Share
  • Link copied

الروبيو بين قساوة الحياة وتجاذبات الحاضر في رواية “أوراق الخزامى”(2)

قصة قدور الملقب من طرف أقرانه الريفيين بـ الروبيو، بينما يدعى من طرف أصدقائه الإسبان بـ “المورو المتوحش” بسبب شراسته وقدرته الفائقة في سد اللكمات لخصومه عند شجاره في البارات التي كان يرتادها في ألميريا وهو ما زال تائها في غياهب الماضي وفواجعه، ورهانات الحاضر المعقد والمتحول. قصة هذا الإنسان – الروبيو – تتمحور حول عالمين متشابكين؛ الأول هو عالم الماضي الذي يطارده بشراسة وبلا رحمة، والثاني هو عالم الحاضر الذي يصبو إلى امتلاكه واحتوائه، ومن ثم احتجازه واعتقاله. القصة كما أشرنا في الحلقة الماضية، مثيرة وشيقة، قدمها الأستاذ أمزيان في قالب أدبي رائع ومتميز بكل المقاييس. فلا غرابة، إذا قلنا إن رواية “أوراق الخزامى” متميزة نصا، لغة، وإخراجا (تصميما). لقد استطاع المؤلف أن يتحكم في خيوطها المتشابكة وينسج لنا رواية في غاية المتعة والروعة بين سطورها نلاحظ امتزاج الحقيقة بالخيال، والعكس كذلك. تماما، كما امتزج الروبيو في حياة ماريا، وصخب حياة ألميريا بكل سلبياتها وإيجابياتها. كما امتزج في حياة الريف بعد عودته من ألميريا وانخراطه في حركة العمل السري التي كان سي امحمذ يقودها من بيته الطيني بمركز أربعاء تاوريرت. وهكذا وجد الروبيو نفسيه عضوا فاعلا في الحركة السرية وحاملا لهموم الشعب والوطن من حيث لا يدري، وهو الكاره للسياسة والرافض للانخراط مع الريفيين والتحدث بلسانهم، بعد تحويل اجتماعاتهم من مقهى فلوريذو إلى مركز أربعاء تاوريرت هروبا من مراقبة ميليشيات حزب الاستقلال. لعب الروبيو دورا مهما في الحركة تحت إشراف وتوجيه السي امحمذ الذي سيعتقل بعد ذلك في فندق درسة في تطوان ويقضي 18 شهرا في السجن بسبب علاقته التواصلية مع الخطابي. ولكونه رفض الطعن في الخطابي وسحب الاعتراف به وإدانته، ظل في السجن دون محاكمة. ومن هنا نستشف أن جرائم حزب الاستقلال، ثم جرائم المخزن (الدولة) فيما بعد، كانت بسبب عبد الكريم وعودته القوية إلى مسرح الأحداث السياسية بعد نزوله في القاهرة سنة 1947. والسؤال الذي يطرح نفسه هنا: لماذا يكره حزب الاستقلال والمخزن عبد الكريم الخطابي؟ وهل هي قناعة ذاتية من طرف هذين الطرفين السياسيين البارزين في مغرب ما بعد الاستقلال، أم أنهم كانوا ينفذون (ربما) فقط أجندة أجنبية وفرنسية تحديدا؟

شخصيا يبدو لي أن حزب الاستقلال والمخزن كانا على وفاق تام في مسألة مواجهة الخطابي والقضاء عليه بأي ثمن. هذه هي الحقيقة في نظري. أما مسألة الكلام عن صراعات النفوذ والتحكم في مغرب ما بعد الاستقلال فهي مجرد مسرحية رديئة الإخراج حتى ولو أن مبررات هذا الكلام منطقية وموضوعية إلى حد ما. فكيف سينازع حزب الاستقلال سلطة الملك وهو ابن القصر. لا تصدقوني، لكن دعوني أدعوكم إلى قراءة كتاب “خواطر الصباح: يوميات 1967-1973” للمؤرخ المغربي عبد الله العروي وستجدون أن ما يسمى بالحركة الوطنية خرجت من أحضان القصر. ثم لماذا سكت المخزن عن جرائم حزب الاستقلال، والعكس أيضا؟ أعني لماذا سكت حزب الاستقلال عن جرائم المخزن سنة 1958-1959.

مركز أربعاء تاوريرت (رابع ن دويث) لعب أدوارا طلائعية في حرب الريف وحرب التحرير التي قادها الريفيون سنة 1955 في مثلث الموت: بورد وتيزي وسلي وأكنول، حيث كان (رابع ن دويث) مركزا مهما لدعم المقاومة التي باشرها أحرار جزناية، سواء من حيث استقطاب الثوار والمجاهدين أو من حيث استقبال النازحين والفارين من مواقع القتال والمواجهة، حيث لعب هذا المركز دورا أساسيا في استقبالهم واحتوائهم والتخفيف عن معاناتهم. في تلك الظروف والأجواء أنشأ سي امحمذ بيته الطيني بـ “تغزيوث” أربعاء تاوريرت لعقد اجتماعاته واستقبال الوفود وتنظيم حركة الدعم والمساندة لثوار جزناية.

سي امحمذ، كما نستكشف من تفاصيل الرواية، هو محمد سلام أمزيان قائد انتفاضة الكرامة خريف   1958-1959 (وهو بالمناسبة والد الكاتب محمد أمزيان). هذه سنة الحياة لا تدري أين ستأخذك رياحها. الروبيو الذي كان لا يطيق الحديث مع الريفيين أو الاجتماع بهم (ص.69-70) صار يحتك بهم ويحمل هموهم ويدافع عن مستقبلهم. الروبيو الذي كان يكره ويمقت السياسية كما أسلفنا القول سابقا، صار ناشطا سياسيا بعد أن استقطبه سي امحمذ، بل وصار محرضا على الثورة (ص.215). إنها لعبة الحياة.

الجميل في “أوراق الخزامى” التي يمكن اعتبارها وثيقة أدبية تاريخية مهمة، والتي يجب علينا قراءتها من هذا المنطلق والتصور؛ أي وفق قانون وشروط الأدب وليس التاريخ، هي أن أمزيان لا يحكي لنا فقط حكاية الروبيو كما هي متخيلة عنده، أي لم يقم فقط بعمل السرد الروائي كما يفعل بعض الروائيين، وإنما غاص وجال بنا في تفاصيلها وجزئياتها الدقيقة والبسيطة، مما أشاع فيها الحياة بدل الموت. وبهذا يجعلك تشعر بأنك واحد من روادها الفاعلين في أحداثها، وبالتالي، فإنك تعيش أحداثها من الداخل إن صح التعبير. يجعلك تعيش أجواءها بحماس وعن قرب. وهو – أمزيان – يقدم لك بذلك معلومات دقيقة، أحيانا حقيقية وصائبة وأحينا أخرى مفترضة ومختلقة عن رواد الرواية وفضاءاتها. فعندما تقرأ على سبيل المثال حديثه عن سوق أربعاء تاوريرت (ص.119، 120، 121) فإنك تشعر كأنك جالس في مقهى “الصفصاف” المحاذية لبناية البريد عند مدخل السوق من ناحية “دعوث ن شمايث”، تحتسي الشاي المنعنع، وبين فينة وأخرى “تُسقّط السبسي”، وأصوات بائعي العشوب وبائعي دواء مقاومة الفئران والصراصير والحشرات تصلك من بعيد عبر مكبرات الصوت المهترئة. ومن أسفل المقهى من جهة الواد يصلك نهيق الحمير والبغال التي لا يفصلك عنها سوى حائط صغير. ومن بعيد تصلك رائحة السردين المشوي. أمزيان في روايته يأخذك إلى أجواء وفضاءات (الأماكن) مختلفة ومتعددة، ثم يتركك تكتشف بنفسك حياة الناس وانشغالاتهم وهمومهم اليومية والإنسانية. يأخذك إلى زمن العز والبساطة. الزمن الذي كان فيه سوق أربعاء تاوريرت ملتقى القبائل الريفية، ومكان لعقد التحالفات القبلية والسياسية. الزمن الذي كان فيه السوق يعج بالحركة والحيوية، حيث كان الناس يأتونه من كل فج عميق. طبعا قبل أن يهاجره أهله نحو الخارج والداخل (المدن المغربية) بحثا عما يستحقونه من الحياة والعيش الكريم. وظل السوق ومعه المنطقة بكاملها مهمشا ومنسيا حتى أصبح ذلك السوق الذي لعب أدوارا طلائعية في حرب الريف وحركة جزناية (جيش التحرير) مرتعا للمجانين والكلاب الضالة.

نفس الشيء عندما نقرأ مثلا عن شخصية القائد بوسلهام الذي هو رمز الاستبداد والعجرفة. بوسلهام الذي كان تاجر الخردة (الملابس المستعملة) عشية مفاوضات “إكس ليبان” أصبح في صباح اليوم التالي من المفاوضات مقاوما وطنيا يحسب له حساب، هذا هو استقلال المهازل. ولكونه أصبح مقاوما، بل جعلوه مقاوما، صار قائدا وجاءوا به إلى الريف وهو لا يتحدث بلسان أهل الريف ولا يعرف قيمهم، نزل من السماء وأصبح في رمشة عين هو الكل في الكل.

Share
  • Link copied
المقال التالي