، وكذلك التنبؤ مسبقا بتصاعد الاحتجاجات الشعبية في المملكة، سواء كان ذلك في الشوارع (كما حدث في إقليم الحسيمة) أو عبر شبكات التواصل الاجتماعي كما حدث في المغرب (ولو بحدة أقل) أو كما حدث في مصر (بحدة قاتلة زعزعت النظام في ذلك الوقت).

إن تكوين المشاريع وتصنيفها سيتم بمطابقة وانصهار احتياجات المواطنين التي سيتم تجميعها من خلال حلقات التشكي التي تحدثنا عنها من قبل عبر وسائل رقمية قوية وواسعة.

وسيتم تجميع حاجيات مختلفة ومتباينة انطلاقا من جميع الحلقات حتى يصل المشروع إلى الربط المباشر والنهائي بأصغر حلقة وهي المواطن نفسه؛ وذلك مرورا بجميع مستويات التصنيف (الدولة، الجهة، المدينة، المقاطعة، الحي).

وبذلك تتمكن الحكومة من تفادي حوار “الصم” بينها وبين المواطنين، وتنقية عملية التواصل من “الصداع Bruit” الذي يكون عادة سببا في الاختلاف والتشنج، كما تبين لنا من خلال احتجاجات الشمال التي كان السبب الرئيسي فيها ليس ما رصدته الدولة من أموال لأقاليم الشمال، ولكن ضعف التواصل الدقيق والتتبع “المشاريعي” المفصل، مما كاد أن يعصف بالحكومة كاملة بعد الخطاب الملكي (الثائر) المعروف.

عندما يكون الاستثمار العمومي أقرب إلى الحلقة الأصغر التي تحيط بالمواطن وانتظاراته، تكون عملية التواصل إيجابية وذات مصداقية وتأثير إيجابي مباشر على المواطنين. كما أن التواصل عبر هذه الحلقة يكون له تأثير كابح للاحتجاجات والاحتقان والإحباطات.

في النهاية، نحن واثقون بأن التواصل عبر “المشاريع” يشكل المخرج الوحيد للعالم العربي والمغرب بصفة خاصة، من ورطة الاحتجاجات الشعبية والبديل السوسيو سياسي والاقتصادي الوحيد، الكفيل بأن:

ـــ يضمن للمواطنين نظرة حقيقية وواقعية ومستدامة لأثر البرامج الحكومية على واقعهم اليومي، بما فيه واقع المقاطعة والجماعة والحي والمدينة، وهذا ما كان وما يزال مستعصيا فهمه على شرائح واسعة من المواطنين كما بينت ذلك بحوث كثيرة قمنا بها.

ـــ ينزل البرنامج الحكومي من الاستراتيجية العامة للدولة التي يخططها الملك (الرئيس الحقيقي للمملكة) بشكل سليلي (Descendant) إلى مختلف المستويات الأخرى: برنامج القطاع، الجهة، المدينة، المقاطعة والحي، ويضمن صعود المعلومات والمؤشرات أيضا بشكل تصاعدي (Ascendant) من المواطن (أسفل الهرم أو مركز الحلقة) إلى الملك أو رئيس الحكومة (أعلى الهرم أو في آخر الحلقة).

ـــ يضمن للمواطنين قنوات “رسمية” ومقننة لتسجيل الشكايات وخصبة بالمعلومات عن المشاريع المبرمجة ومؤشرات تتبعها، ونقاط إلتقائها وانصهارها بانتظاراتهم؛ وبذلك تجنب البلاد الفوضى في التشكي وعدم عقلانية الطلبات، كما تجنب المواطنين الخوض في متاهات التشكي الراديكالي عبر قنوات غير رسمية لا يمكن لأحد التحقق من هويات أصحابها ومستعمليها.

ـــ يعطي البديل للتشكي الراديكالي؛ وذلك بوضع البرامج كلها رهن إطلاع المواطنين (البرنامج الحكومي، البرنامج القطاعي، برنامج الجهة، برنامج المدينة، برنامج الحي…إلخ)، وبذلك لن تسمح الدولة بأي شكاية خارجة عن إطار ما التزمت به الحكومة ومن يتبعها من قطاعات وحتى يتسنى للجميع ترك الوقت للإنجاز والبناء بعيدا عن الصخب والفوضى وحوار “الصم”.

لكن، لكي يتم إنجاز هذا النموذج وجني ثمراته بسرعة، لا بد أن يتوفر كل قسم من أقسام الدولة على نماذج من مكاتب المشاريع (PMO)، وتكون لكل الإدارات قابلية التحول الجذري من الاشتغال “الإداري” إلى الاشتغال “المشاريعاتي” الخصب.

فمكاتب المشاريع الداخلية (IPMO) المرافقة والمواكبة لكل قسم من أقسام الدولة ستخول لهم مهمة انتقال الإدارة من التدبير بالميزانية أو التدبير المالي المحض إلى منطق التدبير بالمشاريع ومبدأ رجوع الاستثمارات العمومية PROI وتأثيرها على الساكنة. خلق وإنشاء هذه المكاتب يعد في نظرنا إجراء مستعجلا وضروريا لأجل مغرب المستقبل.

ولكي تكون لنموذجنا صبغة وطنية وذات بعد قومي كذلك، لا بد من خلق هيئة عليا كما أشرنا إلى ذلك من قبل، تكلف بتسيير المكاتب القطاعية كلها مباشرة، واستقبال مؤشراتها ومعلوماتها مباشرة لدمجها في شبكة وطنية لتسيير المشاريع مرتبطة ارتباطا مباشرا بطلبات وانتظارات المواطنين، ومتوفرة الاطلاع عبر موقع واحد يعطي البلد بأسرها.

هذه الشبكة ستكون ممونة بالمعلومات بشكل تصاعدي (المواطنينç الحكومة) وسليلي (الحكومةç المواطنين)، وسيخلق هذا عالما معلوماتيا خصبا ومنعشا للثقة بين الدولة والشعب، ومرصدا للمعلومات النافعة والصالحة للصحافة والباحثين.

إن الهدف المنشود من وراء هذه الشبكة المرتبطة هو إرساء نظام وطني موحد لاستقبال ومعالجة المطالب الشعبية على كثرتها واتساع رقعة أصولها، وإدماج جميع فعاليات الدولة من الملك إلى آخر قائد في المقاطعات أو رئيس أي جماعة قروية في البلاد في حركية تواصلية مدمجة تخدم الجميع، وتوفر ألواح مراقبة وطنية مفصلة وواسعة النطاق (Tableaux de bord) ستكون مصدرا لكل البرامج الحكومية السارية والمستقبلية، لأنها ستوفر للجميع المعلومات الأساسية والضرورية لاتخاذ القرارات على مستوى تسيير البلاد (الحكومة)، أو على المستوى الاستراتيجي الأعلى (الملك). فمثلا ستكون هذه الشبكة مصدرا لتزويد المجالس الحكومية بالمعلومات والمجالس القروية كذلك، على مستوى جميع القطاعات: العدل، الأمن، الصحة، التعليم، الثقافة…الخ.

وبذلك، سيكون المغرب قد قطع بصفة نهائية مع النظام التقليدي للتدبير المبني على منطق “اعتباطي” أو “سياسوي” أو “ظرفي”.

ماذا نستنتج؟ التواصل ضرورة قصوى عند الدولة!

إن التواصل ضرورة قصوى عند الدولة تجاه المواطنين وليس خيارا.

فقد أبانت نتائج بحوثنا أن جل الإدارات العمومية بكل أصنافها تعاني من نقص صارخ في الكفاءات المؤهلة والكفيلة بمواكبة الإدارة في تحولها نحو النموذج الذي ندافع عنه CIRM، نظام إدارة العلاقة مع المواطنين.

هذا النموذج سيكون بمثابة اللبنة الأولى والأساسية لإرساء تواصل بناء ومستدام للدولة مع الشعب. والتعامل من خلال معلومات واقعية وحقيقية بين الطرفين (الدولة – المواطن)، كفيل بإرساء الثقة وإرساء المصالحة الحقيقية بين الإدارة والمواطنين، وسيجنب المغرب مآسي كثيرة كالتي عاشها جيرانه وكثير من البلدان العربية في الماضي أو ستعيشها في المستقبل.

التحول من الاشتغال الإداري إلى الاشتغال “المشاريعاتي” هو المنطلق الأول لعصرنة الإدارة والدولة على السواء، وهو الشرط الأساسي لتقوم عملية التواصل على أسس صحيحة وثابتة.

* دكتور في علوم المعلومات والتواصل وخبير في رقمنة الإدارة

Share
  • Link copied
المقال التالي