شارك المقال
  • تم النسخ

العربي امرابط يكتب.. تساؤلات على هامش “التطبيع”

لـــ”التطبيع” حمولات مختلفة اختلاف التوجهات السياسية والفكرية، والدينية، والاقتصادية والمصلحية، والإعلامية والعامية -القائمة على التصورات الشائعة-، وغيرها(وسوف أستعمل المزدوجتين كلما تعددت حمولات كلمة ما).

من المرجعيات الفكرية المرجعيات التاريخية. في هذا الصدد، هناك على الأقل صنفان. الصنف الأول علمي دقيق، بحث معمق في الجذور التاريخية للمشكل الفلسطيني-الإسرائيلي وأسس شرعية أحقية إقامة دولة يهودية أو عبرية أو إسرائيلية من عدمها. ”يهودية أو عبرية أو إسرائيلية” لأن هناك من يميز بين الثلاث استنادا لأبحاث تاريخية تقول أن ”عبرية” تنصرف إلى اللغة حصرا، وأن الإسرائيليين الأوائل كانوا يعتبرون اليهود طائفة مرتدة… وكان كل هذا في اليمن وليس في فلسطين التي لم تكن أبدا دولة لبني إسرائيل. الصنف الثاني هو ما شاع فيما بعد من كون دولة إسرائيلية أقيمت أكثر من ألفي سنة خلت في فلسطين وهُجِّر أهلها قسرا ولم يتخلوا أبدا عن رغبتهم أو حقهم في العودة وإعادة بنائها، وهذا ما عملوا عليه، خاصة منذ قيام الصهيونية التي أسس لها ثيودور هيرتزل Theodore Hertzl في أواخر القرن التاسع عشر. وقد انتشر هذا الطرح وأصبح سائدا حتى في الأوساط المتعلمة والمثقفة والمسؤولة في الكثير من الأقطار، منها أقطار عربية.

وكلا الطرحين لهما أتباعهما بغض النظر عن الديانة أو الجنسية وما إلى ذلك، إذ نجد من المؤسسين والمدافعين عن الأول يهودا غير إسرائيليين وإسرائيليين يهودا وغير يهود، منهم من أعلن خروجه عن اليهودية وأتى بحجج تبين زيف وخطورة الأطروحة الصهيونية (المفكر شلومو صاند (1)، منذ سنوات، واليوم أفراهام بورغ، رئيس سابق للكنيسيت، رئيس الدولة لفترة انتقالية…(2)، ومن لا زال يقاوم الصهيونية ويتبرأ من إسرائيل كونها تمثل الديانة اليهودية ويدعو إلى زوالها، ومن يعارض سياسات الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة، دون الطعن في حق إسرائيل في الوجود، بعد أن برهن معتمدا على وثائق تاريخية حكومية أن هذه الحكومات لم تبحث أبدا عن السلام مع العرب والفلسطينيين (أمنون كابيليوك (3)) باستثناء الاستسلام تحت غطاء ”السلام”، ومن لا يزال يدعو إلى سلام حقيقي مع الفلسطينيين من باب العدل وحقوق الإنسان دون استناد لأي تاريخ، ومن يتنبأ بزوال إسرائيل في غياب هذا السلام وتعمق الشرخ الاقتصادي والسياسي والعقائدي بين الإسرائيليين اليهود أنفسهم بفعل توجه سياسات اليمين الإسرائيلي نحو الفاشية والنازية الجديدين…

كما نجد من بين ”النخب” العربية والمغربية تحديدا –وإن بدا لي أنها أقلية فلست على يقين في غياب دراسة أو تحقيق أو سبر للآراء-، دون الحديث عن النخب الغربية وغيرها، من يؤمن بالطرح الثاني. وهذا من المسلمات لا داعي للغوص في أسبابه ومسبباته. ولن يكفي القول بأن إقامة ”دولة وطنية يهودية” اقترح لها في البداية أقطار أخرى من بينها الأرجنتين وأوغندا ولم يؤسسها اليهود الفلسطينيون بالدرجة الأولى وإنما يهود من أوربا أساسا… ولا يجدي التذكير بأن الحقيقة الأولى جاءت، من بين أشياء أخرى، على لسان أكبر شخصية صهيونية بعد هرتزل ربما – و”أهل مكة أدرى بشعابها”-، دافيد بن غوريون (دافيد غرين في الأصل) سنة 1938 : ”القتال وجه واحد من الصراع والذي هو في حد ذاته سياسي. وسياسيا نحن المُعتدون وهم يدافعون عن أنفسهم. عسكريا، نحن في وضع دفاعي متفوق، ولكن سياسيا هم متفوقون‘’ (4). واستطاع الإسرائيليون تدريجيا ”قلب الآية” وقلب الوضع…
وربما لا ينفع الرد على الذين يبررون أحقية التوسع الإسرائيلي المتواصل بضم أراض فلسطينية وسورية، إلخ.

-أقرت الأمم المتحدة والمغرب بعدم شرعيته- يبررونه على أساس أن ”العرب” هم من شن الحرب على إسرائيل سنة 1967 وما عليهم إلا أن يتحملوا عاقبة ما فعلوا، ناسيا أو متناسيا أو جاهلا لقواعد القانون الدولي، وأكثر من هذا دون البحث المعمق في حقيقة من كان السباق إلى العدوان… الرد على هؤلاء بمجرد سؤال بسيط: إذا كان ”العرب” فعلا هم من شن الحرب على إسرائيل، ولو أن ”الزعيم” الفلسطيني أحمد الشُّقَيري صرخ على أمواج إذاعة ”القاهرة-صوت العرب” –مثل ”عرب” آخرين- أنه كان سيرمي باليهود (ليس بالإسرائيليين) في البحر، وهذا واقع… فما ذنب مئات آلاف الفلسطينيين المسالمين الذين لم يحملوا أي سلاح ورغم ذلك اغتصبت حقوقهم عنفا، تقتيلا وتنكيلا؟ منذ بداية قيام إسرائيل، من طرف اشتيرن وهاجانا… كما لا يجدي التذكير بأن بن غوريون -وغيره من مؤسسي إسرائيل- صرح سنة 1954: ” الحفاظ على الوضع الحالي غير مُجد. لقد قررنا إقامة دولة ديناميكية مُنْكبَّة على الخلق والإصلاح والبناء والتوسع‘’ (5)… رغم أنه كان قد كتب عكس هذا وذاك سابقا… ولم يحترمه. هي السياسة غالبا في الكثير من بقاع العالم.

وربما لا ينفع القول بأن التاريخ لا يعيد نفسه، بحيث إذا نظرنا إلى مَثَل إسرائيل فإن التاريخ أعاد نفسه بشكل ما. وربما لا ينفع القول بأن التاريخ لا يعيد نفسه، بحيث إذا نظرنا إلى مَثَل إسرائيل فإن التاريخ أعاد نفسه بشكل ما.
ولكن، ربما تجدر الإشارة أيضا إلى أن تاريخ الشعوب والأمم، في الكتب والمدارس، كما في أذهان الشعوب نفسها، لا تصنعه الأحداث ولا الحقيقة وحدهما، بل تصنعه الأقلام -وليس أقلام المؤرخين النُّزَهاء وحدهم-، والصور الذهنية والفوتوغرافية، والسينمائية والرسوم المتحركة والألعاب الفيديوهاتية، والأقوال والحكايات والأساطير والخرافات… ولكي يستطيع المرء التمييز بين الغث والسمين، والصالح والطالح، ولو بنسبة معقولة، يجب عليه بذل جهد كبير. وربما يجدر القول أن التاريخ غالبا ما لا يرحم.

عودة إلى ”التطبيع”، طلعت بعض مواقع التواصل الاجتماعي بفيديو للضابط الإسرائيلي أدرعي المتحدث بالعربية يشرح لـ”لعرب” (ثقافة وليس عرقا) لغويا معنى التطبيع على أساس طبع وطبيعة الإنسان التي هي على حد قوله السلم والسلام، ولذا فالتطبيع مع إسرائيل هو العودة إلى الحالة الطبيعية وإلى السلم مع إسرائيل. وأصبح الشرح اللغوي سياسيا. علميا، أنثروبولوجيا، طبيعة الإنسان مزدوجة سلمية-عُنفِية –وما إلى ذلك-. وإلا لما عرفت البشرية كل الحروب –بغض النظر عن أشكال العنف الأخرى- والتي أكد المختصون في علمها (البوليمولوجيا) أن فتراتها أكثر بكثير من فترات السلم منذ بداية التاريخ أو اختراع الكتابة. ولو كان الأمر كما قال أدرعي لما تسابقت الدول والإنسان عموما قبل نشأتها إلى تطوير مطرد ومهول للأسلحة… ولما كانت الحروب ميادين إبداعاتها تطويرها وتجريبها.
والغريب في الأمر أنه –حسب علمي- تداولت شبكات التواصل ”الاجتماعي” هذا الفيديو أكثر مما تداولت فيديو يشرح فيه وزير خارجيتنا أن استئناف العلاقات المغربية-الإسرائيلية من نقطة إيقافها لا يعني ”التطبيع” أبدا. وإذا كان هذا الفارق في تداول الفيديو الأول والثاني حقيقة، فإنها حقيقة مرة، تنم عن مدى تفوق آلة الإعلام الإسرائيلي، ومدى وقعه على أذهان ”العرب”.

كما طلع علينا في نفس المواقع نص بالعربية يقول –باختصار شديد- إنه إذا كانت مجموعة المحامين، بن عمرو، السفياني والجامعي،وغيرهم، الذين تقدموا لمحكمة النقض بدعوى ضد القرار المغربي بـ ”التطبيع” –تجاوزا لما قاله وزير الخارجية، وإذا ما اعتبروا أن هناك ”منكرا”- فما على هؤلاء إلا أن يذهبوا إلى ”هناك” ليحرروا فلسطين بالمقاومة المسلحة. ونحن مسلمون في أغلبيتنا الساحقة، في دولة مسلمة بمقتضى الدستور، ومَلكنا رئيس لجنة القدس، تبنى حل الدولتين، إلخ. أما كان على من كتب هذا أن يتذكر أن الإسلام دين حق وعدل… وأن يعمل بالآتي: ”من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، وإن لم يستطع فبلسانه، وإن لم يستطع فبقلبه”؟ أما كان له أن يعلم بأن إحقاق حق لا يتم بالضرورة بالقوة؟ وأن أي مجتمع يقوم أفراده بأدوار ومهام مختلفة يُكمل بعضها البعض؟ من يصنع السلاح لا يحارب بالضرورة في ميدان المعارك. وإلا لما وجد المحارب سلاحا. وهلم جرا بالنسبة لمن يحضر الأكل والشرب والملبس… وعلى أي، ألا يعلم أن كلمة الفصل الأخير في هذا هو للمحكمة؟ أم أنه يريد قطع دابر فكرة دولة الحق والقانون؟

وأخيرا وليس آخرا، طلع نيتانياهو على فيديو يعبر عن فرحته بـ”التطبيع” أمام خريطة المغرب… لا زالت تحمل خط فصل الصحراء عنه. و”الكل” يعرف دهاء الوزير الأول الإسرائيلي، من السذاجة ألا نتساءل عن مغزى هذه الطلعة. هل يريد في الواقع ”تطبيعا” مع مغرب بدون صحرائه؟ أم يريد التريث من أجل المساومة والتفاوض فيما يمكنه أن يحقق من مكاسب قبل أي ”تطبيع”؟ وبالنظر إلى تصريح السيد ناصر بوريطة وزير الخارجية، السابق ذكره، هل كان هذا ردة فعل في هذا الاتجاه؟ لا ”تطبيع” إلا كاملا، بما تريده الحكومة الإسرائيلية؟

وهل يراهن المغرب على ولاء اليهود المغاربة له وقدرتهم ورغبتهم، وإقناعهم، في القيام بدور فعال في حمل إسرائيل على القبول بحل قيام دولة فلسطينية جارة، قابلة للعيش؟

وهل يؤخر ”التطبيع” إلى حين معرفة موقف الرئيس الأمريكي المنتخب جو بايدن من اعتراف بلاده تحت رئاسة ترامب بمغربية الصحراء (6)؟

أسئلة، ربما تحمل في طياتها أسئلة أخرى، بخصوص مفهوم ومحتوى ”التطبيع”. وربما لن نجد لها أجوبة في القريب العاجل. العاجل جزء من مخاض التاريخ، لا يبين لنا دائما منحى، أو توجه التاريخ. ومخاض تكتنفه ضبابية أكبر حينما لا يتيسر لبعض الدول، والفاعلين الآخرين في العلاقات الإنسانية والدولية، لعب دور مهم في صنع التاريخ.

  • عميد كلية الحقوق بوجدة سابقا

الهوامش:

(1) انظر: Comment la terre d’Israël fut inventée, Paris, Flammarion, 2012ة Comment j’ai cessé d’être juif, Paris, Flammarion, 2013.

(2) طلب رسميا التشطيب عليه من سِجِلّ اليهود

https://www.haaretz.com/israel-news/.premium.HIGHLIGHT.MAGAZINE-a-scion-of-zionist-aristocracy-wants-to-quit-the-jewish-people-will-israel-let-him-1.9414503?utm_source=mailchimp&utm_medium=content&utm_campaign=weekend&utm_content=8a577bd2de

(3)  صحفي كبير وُصف بالخارق للعادة، من بين مؤسسي منظمة بيت سلام، كان قريبا من ياسر عرفات.

(4) ‘’But the fighting is only one aspect of the conflict which is in its essence a political one. And politically we are the aggressors and they defend themselves. Militarily, it is we who are on the defensive who have the upper hand but in the political sphere they are superior.“
 Source: https://quotepark.com/fr/auteurs/david-ben-gourion/  

(5) ”To maintain the status quo will not do. We have set up a dynamic State, bent upon creation and reform, building and expansion.“ Source: https://quotepark.com/fr/auteurs/david-ben-gourion/

(6) https://aawsat.com/home/article/2714356/المغربيؤخرالتطبيعلحيناتضاحموقفبايدنمنضمالصحراء

شارك المقال
  • تم النسخ
المقال التالي