قد يكون عاديا أن تقتحم كاميرا التلفزيون السجن وتحاور السجناء، ولكن ما ليس عاديا أن يجري الحوار مع مُعتقلين مُدانين في قضايا التطرف والإرهاب، ويكون الموضوع حول الطريق الذي قادهم إلى ذلك الاتجاه الخاطئ، ثم إعلان توبتهم منه.
ذلك ما حصل في برنامج التحقيقات في التلفزيون المغربي «45 دقيقة» الذي حملت حلقته الأخيرة المبثوثة الأحد الماضي عنوان: «العائدون من جحيم بؤر التوتر» وسلطت الضوء على الشباب المغاربة الذين كانت التنظيمات المتطرفة قد عملت على استقطابهم، فسافروا إلى منطقة الصراع بين سوريا والعراق، ثم تمكنوا من العودة بعدما اكتشفوا أنهم انخدعوا، ووقفوا على المفارقة الكبرى بين الخطاب والواقع.
وعند عودتهم إلى المغرب جرى اعتقالهم، بموجب قانون مكافحة الإرهاب، لأن القاعدة تقول إن أي شخص انتقل إلى بؤر التوتر التي تنشط فيها الجماعات المتطرفة المسلحة يحمل بداخله مشروعا إرهابيا.
ومن هنا، أبرز البرنامج دور الأجهزة الأمنية المغربية في محاربة التطرف قدّم البرنامج نماذج لأشخاص مُدانين يوجدون معتقلين في سجون طنجة والقنيطرة وفاس، وأخفى ملامح وجوههم، وصوّر بعضهم من الخلف، كما عمل على تمويه صوت بعضهم الآخر، استجابة لرغبتهم في الغالب.
ولم يكتف بذلك فحسب، بل التقى فريق البرنامج أيضًا أشخاصا آخرين قضوا محكوميتهم، وصاروا أحرارا الآن.
هؤلاء تكلموا بوجه مكشوف وبكل تلقائية، والتُقطت لهم مشاهد وهم يتجولون في الشارع ويحدثون غيرهم.
اختلفت الشهادات والقصص، وإن التقت حول نقطة واحدة أساسية: لقد اكتشف المعتقلون أنهم خُدِعُوا، وأنهم أخطأوا، فقبلوا بالعقوبة السجنية.
تحدث أحدهم قائلا إنه رأى بأم عينيه كيف أن مسؤولي تلك التنظيمات المتطرفة يتاجرون بالدين، ويمارسون الكذب والنفاق والإجرام، ولا يعيرون أية قيمة للإنسان. وقال آخر إن أولئك المتطرفين يتلذذون بتعذيب الكبار والصغار، ويتاجرون في الأعضاء البشرية في السوق السوداء. وأضاف ثالث إن الجماعات المتطرفة تتقاتل في ما بينها، وتلجأ إلى تكفير مُخالفيها.
روى متحدثون آخرون المعاناة التي تسبّب فيها سفرهم إلى نقط الاقتتال، وهي معاناة لحقتهم هم أنفسهم، كما أصاب شظاها أُسرهم الصغيرة، لدرجة أن أمّ أحدهم فقدت بصرها من كثرة البكاء وهول المُصاب. «لقد اكتشفنا أننا كنا ضحايا أوهام ووعود كاذبة» مثلما جاء على لسان أحدهم، مشيرا إلى أن سفره إلى هناك كان لسببين: الفهم الخاطئ للدين والحاجة إلى تحسين الظروف الاجتماعية.
وأكد ثان: «أفكاري السابقة غيّرتها حين كنت هناك في سوريا، وليس قبل أن أرجع إلى المغرب وأدخل السجن» وردد ثالث: «إنها تجربة قاسية وقع فيها الآلاف، ونصيحتي للشباب ألا يقعوا في هذا الفخ، وأن يهتموا بوطنهم، فلا شيء يعادل حب الوطن والناس.» وأوضح رابع أن الشعور بالذنب والندم صار يلازمه باستمرار.
كيف غُرِّر بهؤلاء وبغيرهم؟ الجواب على لسان المسؤولين: جرى ذلك بواسطة الإنترنت وترديد الخطابات الرنانة والوعود المادية الكاذبة.
المصالحة مع الذات والمجتمع
ولتكتمل الصورة وتتضح الرؤى، التقى فريق «45 دقيقة» مسؤولين أمنيين، هما: عبد الحق الخيام مدير «المكتب المركزي للأبحاث القضائية» التابع «للمديرية العامة لمراقبة التراب الوطني» (المخابرات المغربية) وبوبكر سابك الناطق الرسمي باسم الإدارة العامة للأمن الوطني والمديرية العامة لمراقبة التراب الوطني، وقدم المتحدثان معلومات قيمة حول كيفية التعامل مع هذا الملف، موضحين أن المعالجة الأولى تكون أمنية تطبيقا للقانون، فيما هناك معالجات موازية، تتمثل في برنامج «مصالحة» أي مصالحة المُدانين في قضايا الإرهاب مع ذواتهم ومع مجتمعهم ومع النص الديني من خلال فهمه الفهم السليم. كما أن السلطات المختصة تعمل على اتّباع مسارات لتأهيل المُدانين ومُصاحبتهم على المستويين النفسي والاجتماعي.
البرنامج توقف عند خطة المغرب لمكافحة التطرف والإرهاب، وهي ذات طابع استباقي، عبر سنّ قانون خاص، وأيضا عبر القيام بعميات استباقية لتفكيك خلايا إرهابية، فمنذ 2003 إلى الأشهر الأولى من العام الحالي جرى تفكيك 203 خلية إرهابية في عدد من المدن المغربية.
وقدم البرنامج لقطات مختلفة من التدخلات الأمنية في مختلف المدن، كما دخلت الكاميرا إلى مقر المخابرات المغربية، حيث قدمت لجمهور التلفزيون مشاهد لمناورات وتدريبات تبين عرضا ميدانيا لكيفية تفكيك خلية إرهابية.
تردد مصطلحان خلال البرنامج، هما: «الذئاب المنفردة» و»الخلايا النائمة» والمقصود بالمصطلح الأول الفرد المتشبع بالفكر المتطرف الذي يقوم بأفعال إجرامية في مكان وجوده، دون أن تكون لهم صلة تنظيمية مباشرة بجماعة معينة. أما الخلايا النائمة فهي بمثابة قنابل موقوتة يمكن أن تنفجر في أية لحظة.
بلغة الأرقام، بلغ عدد المغاربة الذين التحقوا بالتنظيمات المتطرفة في سوريا والعراق 1654 شخص، من بينهم 281 امرأة. مات منهم في ساحة الاقتتال 743 فردا، وعاد منهم إلى المغرب 266 شخصا.
خلية طنجة والمبايعة
بالموازاة مع بث الحلقة الجديدة من برنامج «45 دقيقة» أعلنت قوات الأمن المغربية عن تفكيك خلية إرهابية في مدينة طنجة يشتبه في أن عناصرَها مُوالون لتنظيم «داعش» كانوا يخططون لتنفيذ مشاريع إرهابية خطيرة ووشيكة، تستهدف زعزعة أمن واستقرار المملكة المغربية. وكشفت البيانات الأمنية عن عملية واسعة نفذتها فرق مكافحة الإرهاب خلال وقت متزامن في أربع مناطق متفرقة في مدينة طنجة، أدت لتوقيف زعيم الخلية في منزله واعتقال أربعة من أنصاره.
تفكيك الخلايا الإرهابية أصبح حدثا مكررا في المغرب، ومعها يتأكد نجاح القوات الأمنية المغربية، مثلما سجلت قناة «سكاي نيوز عربية» في تقرير تلفزيوني، وهو أمر يرى فيه مراقبون أن الرباط باتت تنتهج سياسة أمنية استباقية في تفكيك الخلايا الإرهابية في البلاد، ومن ناحية أخرى تحاول السلطات جاهدة تنفيذ استراتيجية لمواجهة الفكر الإرهابي لدى الجماعات التي تحاول نشر أفكارها المتطرفة بين الشباب المغربي.
القناة المذكورة حاورت الخبير المغربي إدريس الكنبوري الذي قال إن التنظيمات الإرهابية تركّز على المغرب، لعدة عوامل: كونه ينعم بالأمن والاستقرار، وينهج استراتيجية أمنية ناجحة أعطت ثمارها منذ 2003، فهذان العاملان يشككان في مدى القدرة القتالية لدى تلك التنظيمات وقدرتها على التعبئة والاستقطاب. ثم هناك عامل قرب المغرب من أوربا، فالمتطرفون يعتقدون أنه كلما تم تعريض هذا البلد للخطر صارت إسبانيا في كماشة التنظيمات الإرهابية. كما أن الدور المغربي في الملف الليبي يقلق تلك التنظيمات التي تريد إشاعة الفوضى في القارة الإفريقية.
في فيديو لخلية طنجة ظهر أفراد وهم يبايعون الرأس المدبر، لكن هذه «المبايعة» ـ كما يقول الكنبوري ـ قضية دعائية وترويجية فقط، لأن هدف الإرهابيين هو القيام بعمليات إجرامية دون الإعلان عنها. فبعدما أثبت التنظيم المتطرف فشله في المغرب، يحاول تمرير رسالة من خلال المبايعة، كونه قادرا على التسلل إلى الشباب المغربي وإقناعهم بتوجهاته، من خلال استغلال ظروف الفقر والجهل والتهميش لدى فئة منهم.
وتبقى معركة الإرهاب طويلة الأمد، وتحتاج إلى تنويع المقاربات: اقتصادية وسياسية وتعليمية وثقافية وروحية… بالإضافة إلى المقاربة الأمنية.
تعليقات الزوار ( 0 )