Share
  • Link copied

العقل وحده لا يكفي مجتمعات جديدة … عقول جديدة

حين نتحدث عن إعادة تشكيل المجتمعات، بناءاً على طرح “سلوكي” جديد، فإن هذا يتفق مع الخطط الساعية لبناء أساساتها على أرضية أخلاقية، إذ لا يمكن الإعلان عن مشروع بضخامة التغيير والتجديد والتطوير الإنساني، بدون العودة لأعماق هذا الإنسان والعمل على بنائه الفكري.

وأدل ما يجعلنا ننطلق من لبنة “الفكر”، ما أثبته التاريخ على امتداده من تسخير القوة العقلية التي تميز بها بني البشر عن دونهم، في إفساد الأرض بدلاً من إعمارها، مما وضع “غير العاقل” في صورة متفوقة عنه من الناحية “الأخلاقية”. إذ تنعدم قيمة العقل إذا ما تلاشت صور “إداراته”، وبرزت فروقات ملكته. وحتى يتمكن العاقل بحق من إحداث تغيير ملموس في الاستخدام البشري للدماغ، والقدرة على الاستفادة من كونه “عاقلاً”، فإن هذا يتعدى تشابهه بأحد الحلول التكنولوجية من حيث سرعتها وآنيتها، ويستحيل تطبيقه ب”كبسة زر” على تمدد بشري شاسع، يحمل ما يحمله من بناء سلوكي وبيولوجي “متراكم الإرث”، ومتقلب العادات.

إن مشروع البناء العقلي المنشود، يتشابه وموسم الزرع والحصاد، المعوز لتهيئة تربته وتغذيتها، ونشر البذار، وريها، واتخاذ كافة الإجراءات التي تحول دون فسادها، إذ هي عملية تبدو هينة ومتصبغة ب”فطرية الطبيعة”، ولكن أدنى إهمال فيها، أو عاصفة مفاجئة، قد تتسبب بكساد الحصاد لذلك الموسم،  وكذلك الحال في غرس “بذور العقل”، فهي تبدو بذوراً سليمة وملائمة “بالفطرة”، ولكنها بالحقيقة تتعطش  للرعاية على المستوى الأول، وفيه تغذية الحواس بحيث تكون مسلكاً ثرياً في نقل المعلومات وتشكيل الوعي في الدماغ، كالقراءة المفيدة، واكتساب المهارات الحسية، وغيرها. وأما المستوى الثاني، فيتمثل في انتقال وانعكاسات هذه التفاعلات مع الطبيعة المحيطة كأفكار وقناعات، فهي تصور طريقة التفاعل بين ذات خارجية وذات داخلية مولدة للفكر، الذي ينتهي لسلوك وفعل يعاش.

وعليه، فإن الاشتغال يتركز في مرحلة “ما قبل نضوج السلوك”، والكيفية التي يتم استعمال الحواس فيها من بصر، وسمع، ولمس، بشكل خاص، فحين نتعلم منذ نعومة أظفارنا القراءة، لزم أن نجد المران المناسب لكيفية تلك القراءة، وأبعادها، وأنماط تشكيل المفاهيم المبنية عليها، وإدراك ثمار هذه المرحلة التي تفتح لنا آفاقاً واسعة من توليد وتلاقي الأفكار.

ومن جانب موازٍ فليس بأدل على مكانة القراءة  من ابتداء التنزيل القرآني بأمر القراءة، تنويها، ودلالةً على دور القراءة في تشكيل الوعي والدراية المبنية على حقائق لا متناقضات و”خرافات”، فقال المولى سبحانه وتعالى: “  اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ[1].

إن إمعان النظر في دور القراءة وحدها (كأداة حسية)، وانعكاساتها العميقة في تنمية المعارف وتطور المجتمعات، بل وتشكيل مسار العقل الإنساني، يتعدى الاعتراف بأهميته لبناء خطط محكمة تدير هذه العملية، سيما أن التدريب على القراءة وتثبيتها كأساس في سلوك الإنسان يعتبر اتصالاً مباشراً مع الأداة النقدية الفاعلة، والمبنية على الوعي بالتاريخ، وما فيه من مبادئ ومعطيات، والتعمق في فهم المجريات، والتحولات مما يدرأ بأنائنا عن هاوية  “التقليد الأعمى”، والتغريب، والتخلي عن الهوية، وبالتالي يبدو تقويم الحركة الثقافية والمعرفية، مفتاحاً مناسباً لتفويت فرص التطرف والإرهاب التي عاثت الفساد في البحبوحة العقلية “الهشة” لدى الكثير من الشباب، وبالتالي يبدو كل من التعصب، والكراهية، ورفض الآخر، والانعزال أفعالاً وخصال مرفوضة ومذمومة عند العقل المتفتح على المعارف والعلوم، والذي اعتاد إعمال عقله بسراج نقدي معتدل.


[1]  القرآن الكريم، سورة العلق، آية رقم: 1.

Share
  • Link copied
المقال التالي