لا حاجة للتذكير بأن الإسلام هو حاليا الدين الحي المتجدد، بدليل الدراسات الغربية التي توقعت أن يرتفع عدد المسلمين بين 2010 و2050 بما يناهز 73%، ليس فقط بسبب النمو الديموغرافي، ولكن أيضا بفضل دخول الناس في دين الله أفواجا، وهذا رغم محاولات الشيطنة المتواصلة، ووصم هذا الدين بكل ما يخطر وما لا يخطر على البال، من النقائص والاتهامات.
ولا يقف الأمر عند هذا الحد، بل انتشرت في العقود الأخيرة ظاهرة “المفسرين الجدد” الذين توضع تحت تصرفهم إمكانيات ضخمة، لتحقيق هدف وحيد يتمثل في التشغيب وتشويه كتاب المسلمين المقدس تحت عناوين براقة وخادعة، تستغل غرق أمة “إقرأ” في الجهل، كما يفعل المهندس منصور الكيالي.
……
أظن أن حالة المهندس الكيالي، تتطلب دراسة معمقة، من زوايا مختلفة، لأنه عينة معبرة عن “طبقة جديدة” تمددت في الفراغ الذي أصبح يسيطر على عقول الناس، إلى درجة أنهم صاروا مستعدين لاستهلاك أي شيء يقدم لهم.
لا أحد يستطيع تبرير هذه “الظاهرة”، لكن قوانين الفيزياء تؤكد أن الطبيعة لا تقبل الفراغ، وهناك من جند إمكانيات هائلة لملء هذا الفراغ وبـ”سوء نية”.
فحتى في أزمنة الانحطاط، التي مرت بها منطقتنا، وما أكثرها، كان الناس يمتلكون بقايا حس نقدي “استفت قلبك… وإن أفتاك الناس وأفتوك”، حتى أن أعلام “علم الكلام” كانوا يطلبون فقط بلوغ درجة “إيمان العجائز”.
فكيف أصبح “العقل” عندنا معطلا، يقبل السفاسف والترهات، ويحتفي بها، ويتقاسمها على نطاق واسع، بل ويدافع عنها وعن مقترفيها؟
مبرر طرح هذا السؤال، هو “نموذج” الكيالي نفسه، الذي تجد هلوساته ترحيبا حتى لدى بعض الأوساط “المتعلمة”، ولا أقول “المثقفة”، مع أن الرجل بلغ درجات عليا في الجهل بالمواضيع التي يتصدى لها خاصة في مجال “التفسير”.
وحتى لا أتهم بالتحامل على الرجل الذي يتكلم في غير فنه، فيأتي بالعجائب دائما، أشير فقط إلى أن أكبر مؤشر ودليل على جهله العظيم، تكراره دون ملل أو كلل لعبارة من قبيل: “لا أحد فهم هذه الآية، أو أحسن قراءة هذه الكلمة..”..
فالرجل الذي لا يستطيع أن يعرب كلمة أو جملة، حين يردد هذه العبارة، لا يستثني لا من أنزل عليه القرآن صلى الله عليه وسلم، ولا الصحابة والتابعون رضوان الله عليهم، ولا أجيال من العلماء الذين كانوا أئمة في اللغة العربية.. فلا أحد فهم النظم الكريم حتى بُعث هذا المهندس، ليبين مراد الله للمسلمين.
بطبيعة الحال، تتعطل عقول مريدي هذا الشخص، ولا يرون أنه يتهم صراحة صاحب الشريعة عليه السلام بعدم التبليغ وبعدم الفهم أصلا.
ومواقع التواصل الاجتماعي طافحة بنماذج لهلوسات الكيالي، والردود المفحمة عليها، لكن المشكل يكمن في كون المريدين يكابرون، رغم أن القرآن يدعو مرارا وتكرار إلى إعمال العقل، والتدبر والتفكر..
ولهذا لا عجب أن تجد عالما عاقلا متدبرا مثل جاري ميلر، يسلم بعد تدبر آية: “أولم ير الذين كفروا أن السماوات والأرض كانتا رتقا ففتقناهما، وجعلنا من الماء كل شيء حي”، أو مثل جيفري لانغ الذي اعتنق الاسلام بعد قراءة أقل من 40 آية من سورة البقرة، وتحديدا قصة خلق آدم، بينما تجد صاحب العقل المعطل، يرغي ويزبد ليقنع مريديه بأن جميع القراء والرواة والصحابة والنبي صلى الله عليه وسلم لحنوا في قراءة كلمة “جَدُّ” الواردة في سورة الجن، لأن “الجَد هو أب الأب”، والصحيح قراءتها “تعالى جِدُّ ربنا”.
وأتوقف هنا حتى لا أطيل، لأشير إلى مفارقة عجيبة، تتمثل في أن القرآن يسوق في قصصه كثيرا من النماذج “الكيالية” التي عرفتها الأمم السابقة.
ففي سيرة سيدنا إبراهيم عليه السلام، نجد مثلا نموذج “النمرود” (سورة البقرة) الذي حاول “التذاكي” باللعب على الكلمات “أنا أحيي وأميت”، لكنه بهت وأسقط في يده حين طُولب بأن يعكس حركة الكون ويأتي بالشمس من المغرب بدل المشرق.
كما نجد نماذج في مناظراته عليه السلام مع قومه، حيث في كل مرة يحشرهم في الزاوية الضيقة اعتمادا على أدوات التحليل العقلي.
ففي مناظرته لعبدة الكواكب منهم، اعتمد أسلوب المجاراة والاستدراج، حيث تساءل أمامهم (سورة الأنعام) عندما رأى الكوكب، ثم القمر ثم الشمس: “هذا ربي؟”.. قبل أن يبرهن لهم على أن هذه الأجرام لا تصلح أن تكون آلهة، لأنها ناقصة وقاصرة، وعاجزة، ولا إرادة لها..
وفي مناظرته لعبدة الأصنام منهم، اعتمد قواعد المنطق (سورة الأنبياء) بعد أن حطم الأصنام، واتهم الصنم الأكبر بهذه الفعلة الشنيعة، ثم طلب من الحضور توجيه السؤال لهذه الأصنام نفسها، “فنكسوا على رؤوسهم: لقد علمت ما هؤلاء ينطقون”.
لكن عوض الرجوع للحق، التجأوا للمكابرة .. وبقية القصة معروفة.
إذاً في سيرة أبي الأنبياء عليه السلام، كثير من النماذج “الكيالية” التي ترفض النزول عند حكم العقل، الذي تدعي استعماله، بل تحتكره، مع أن “التجربة” علمتنا، أن المذهب “العقلي” في منطقتنا، مهمته الوحيدة هي رفض الوحي والطعن في النص الشرعي، وقد رأينا كيف أن هناك من “المفسرين الجدد” من يدافع عن نظرية التطور، التي تخلى عنها الوسط العلمي الذي ولدت في أحضانه، بعد العجز عن إيجاد الحلقة المفقودة بين “القرد” و”الإنسان”، بينما وجد هؤلاء “المفسرون” الحل في الادعاء بأن قصة آدم عليه السلام كما وردت في القرآن هي مجرد مجاز.. ولا علاقة لها بالحقيقة..
ختاما..
لا ينبغي الاستخفاف بالدور الخطير الذي يقوم به هؤلاء، لأن آثار أعمالهم التخريبية على العقول ستظهر بعد زمن.
تعليقات الزوار ( 0 )