اتبعت تركيا – منذ نهاية عهد الإمبراطورية العثمانية وتأسيس جمهورية تركيا الحديثة في عام 1923 – نهجا انعزاليا عن مدارها التاريخي في شرق وجنوب المتوسط، وسعت إلى الدوران في فلك الغرب بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، واستنكفت عن الاهتمام بالقضايا العربية. لكن هذا النهج سيشهد تحولا تدريجيا مع وصول حزب العدالة والتنمية إلى الحكم في 2002، حيث أصبحت تركيا تنخرط شيئا فشيئا في الشؤون العربية. وقد وصف داود أغلو استراتيجية العودة إلى الشرق الذي يشكل فضاء النفوذ التاريخي للأتراك بنظرية القوس والسهم، أي كلما اشتد القوس إلى الشرق، اندفع السهم في الاتجاه المعاكس نحو الغرب. وتم إعطاء الأهمية في البداية للمناطق والجهات التي كانت تحت ظل الحكم العثماني ، وخاصة البلدان المجاورة والشرق الأوسط، ثم امتدت لاحقا إلى المنطقة المغاربية.
تعتير المنطقة المغاربية في هذه الاستراتيجية التركية الجديدة هدفا ووسيلة في الآن ذاته: فهي هدف للتجارة والاستثمار التركيين، لما تمثله المنطقة المغاربية من سوق ضخم بحوالي 100 مليون مستهلك. وهي أيضا وسيلة، لأنها بوابتها الجيوستراتيجية نحو إفريقيا جنوب الصحراء. فقد أعلن الرئيس أردوغان خلال زيارته الرسمية إلى الجزائر في 26 يناير 2020 سعي تركيا لرفع حجم مبادلاتها مع إفريقيا خلال الفترة القادمة إلى 50 مليار دولار، والذي يبلغ حاليا 26 مليار دولار.
اعتمدت تركيا في البداية على آليتين أساسيتين للعودة إلى المنطقة: أولا، العامل الاقتصادي (التجارة والاستثمار)، وقد لعب القطاع الخاص دورا مهما في تعزيز النفوذ التركي في الخارج؛ وثانيا، وسائل القوة الناعمة (المسلسلات والأفلام والفضائيات، والتبادل الثقافي، واستقطاب الطلاب، وإشعاع النموذج التركي…)، وذلك من خلال توظيف الروابط الثقافية والدينية والتاريخية لتحسين صورتها في الخارج، وخاصة في العالم الإسلامي.
تشهد اليوم السياسة الخارجية لتركيا حركية جديدة غير مسبوقة، حيث تسعى لتعزيز حضورها بالآليات السياسية والعسكرية. وهذا ما يطرح مجموعة من الأسئلة، ومن ضمنها: لماذا هذا التوجه نحو جنوب المتوسط؟ وهل لتركيا طموحات عثمانية، أم هي مجرد مصالح جيواقتصادية؟ وهل تريد أن تستعيد نفوذها على البحر الأبيض المتوسط الذي هيمنت عليه لمدة طويلة في زمن الإمبراطورية العثمانية؟ وما سر الأزمة الباردة بين المغرب وتركيا؟
العلاقات التركية الليبية تجيب لنا إلى حد كبير على كل هذه الأسئلة. ويمكن القول باختصار أن الخوف من تغير الهندسة الإقليمية في شرق المتوسط هو دافع مباشر لتعزيز تركيا لحضورها في ليبيا، والسعي لتقوية علاقاتها مع كل من الجزائر وتونس.
سياسة تركيا الجديدة تجاه ليبيا تحكمها مصالحها الجيوـ اقتصادية بالبحر الأبيض المتوسط. ويعد الخوف من تحول الاتفاق بين كل من مصر وإسرائيل وقبرص في ترسيم حدودها البحرية إلى تحالف سياسي واقتصادي ضد المصالح الحيوية لتركيا في هذه المنطقة، دافعا أساسيا للتحرك الأخير لتركيا نحو جنوب المتوسط لحماية مصالحها الاقتصادية والجيوسياسية. فقد تفطنت تركيا إلى سعي هذه الدول وغيرها لإقصائها من المشاركة في إعادة هندسة النظام الإقليمي في شرق المتوسط، وما يعني ذلك من خسائر اقتصادية وسياسية كبيرة لتركيا. وبالإضافة إلى الاتفاق بين الدول الثلاثة، إسرائيل وقبرص واليونان، بشأن ترسيم الحدود البحرية، تم إطلاق منتدى الغاز الإقليمي بالقاهرة في أوائل عام 2019 بمشاركة سبع دول من الشرق الأوسط وأوروبا (بما في ذلك إسرائيل والسلطة الفلسطينية)، بدعم من الولايات المتحدة وأوروبا، واستبعدت تركيا من المشاركة.
لذلك سيأتي الرد التركي سريعا ضد هذه التحالفات، وذلك بالتوقيع مع حكومة السراج الليبية في 27 نوفمبر 2019 على اتفاقيتين: إحداهما حول التعاون العسكري، والتي تسمح لتركيا بإرسال قواتها العسكرية إلى ليبيا لدعم حكومة الوفاق الوطني لفايز السراج، والثانية لترسيم الحدود البحرية بين البلدين. وينظر إلى هاتين الاتفاقيتين -وخاصة تلك التي تحدد الحدود البحرية- باعتبارهما تحديا مباشرا للتحالفات الجديدة التي تشكلت في شرق المتوسط، وأيضا لحفاظ تركيا على مصالحها الحيوية في المنطقة.
هذه الاتفاقية الثانية لا تطلق فقط يد تركيا لتكثيف عمليات التنقيب عن مصادر الطاقة في المياه المحاذية للحدود البحرية لليبيا، بل أيضا ستمنع كل من إسرائيل وقبرص واليونان من القيام بأي تحرك في حوض شرق المتوسط دون موافقة تركية. كما أن هذه الخطوة التركية تمثل عائقا أمام الخطة الإسرائيلية بمد خط أنابيب الغاز من إسرائيل إلى أوروبا والتي سيتعين عليها الآن المرور عبر المياه الاقتصادية الخالصة التي بسطت عليها تركيا ولايتها بناء على الاتفاقية التي أبرمتها مع حكومة سراج.
وأما الاتفاقية العسكرية، فقد ظهرت أثارها في الساعات الأولى من الإعلان عنها حيث توقف الجنرال حفتر منذ ذلك الوقت من القيام بأي محاولات جادة للزحف على العاصمة طرابلس. وتم الإعلان مؤخرا عن مقتل جنود أتراك في ليبيا خلال الأيام الماضية، كما أعلن أردوغان أيضا عن وجود عناصر من الجيش السوري الحر في طرابلس. بما يعني أن سوريا وليبيا هما ملفان مترابطان في الاستراتيجية التركية في هذه المرحلة، وكأن تركيا تقول لا أكون قوية ومؤثرة في سوريا -وفي شرق المتوسط عموما- إذا لم أكن حاضرة بقوة في ليبيا.
وأما الجزائر فتعتبر الشريك الاقتصادي الأول لتركيا في إفريقيا، وقد بلغ حجم التجارة بين البلدين في 2018 حوالي 3.2 مليار دولار، رغم عدم وجود أي اتفاقية تبادل حر بينهما. واتفقت الدولتان خلال زيارة أردوغان الأخيرة إلى الجزائر على العمل لرفع حجم التبادل التجاري بينهما إلى 5 مليار دولار. كما تم الإعلان أيضا أن البلدين سيشاركان في إنشاء مصنع للبتروكيماويات في أضنة على ساحل البحر المتوسط. وعلاوة على العلاقات الاقتصادية القوية، فإن المواقف السياسية للبلدين تكاد تتطابق في العديد من الملفات لاسيما في فلسطين، وليبيا مؤخرا.
وأما تونس فترتبط هي أيضا أيضا بعلاقات اقتصادية مهمة مع تركيا، وتبلغ قيمة التبادل التجاري بين البلدين حاليا مليار و250 مليون دولار، وتسعى أنقرة إلى زيادتها إلى ملياري دولار. وتزايد حجم التبادل التجاري بين البلدين منذ بدء سريان اتفاقية التجارة الحرة بينهما في 1 يونيو 2005. وعلى المستوى السياسي، فبالإضافة إلى الارتباط الفكري بين حزب النهضة التونسي وحزب العدالة والتنمية التركي، وقد صرح أردوغان في السنوات الماضية أن التجربة الإسلامية بتركيا استفادت من اجتهادات الغنوشي، فإن تركيا تعترف بأهمية تونس في المنطقة المغاربية وخاصة في الملف الليبي، وهذا ما أكده أردوغان صراحة خلال زيارته لتونس في في 25 ديسمبر 2019، حيث دعا إلى إشراك تونس في مؤتمر برلين حول الأزمة الليبية. وشهدت العاصمة أنقرة في 10 يناير الماضي اجتماعا مغلقا بين كل من أردوغان وراشد الغنوشي، وهذا ما يبين هذه العلاقة الوطيدة بين الحزبين القويين في الدولتين.
وتمثل موريتانيا أيضا نافذة مهمة لتركيا نحو أسواق دول غرب إفريقيا. وقد وقع البلدان مجموعة من الاتفاقيات خلال عشر السنوات الأخيرة في مختلف المجالات، مما سمح بنمو حجم مبادلاتهما التجارية ست مرات خلال هذه المدة. ويتوقع أن تشكل موريتانيا خلال السنوات القادمة ساحة تنافس بين مجموعة من القوى، ومن بينها تركيا والسعودية والإمارات. وستكون الحكومات الموريتانية القادمة أمام خيارات قليلة، إما تحقيق نوع من التوازن في علاقاتها، أو الميل إلى جهة معينة.
وأما المغرب، فقد اتسمت علاقاته مع تركيا منذ زمن العثمانيين دائما بالتعاون أكثر من الصراع أو التنافس، وقد بقي المغرب خارج فضاء الحكم العثماني، مما جعل علاقاتهما تقوم على المساواة والندية. ويظل الإرث العثماني حاضرا في علاقات تركيا مع دول الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، لذلك نجد سياستها الخارجية تختلف من دولة إلى أخرى حسب طبيعة علاقاتها التاريخية. فمثلا تعاملها مع ليبيا والجزائر وتونس يختلف تماما مع طريقة تعاملها مع المغرب. تتعامل مع الدول المغاربية الأخرى باستحضار الإرث العثماني وكأن لها مسؤولية معينة تجاه هذه الدول. وهذا العامل سيكون له تأثير مهم على طبيعة العلاقات السياسية المستقبلية بين المغرب وتركيا، لذلك من المرجح أن يكون الأتراك حلفاء المغرب وليس خصومه.
وعلى المستوى الاقتصادي، فقد نمى حجم التبادل التجاري بين البدلين بشكل ملحوظ منذ دخول اتفاقية التبادل الحر حيز التنفيذ سنة 2006، فقد كان يبلغ في تلك السنة 688 مليون دولار، ليصل إلى 2,8 مليار دولار سنة 2018. ورغم أن الإعلام المغربي وبعض السياسيين أثاروا خلال الأسابيع الماضية حجم العجز التجاري بين البلدين لصالح تركيا بحوالي 16 مليار درهم، لكنهم لم يثيروا حجم العجز التجاري المرتفع مع باقي شركاء المغرب، والذين توجد على رأسهم الصين بحوالي 44,7 مليار درهم، ثم الولايات المتحدة الأمريكية بحوالي 25,3 مليار درهم، وكل من إيطاليا وإسبانيا في بحوالي 15 مليار درهم لكل واحدة منهما. وهذا ما يفسر وجود أبعاد سياسية للخلاف المغربي التركي حول تطبيق اتفاقية التجارة الحرة بينهما. ويبدو أن ضغط المغرب على تركيا بالتلويح بإمكانية مراجعة بنود هذه الاتفاقية كان بسبب إقصاء المغرب من المشاركة في مؤتمر برلين في 19 يناير 2020 حول الأمة الليبية. والراجح أن استبعاد المغرب من هذا المؤتمر كان بسبب ضغط الجزائر على تركيا وتقديمها عرضا أحسن للأتراك في الملف الليبي. وتجدر الإشارة أن الجزائر تتقاسم مع ليبيا تقريبا ألف كيلومتر، ويمكن أن تقدم مساعدات لوجستية مهمة للأتراك إذا انخرطوا عسكريا في الأراضي الليبية .
هناك ثلاثة قيود جيوسياسة من شأنها أن تعيق تحقيق تركيا لكل أهدافها في المنطقة المغاربية. يتمثل العائق الأول في الجوار الإقليمي المضطرب لتركيا، التي فشلت في ”تصفير“ مشاكلها مع جيرانها، بل وظهرت مشاكل جديدة في محيطها الإقليمي جعلت حديقتها الخلفية غير آمنة، ولا تسمح لها بحرية ”التجوال“ (freedom to roam) بأمان خارج محيطها الإقليمي القريب. إن الانخراط المباشر لتركيا في المستنقع السوري سيثقل كاهل الاقتصاد التركي، وسيزج بآلاف من الجنود الأتراك في الساحة السورية، وإذا تفاقمت الأزمة ودخلت تركيا في حرب مباشرة سواء مع النظام السوري أو روسيا فسيقيد كثيرا حركية تركيا في الفضاءات الجيوسياسية الأخرى مثل المنطقة المغاربية وإفريقيا. كما القضية الكردية (سواء في داخل تركيا، أو في الدول المجاورة لها: سوريا والعراق وإيران) التي لا يظهر أي مؤشر على حلها قريبا تشكل أيضا قيدا مهما على طموحات تركيا خارج جوارها الإقليمي.
وأما العائق الثاني فهو حدود قوة تركيا العسكرية. فرغم أن تركيا قوة عسكرية كبيرة سواء من حيث الحجم أو النوع أو التصنيع العسكري، فإنها ليست قوة عظمى تستطيع أن تخوض حروبا كبيرة في أكثر من جبهة وتواجه فيها قوى مدعومة من دول قوية (روسيا وفرنسا) أو غنية (الإمارات والسعودية). لذلك ستكون طموحاتها العسكرية محدودة وحساباتها عقلانية خشية تعرضها للاستنزاف في معارك بعيدة عن محيطها الإقليمي. وقد تدعم حلفاءها عسكريا ولوجستيا خارج جوارها الإقليمي، وقد تبعث بعض الجنود للدعم والمساندة، لكن يستبعد أن تخوض حربا كبيرة بشكل مباشر على أكثر من جبهة.
وإذا اضطرت للدخول في حرب مفتوحة في ليبيا، فإنها ستواجه صعوبات كثيرة في نشر قواتها العسكرية بعيدا عن إقليمها بآلاف الكيلومترات عبر البحر الأبيض المتوسط. من بين هذه الصعوبات، عدم القدرة على تزويد قواتها المرابطة في ليبيا بسهولة، كما يستبعد أن تحقق تفوقا عسكريا في الجو بسبب صعوبة نشر الطائرات التركية على الإقليم الليبي، وأيضا لا تستطيع أن تستعمل بسهولة طائرات F-16 انطلاقا من تركيا، لأن هذه الطائرات ستحتاج إلى عمليات كثيرة للتزود بالنفط في الجود بسبب طول المسافة بين تركيا وليبيا.
ويتعلق العائق الثالث في افتقاد تركيا لحلفاء كبار موثوق بهم. تشهد علاقات تركيا مع حلفائها التقليديين في الغرب، وعلى رأسهم أمريكا، اضطرابا كبيرا خلال السنوات الأخيرة، ويستبعد أن يقدموا لها دعما حاسما في هذا الوقت. هناك خلافات كثيرة بين تركيا وأمريكا لاسيما في ملف أكراد سوريا ونظام الصواريخ الروسية S-400 التي تسلمت تركيا الدفعة الأولى منه في صيف 2019. كما أن علاقات تركيا مع روسيا غير مستقرة ومتقلبة، فطموحات البلدين متضاربة، ومصالحهما مختلفة. إن ما يجمع تركيا وروسيا هو الاستياء المشترك من الغرب، وهو استياء عرضي بالنسبة لتركيا، ولا يشكل عاملا كافيا لبناء تحالف استراتيجي بين الدولتين.
ستتأثر الاستراتيجية التركية في المنطقة المغاربية – وفي عموم إفريقيا- مدا وجزرا بوضعها الإقليمي، فكلما قلت مشاكلها بجوارها الإقليمي، إلا وتحررت من عبء كبير، واستطاعت أن تعزز نفوذها في فضاءات إقليمية أخرى. إن تركيا كأي قوة اقتصادية صاعدة، لا بد أن تفكر في توسيع مجال تأثيرها ونفوذها لتنمية هذه المصالح وحمايتها. وإذا تعاظمت قوتها الاقتصادية في المستقبل، واتسعت استثماراتها، فإنها ستحتاج إلى آليات سياسية وحتى عسكرية لحمايتها، وحماية شركائها.
*أستاذ العلاقات الدولية بجامعة سيدي محمد بن عبد الله بفاس
مقال غني بمعطيات وتحليلات دقيقة، وقد توقفت مدة طويلة في القول بأن ضغط المغرب على تركيا بالتلويح بإمكانية مراجعة بنود هذه الاتفاقية كان بسبب إقصاء المغرب من المشاركة في مؤتمر برلين في 19 يناير 2020 حول الأمة الليبية.
مقال ممتاز من خلاله فهمت مجموعة من المفاهيم .