Share
  • Link copied

أطروحة أكاديمية ترصد تحول العلماء والسياسة في عهد الملك محمد السادس

صدر للباحث في العلوم السياسية عبد الرحمن الشعيري منظور كتاب بعنوان “علماء الدين والدولة، مساهمة سوسيو-سياسية في تفكيك الخطاب والممارسة” من منشورات مركز ابن غازي للأبحاث والدراسات الاستراتيجية، دار عالم الكتب الحديث الأردنية 2020، حيث توزعت مضامين الكتاب على ثمانية فصول منتظمة في قسمين مع تقديم

واستطاع الكاتب أن يجمع في نقاشه ومراجعه “حقولا معرفية متنوعة تداخلت بين علم التاريخ والسوسيولوجيا، وفلسفة الدين بالعلوم السياسية وعلوم الشريعة” حسب ما ذهب إليه الباحث إدريس مقبول.

عالج الكتاب قضية العلماء والسياسة في المغرب الراهن في حقبة زمنية تمتد من تولي الملك محمد السادس الحكم سنة 1999 إلى سنة 2013 من خلال دراسة أكاديمية لموقع نخبة العلماء في النسق السياسي وحجم مشاركتهم في النقاش العمومي والحياة السياسية الوطنية، وكشف مدى تأثر نخبتهم بسياسة الدولة في المجال الديني القائمة على ثلاثية: الضبط والتقنين والمأسسة.

 يأخذك الكتاب على متن صفحاته في رحلة شيقة عبر منعرجات السلوك السياسي للعالم المغربي المتوزع في مجمله بين نماذج ” عالم السلطان” و” سلطان العلماء” و”العالم المنزوي عن الشأن العام” كما يكشف عن طبيعة حضور العلماء في الأجندة الملكية وخطابها الديني، وكذا في مراسيم البيعة والدروس الحسنية، ثم يستنطق الكاتب عبر تقنية تحليل مضمون الخطاب السياسي عن تمثل الفاعل الحزبي لدور العلماء في الحقل السياسي الذي تبقى فيه المسألة الدينية برمتها من مشمولات المجال السيادي للملك-أمير المؤمنين.

العلماء في المغرب: نخبة بصيغة الجمع

رغم المظاهر العامة التي توحي بأن النخبة الدينية في المغرب موحدة في رؤيتها الدينية العامة لثلاثية: العقيدة الأشعرية والمذهب المالكي والتصوف الجنيدي، إلا أن الباحث الشعيري منظور يكشف عن تعددية جليّة للنخب الدينية وللعلماء كأهم مكون من مكوناتها، فبالمعيار التاريخي المتمثل في تشكل الدولة الوطنية الحديثة، يضعنا الكتاب أمام نخبة دينية تقليدية تتألف من (الملك-أمير المؤمنين،مستشارو الملك في الشؤون الدينية،وزير الأوقاف والشؤون الإسلامية،شيوخ الزوايا، الشرفاء،الفقهاء والخطباء ثم الطُلبة) بينما تتحدد النخبة الدينية الحديثة في(قادة الحركات الإسلامية، مرشدو جماعة الدعوة والتبليغ، شيوخ التيار السلفي النسائيات الإسلامية المرشدات والواعظات، المثقفون الدينيون).

أما نخبة العلماء فهي متعددة، ويعزو الكاتب ذلك لعوامل عدة منها ما يرجع لاختلاف نمط التكوين الشرعي للعالم المغربي بين النمط التقليدي على يدي الشيوخ وبين التكوين العصامي والجامعي في الدراسات الإسلامية، أو لتباين السلوك السياسي في علاقته بالدولة وسياستها المختلفة وبالأخص في تدبير الشأن الديني، وكذا لتفاوت الوضعي الطبقي الاقتصادي لعلماء الدين في علاقته بالمال العام والوظيفة الدينية الرسمية، وانطلاقا من هذه المدخلات يستنتج الكاتب بأن العلماء الرسميين ينقسمون إلى في ممارسة وظيفتهم الدينية إلى: “علماء إداريون” في المجالس العلمية و إلى: “علماء أكاديميون” ينتظمون في الرابطة المحمدية، كما أن علماء الحقل الديني المضاد صنّفهم الكاتب إما إلى: “علماء حركيون” من أبرزهم الراحل عبد السلام ياسين وأحمد الريسوني والراحل إدريس الكتاني ومحمد المغراوي أو إلى: “علماء  فرديون” كان لهم فعل ديني وسياسي بشكل فردي في الفضاء العمومي من أمثال عبد الله التليدي ومحمد بوخبزة وعبد الباري الزمزمي، ويتشوف  الفعل الديني لهؤلاء العلماء في الحقل الديني المضاد بحسب الشعيري منظور إلى النموذج الإسلامي المثالي للعالم الناصح الملتزم بقيم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كلّ حسب ظروفه الذاتية ورؤيته السياسية.

وضمن هذا التنوع الذي تشهده نخبة علماء الدين المغاربة، يخلص الكاتب إلى صعوبة تحديد بدقة من هو عالم الدين اليوم بالمغرب؟ نظرا لتداخل مصطلح العالم مع مفاهيم أخرى مثل “الداعية” و”الفقيه” و”المثقف الديني” ثم لوجود التوظيف السياسي لمفهوم العالم لما يختزنه من احترام لدى عامة الناس، ومن ثمة، عرّف الكاتب “العالم” بكونه “الشخص الذي يمتلك المركز الاعتباري والسلطة الرمزية في المجتمع لتوفره على رأسمال العلم الشرعي أساسا”. كما أن هذا الاضطراب في صفة العالمية في الحقل الديني المغربي يرجع كذلك بالدرجة الأولى إلى أزمة وجود العلماء ذوي التأثير الشعبي بفعل تراجع نجاعة مؤسسات تكوين العلماء وتعسر تجدد دوران نخبة العلماء بالسلاسة المنشودة، وقد أبرز الكاتب نموذجا ميدانيا لذلك من خلال حالتي الأسرة الصديقية بطنجة والأسرة الكتانية بفاس.

العلماء وتحولات الدين والسياسة في عهد الملك محمد السادس

عرف المغرب بعد أحداث 11 شتنبر 2011 بالولايات المتحدة الأمريكية و 16 ماي 2003 بالدار البيضاء انخراطا قويا للدولة في إعادة ضبط المجال الديني، من خلال تقنين ومأسسة كل أنشطته وبالأخص منها ما كان تاريخيا خاضعا لسلطة العلماء مثل خطبة الجمعة والفتوى والتعليم الديني، فعلى سبيل المثال أدت الفتوى التي تزعمها العلامة إدريس الكتاني بتحريم مشاركة المغرب في الحلف الأمريكي للحرب على الإرهاب إلى رد فعل قوي من قبل الدولة إلى حدّ الذي اعتبر فيه الملك محمد السادس في حوار مع مجلة Paris-Match  الموقعين عن هذه الفتوى “بأنهم لا يملكون السلطة والشرعية لإصدار الفتوى التي يختص بها المجلس الأعلى للعلماء،والذي أترسه أنا”.

كما استحضر الكتاب عدة صور من الحضور السياسي للعلماء منذ لحظة حضورهم في مراسيم بيعة الملك محمد السادس يوم الجمعة 23 يوليوز1999 مرورا بمعارضتهم الشرسة لخطة إدماج المرأة في التنمية بدعم من وزارة الأوقاف والإسلاميين، ثم تأييد المجلس العلمي الأعلى للتصويت بنعم على دستور2011 من خلال خطبة وزعتها وزارة الأوقاف على جميع مساجد المملكة،وهذا ما جعل الكاتب يخلص على أن الفعل السياسي للعلماء يتسم في مجمله بالنزعة الهوياتية، مع تسجيل غيابهم الكبير عن الإسهام في النقاش العمومي حول الإشكالات السياسية والتنموية وقضايا الحريات العامة، و هو بدا جلياّ في مرحلة الفعل السياسي لحركة 20 فبراير سنة 2011 وما أعقبه من انخراط لمختلف النخب الوطنية في اجتراح الأجوبة الكبرى في منعطف سياسي مفصلي في التاريخ السياسي للبلاد، وهو الأمر الذي اعتبره الكاتب من مخرجات سياسة الدولة في الاحتكار الشامل للحقل الديني، والذي صار من أبرز عناوينه دسترة المجلس العلمي الأعلى وجعله الجهة الوحيدة لإصدار الفتوى المعتمدة رسميا، مع التنصيص الدستوري  والقانوني على تمثيلية العلماء في عدة مؤسسات دستورية وفق رؤية تتأسس على توظيفهم كسند شرعي للنظام السياسي، دون السماح لهم أن يتحولوا إلى فاعلين سياسيين.

 موقع العلماء في السياق الديمقراطي

دعا الكاتب ضمن طرحه الاستشرافي لدور علماء الدين في السياق الديمقراطي، إلى ضرورة تمكين “مؤسسة العلماء” من الاستقلالية المالية والإدارية عن وزارة الأوقاف، لتتفرغ على صعيد الحقل الديني(الدعوة) إلى بلورة اجتهاد متنور يصون اللحمة الدينية للمجتمع المغربي، التي تتعرض لأكثر من أي وقت مضى لمخاطر التشيع والتنصير والتشدد الوهابي والإلحاد، وذلك من خلال مبادرات تجديدية في مجالات الدعوة والفكر الإسلامي والتعليم الديني والإفتاء،كما اقترح الشعيري منظور أن تتولى مؤسسة العلماء الإشراف على مركز وطني لتكوين العلماء لتجاوز أزمة وجود العلماء في المغرب الناتجة عن شيخوخة السلك العلمائي، ووفاة معظم العلماء ذوي الـأثير الشعبي والكاريزما الأخلاقية. أما على صعيد الحقل السياسي( الدولة) فاقترح الكاتب الاستفادة من الخطاب الديني للعلماء في تدعيم الديمقراطية والمشاركة السياسية وتخليق الممارسة السياسية، من خلال إعمال مقاربة تشاركية تحرص على حضورهم في المؤسسات الدستورية للحكامة  والخبرة والاستشارة جنبا إلى جنب مع النخب الوطنية الفاعلة و ذلك فق نموذج سياسي يضمن حضور المرجعية الإسلامية في صلب السياسات العامة للدولة بشكل مخالف للتصور الثيوقراطي المتخيل في الفقه السياسي التقليدي “لدولة العلماء” أو الممارس مثل ما هو حاصل في التجربة” آيات الله” في إيران.

طُرفة من الكتاب: مولاي أحمد العلوي والعلماء

ضمن سياق رصد مسار التحول في تعامل السلطة مع منصب الأمين العام في تجربتي رابطة علماء المغرب والرابطة المحمدية للعلماء، والذي انتقل من منطق التدخل السياسي المباشر للقصر الملكي في ماضي الرابطة، إلى سياق الإجراء القانوني من خلال آلية التعيين بواسطة الظهير الملكي في تجربة الرابطة المحمدية للعلماء، أورد الشعيري منظور في كتابه الشيق واقعة مثيرة لتدخل القصر الملكي من خلال مولاي أحمد العلوي في اختيار  الشيخ المكي الناصري خلفا للعلامة عبد الله كنون، ففي مقابلة للباحث مع الأستاذ عبد السلام الكنوني عضو رابطة علماء المغرب سابقا بطنجة، كشف هذا الأخير بأن علماء الرابطة عقدوا مؤتمرا استثنائيا لاختيار خلف لعبد الله كنون  في 28 أكتوبر 1989 بمدينة طنجة، وفي بداية أشغال المؤتمر تناول الكلمة مبعوث الملك الحسن الثاني مولاي أحمد العلوي، فقال لجمهور العلماء الحاضرين بأن ” الشيخ المكي الناصري هو أهل لمنصب الأمين العام خلفا للشيخ كنون، وأردف قائلا، نحن في دار المخزن نقول: إذا مات الملك، عاش الملك، فإذا مات الشيخ عبد الله كنون فالشيخ مكي الناصري هو الأمين العام لرابطة علماء المغرب”.

Share
  • Link copied
المقال التالي