شارك المقال
  • تم النسخ

السلوك القيمي للمجتمع السوداني وأثره على التنمية

تتفاوت المجتمعات وتختلف تركيباتها الاجتماعية سواء من الناحية الإثنية أو الدينية أو العقائدية، ولكن تجد دوما هنالك قيم مشتركة تجمع هذه الفسيفساء وتجعلها تسير فى خط واحد رغم كل ما سبق ذكره، حيث أن هذه القيم هى الضابط لسلوك هذا المجتمع برمته، وعادة ما يكون مصدر هذه القيم متمثلا فى الدين أو التشريع أو العادات والأعراف…الخ ، ولكن بل اشك يأتي القانون ليصبغ عليها ذلك الطابع الإلزامي الذي تترتب عليها جزاءات سلطوية فى حالة عدم الالتزام بهذه السلوكيات المجتمعية، أو فى حالة الاستهتار بها أو عدم الالتزام بمضامينها.

أولا: سلوك الفرد وأثره داخل المجتمع بصورة عامة.

الفرد هو اللبنة التي يتشكل منها كل مجتمع بكل عناصره السياسية والاقتصادية والثقافية …الخ وبالتالى فإن سلوك هذا الفرد قد يكون مؤشرا لمدى تناغم هذا الفرد مع مجتمعه ومن ثم مع دولته ونظامه السياسي، سواء كان هذا السلوك إيجابيا أم سلبيا، ولعل هذا المؤشر بالامكان قياسه من ناحية علمية صرفة ومن ثم معرفة مكامن الخلل إن وجدت.
وفى تصورى الخاص إن أهم مصدر لهذا السلوك المجتمعي فى المجتمعات المسلمة يكمن فى تعاليم الدين الإسلامي الحنيف التى يتربى عليها الفرد أو التي من المفترض أن ينشأ عليها منذ نعومة أظافره بداية من النظافة التي قرنت بالإيمان مرورا بإماطة الأذي عن الطريق و بتحريم الغش والتأكيد على ضرورة إتقان العمل …الخ. فهذه القيم الدينية لها إنعكاساتها المباشرة على المجتمع برمته إذا ما طبقت من مستوى الأسرة الى مستوى الدولة، وبلا شك سيكون أثر تطبيق هذه القيم ذا مردود على المجتمع برمته فى حالة ما إذا أضحت هذه القيم ثقافة مجتمعية عامة لايمكن الخروج عليها، مع وجود رقابة من طرف الدولة تردع كل من يحاول العبث بهذه القيم التي شكلت سلوكيات هذا المجتمع برمته.

بعد هذه التوطئة الطويلة نتسائل هل يعرف المجتمع السوداني الحالى سلوكا قيميا يتبعه الأفراد وتقف له الدولة بالمرصاد فى حالة الخروج عليه ؟

ثانيا : غياب السلوك القيمي مع غياب السلطة العامة فى التجربة السودانية!!!

من المشاهد التى قد تعطيك انطباعا بغياب هذه القيم فى الحالة السودانية الراهنة هو تدني مستوى الخدمات فى معظم مؤسسات الدولة، حيث أضحت على سبيل المثال عبارة “من أخذ أجرا حاسبه الله بالعمل” من أثر الصحابة والتابعين ولم يعد لها وجود داخل أركان الادارة فى الوقت الراهن، ولعل هذا السلوك الشاذ داخل المجتمع السوداني بكفتيه حكاما ومحكومين عمقه نظام سياسي استمر ثلاثة عقود ونيف “نظام الإنقاذ“، وبنى كيانه وفقا لفلسفة الهدي النبوي على حد قوله “المشروع الحضاري” وهو فى الواقع المعيش كان أبعد ما يكون من تلك القيم الفاضلة، ومن ثم ورث النظام السياسي الحالي تشوه مريع ليس على مستوى الاقتصاد والأمن والسياسة فحسب، بل تشوها عميقا على مستوى السلوك القيمي للمواطن، الذي يعد الرافعة الأساسية لنهضة أي مجتمع، وبالتالى أصبحت مسألة الانتباه لهذا البعد القيمي داخل المجتمع السوداني من الضرورة بمكان لكل تنمية حقيقية يراد تحقيقها، فكل الخطط والبرامج الكبري يتم تنفيذها عبر هذا المكون المجتمعي بمختلف مشاربه وبالتالى لا يمكن تحقيق أي نهضة فى حالة تعطل أو غياب أو تشوه هذه القيم المجتمعية.

أضف إلى ذلك أن غياب هذه القيم المجتمعية التي تشكل سلوكيات الأفراد داخل المجتمع إذا ما اقترنت فى ذات الوقت بغياب السلطة العامة للدولة فإن ذلك سيعمق ويطيل من أمد الأزمة المجتمعية ويضحى الخطاب السياسي بخصوص التنمية مجرد ترف فكرى لاغير.

فعلى سبيل المثال لا الحصر فى سودان اليوم ، عندما تجد الأسواق متروكة على مصرعيها لصغار التجار يضعون ما يشاؤون من أسعار لسلعهم، مع اختلاف وتضارب الأسعار للسلعة الواحدة فى ذات المكان، مع غياب رقابة السلطات داخل المدينة فهذا مؤشر خطير لغياب الدولة عن المكان الذي يعتاش منه المواطن البسيط وبالتالى يضحى تعدد الأسعار داخل النطاق الواحد إشكالية واضحة تحتاج لتدخل سريع من السلطات العامة داخل الدولة لوقف هذه الفوضى.

واذا ما حاولنا تعداد مظاهر غياب السلوك المجتمعي القيمي داخل الجهاز الإداري مثلا ستجده ظاهرا من أعلى الهرم الإداري وحتى أسفله، ولا يحتاج الأمر لذكر أمثلة للتأكيد على هذا الخلل البنيوي داخل المنظومة القيمية للمجتمع فهي ظاهرة للعيان لكل مواطن بسيط، وبالتالى فإن عدم الاكتراث بهذا الغياب للسلوك المجتمعي فى بعده القيمي وعدم التدخل لوضع حد له عبر فرض هيبة الدولة مع تفعيل آليات الرقابة الادارية داخل إدارات الدولة المختلفة ومن ثم محاسبة كل موظف مستهتر أو لا يعمل وفقا لهذه القيم المجتمعية، سيؤدي الى انهيار تام للمنظومة الاخلاقية داخل المجتمع السوداني وحينئذ لن تفيد أي عملية ترقيعية مادام أن جذر المشكلة الاساسية هو البعد القيمي داخل المجتمع .
قد يتبادر للذهن أن هذه السلوكيات القيمية ومن ثم المجتمعية هى نتاج للتنشئة الاجتماعية فقط ولا مجال لتدخل الدولة من أجل توجيهها أو فرضها على المجتمع ككل، لكن فى تصورى الخاص للدولة دور مزدوج فى طرح ورعاية هذا القيم بداية من الجهاز الإدارى للدولة نفسها ومن ثم فرضها على المجتمع من أجل الوصول الى درجة الالزام ومعاقبة من يستهتر أو لا يكترث بهذه القيم المجتمعية.

فعلى سبيل المثال لا الحصر عندما تبدي الدولة اهتماما بالصحة المجتمعية وإصحاح البيئة، وتضع قوانينا وتفرض غرامات على كل من لا يلتزم بالصحة العامة مع توفير الدولة فى ذات الوقت لكل المعينات اللوجستية التى تضمن النظافة داخل المجتمع، فإن ذلك سيخلق سلوكا مجتمعيا قيميا يدفع بالمواطنين للاهتمام بالنظافة كسلوك حضارى إنساني وكقيمة “عقدية ” حث عليها الدين وبالتالى مع وجود ومراقبة الدولة لسلوك المواطنين فى هذه الجزئية داخل المجتمع ستجد بأن حال المدن سيصبح مختلفا عما كان عليه قبل فرض الدولة لهيبتها ومن ثم سيصبح سلوك المجتمع متناغما مع ما وضعته الدولة من برامج لإصحاح البيئة. ولكن فى المقابل إذا غابت الدولة ولم يكن هنالك إرادة حقيقية لتعديل السلوك المجتمعي فى هذه الجزئية التى أوردناها كمثال لدور الدولة فى التأثير على السلوك القيمي للمجتمع فإن النتيجة ستكون بلا شك ما يعيشه وما يراه المواطن اليوم فى مسألة إصحاح البيئة التى أوردناها كمثال !!!!!

وعليه يمكن أن نقيس على ما ورد ذكره من مثال سابق حول مسألة إصحاح البيئة وإمكانية الدولة على التأثير وتوجيه السلوك المجتمعي وإسقاط ذلك على إشكالية العمل الاداري داخل دواليب الدولة ككل و تعدد الأسعار داخل الاسواق والغش والسلم المجتمعي والانفلات الامني ووو …الخ وبالتالي التأثير المباشر على سلوكيات المجتمع ونفض الغبار عن القيم الحقة التى شكلت وميزت هذا المجتمع قديما والتى خرج عن سكتها بسب غياب الوازع الديني والأخلاقي مع غياب الدولة ودورها الرقابي زهاء الثلاثين عاما ونيف مما أدى فى نهاية الأمر لهذا التشوه المجتمعي فى منظومة السلوك القيمي للمجتمع الذي يعد الرافعة الاساسية لكل تنمية حقيقية داخل أي مجتمع إنساني، لاسيما فى عصرنا الحالى كما أوضحنا آنفا.

النتيجة إذن على السلطة الانتقالية الحالية بالسودان إعادة الاعتبار لهذه الاشكالية ووضع الحلول العاجلة التي تضبط سلوك الدولة والمجتمع فى آن واحد إذا أردنا تغييرا حقيقيا يشارك فيه كل المجتمع بوعى تام، فلا سبيل لإدراك هذا التغيير الا بالعمل الجاد، من أصغر موظف الى أعلى مسؤول ومن كل فرد ينتمي لهذا المجتمع سواء كان راغبا فى ذلك عن وعى وإدراك تام، أو بفرضه عليه عبر القوة المشروعة للدولة وآلياتها المختلفة !!!

  • باحث فى العلوم الدستورية والسياسية
    الولايات المتحدة الامريكية، كاليفورنيا
كلمات دلالية
شارك المقال
  • تم النسخ
المقال التالي