Share
  • Link copied

الفلسفة ونقد التقنية

هناك سينما، وهناك فلسفة، بيد أن الجمع بينهما يظل محيرا، وبإمكان هذه الحيرة أن تؤدي إلى صياغة سؤال الماهية، باعتباره طريقا يقود إلى فهم هذه العلاقة الغريبة بين الفلسفة والسينما، من أجل رفع الالتباس وتبديد الغموض، لأنه عندما ينتقد الفيلسوف التقنية، والسينما تقنية، ويمجد الفن، والسينما فن، فإنه يضعنا أمام تصادم مع فلسفة السينما، ولذلك يتعين علينا تمزيق الحجاب، وجعل الفكر يعانق الحقيقة، ويستجيب لنداء الوجود، هكذا ستصبح فلسفة السينما ممكنة، فبأي معيار يمكن للفيلسوف أن ينتقد التقنية؟ وما الذي يجعله يحب السينما رغم نزعتها التقنية؟ هل لأنها تحتمي وراء الإستطيقا؟

من العدل أن نصف كل معرفة تعيد الفكر إلى أصله، بأنها معرفة بالماهية، وتحديد ماهية السينما بأنها تقنية ذكية تستثمر الفن في الرؤية وإبداع الصورة والموسيقى، سيجعلها تمارس الخدعة بلغة غودار، إنها تشبه الحب الذي نمارسه من أجل الولادة، والشاهد على ذلك أن فيلمه «أحبك مريم» كان قريبا من فلسفة نيتشه، لأنه استطاع أن يتمرد بواسطة الحقيقة كمطرقة على الأصنام، حين اعتمد جمالية الصورة، وخدعة التقنية السينمائية، ليفكك الحلم الزائف الذي نتجت عنه أسطورة الولادة من فراغ، التي رسمها ليونارد دافينشي في لوحته «العذراء» حين رمز إلى الحقيقة بطائر العقاب: «لأن هذه الطيور كلها إناث، الريح تخصبهن بلغة فرويد». لكن مع ذلك نتساءل، فما موقف الفلسفة من التقنية؟ وإلى أين تقود الإنسانية؟ وهل تهدد أصل الفن؟

في محاضرته «ما التقنية» يتساءل هايدغر عن مستقبل الإنسان أمام الخطر الذي يهدده من خلال التقنية، لأنه إذا كان نسيان الوجود قد تم بواسطة الميتافيزيقا التي نصبت الموجود مكان الوجود، فإن كينونة الإنسان أصبحت في خطر، لأن التقنية ستمزقها بعنفها، هكذا ستنتهي شاعرية الإقامة على الأرض، ولم يعد بإمكان الشعر أن يكون أوفر حظا من البراءة، ولا لحذاء فانغوغ تلك الشحنة الأنطولوجية التي تنقل إلينا معاناة الفلاح في الوجود. ولعل التقنية هي ما يهدد بموت الفن، فالتقنية أفقدت العالم حميميته، وحكمت على الإنسان بنسيان أصله، وعدم الاستماع إلى نداء الحقيقة .
وبما أن التقنية ستقضي على ماهية الإنسان، فإن الحلم الهيغلي بموت الفلسفة والتاريخ، سيتحقق على يديها، بيد أنها لن تستثني حتى الشعر، الذي قال عنه هيغل بأنه يقاوم الموت: «لن يوجد في ما بعد لا فلسفة ولا تاريخ. ففن الشعر وحده سوف يعيش أطول من العلوم والفنون». والحال أن هايدغر سيجعل من التقنية، المجرم الذي سيقوم باغتيال الفن، ويترك الإنسان غريبا في هذه الأرض، دون جذور، لأن الفن هو الذي يكشف عن أساس النمو الروحي للإنسان، وبلغة هايدغر أنه النشاط الروحي للروح، وفي موته موت للإنسانية، هكذا ستصبح الحياة مجرد غيمة محبطة ترسم قوس قزح.

فماهية التقنية عنيفة، تسعى إلى تمزيق كينونة الإنسان .ففي رسالته حول النزعة الإنسانية، يؤكد هايدغر على أن إنسانية الإنسان تعتمد على ماهيته: «لكن كيف يمكن تحديد الماهية تحديدا صحيحا؟». ومن أجل الإجابة عن هذا السؤال يقترح وجهة نظر الفينومينولوجية، التي ترى أن الاختلاف الأساسي بين التناول العلمي للحقيقة، والتناول الفلسفي يتحكم في مستقبل الفلسفة كمسكن للروح، تستضيء بنور الشعر، ولذلك فإن الفلسفة والشعر مولعان بخدعة اللغة، كمأوى للوجود الإنساني، بيد أن شراسة التقنية، أرغمت الفلسفة الحديثة على الشعور بخوف جارف من جراء فقدانها لهيبتها وقيمتها، لو لم تجعل من نفسها علمية، لكن مثل هذا التحول لا بد أن يتضمن تنازلا عن ماهية الفكر لصالح التقنية، التي لا تفكر، فكيف يمكن للتقنية التي لا تفكر أن تستعبد الفكر؟ وهل هذا هو المعنى الذي يفهم من عبارة غودار: نريد السينما التي تفكر؟

السينما إذن ستنفجر، ما دامت ماهيتها مركبة من التضاد، أو بإمكانها أن تخلق ذلك التناغم، حين يضع كل ضد نفسه رهن إشارة الضد الآخر، كما هو الحال بالنسبة للعشاق، فالفن هو ما يقاوم الموت، بلغة دلوز، والتقنية هي ما ينتج الموت، بلغة هايدغر، ولذلك لا بد من التساؤل عن تأثيرهما في مستقبل الإنسان، خاصة أن: «الإنسان، كما تبين في الوجود والزمان، ملقى في حقيقة الوجود، لذلك، ففي وجوده الخارجي لا بد أن يكون حارسا للوجودية». ومن الحكمة أن يمنع التقنية من التسلل إليه ليلا وهدمه، ولعل هذا الراعي للوجود أصبح يحب السينما، على الرغم من أنها فن وتقنية، وربما تكون نزعته الإنسانية هي ما يدفعه إلى السماح للسينما بالدخول إلى الوجود الذي يحرسه، فهل يعني ذلك أنه سيمسي خائنا لمهمته كحارس للوجود؟ وإلى أين ستقوده هذه الخيانة؟ هل هناك أكثر من الحكم عليه بالموت؟
يتحدث هايدغر عن الإنسان المعاصر الذي تخلى عن أصله قائلا: «هذا الأقرب، أصبح في هذا العصر هو الأبعد، لأن الإنسان الحديث قد قطع علاقته بالوجود في ثرائه وصفائه وبكارته، ولعل هذا ما جعل منه كائنا بلا جذور، غريبا عن العالم وعن نفسه، يتحرك في فراغ العدم». فبنسيان وجوده ينسى الإنسان حقيقته، ويظل تائها في العالم وسط الدهماء، لا يأمل في الخلاص من هذا الليل، الذي ينشر ظلامه على العالم، ولا يترك نور الشمس يشرق عليه مرة ثانية، ولذلك سيفقد ملكة الفكر، ولن يتساءل عما إذا كانت التقنية تهدد وجوده على الأرض؟ أم أنها تحفزه على الإقامة الشعرية في الاستطيقا؟

مهما يكن أمر هذا التأويل لماهية التقنية في علاقته بالنزعة الإنسانية غامضا، كما تركه هايدغر، الذي كان يختفي وراء قلعته اللغوية، فإن السينما، حسب ميرلوبونتي هي بالأساس اختراع تقني لا مسؤولية للفلسفة تجاهه، إنها مستقلة بذاتها تقنيا، تمارس دلعها، لأنها تحولت إلى ذلك المنقب الجديد عن الثروة، ومن أجل إنتاج علاقة جديدة بين الفلسفة والسينما، يجب أن يضاف إلى اختراعها التقني اختراعا فلسفيا يوجه رؤيتها للعالم، كما فعل غونغليم بتميزه لاختراع المنظار في علم الفلك، واختراعه التقني، وبهذا الاختراع الجديد، استطاعت السينما أن تنتج أفلاما عظيمة .ينبغي إنقاذ السينما بالسينما، ولعل هذا هو الاقتراح الذي دافع عنه الفيلسوف ميرلوبونتي، لأنه ما دامت السينما قد اخترعت ذاتها في التقنية، فإنها انطلقت من فكرة فلسفية للاختراع، ولذلك فإنها تستحق حماية الفلسفة، وأن تمتلك الحق في الدخول إلى الوجود الذي يحرسه الفيلسوف، ولعل هذا ما عبر عنه غودار بقوله :»أنا لست سوى صورة تسلل إلى الصورة».

Share
  • Link copied
المقال التالي