قالت مي التلمساني، الروائية والمترجمة والأكاديمية والناقدة السينمائية المصرية الكندية، والحائزة على وسام الفنون والآداب الفرنسي (فارس) إنها “تتابع بشغف نهضة صناعة السينما في المغرب، وكذا تطور المهرجانات الدولية بها كونها باتت معبرا أو جسرا بين سينما الغرب وسينما العالم العربي”.
وأضافت الروائية المصرية في حوار مع جريدة “بناصا”، “أننا مازلنا ننظر للأدب نظرة قديمة، كلاسيكية، ونتوقع منه أن يكون ميلودراميا مثل أحداث نشرة الأخبار، أو مثيرا للمشاعر السطحية لدي القارئ المضمون، أو مكررا لوصفات ناجحة حققت انتشارا عبر فن السينما”.
وترى الأديبة المصرية، أن “الحب عن بعد إشكالية تنفتح في رأيي على قضية مهمة تخص شكل الحياة المعاصرة التي تتسم بقدر كبير من التباعد الاجتماعي، وأوهام القرب التي تروج لها وسائل التواصل الالكتروني”.
ولفتت التلمساني، إلى أنها “لم تشعر يوما بصراع بين هويتها العربية وهويتها الفرانكوفونية أو الكندية، فكلها هويات ثقافية، بحسبها، وليست قومية من وجهة نظرها، لذا تظل بشكل ما بعيدة عن التعصب الأعمى والشوفينية.
وهذا نص الحوار كاملا:
استطعتِ بروايتك “الكل يقول أحبك” أن تترشحي للقائمة القصيرة من جائزة البوكر للرواية العربية، وحصلت قبل ذلك على وسام الفنون والآداب الفرنسي برتبة فارس…كيف جاء اختيار عنوان الرواية؟ وماذا يمثل لك هذا الوسام؟
عنوان الرواية مستوحى من عنوان فيلم أمريكي للمخرج وودي آلن، وهو مخرج عدد من روائع الكوميديا في تاريخ السينما. كنت أقصد السخرية من ظاهرة التعبير عن الحب قولا لا عملا، والتسليم بأن الكل يردد اللفظ حتى بات مفرغا من المعنى، خاصة لو كان قائله لا يعنيه.
أما تيمة الرواية الرئيسية فهي الحب عن بعد، حب الزوج أو الشريك الغائب أو حب الوطن الأم في حال المهاجرين من أصول عربية لكندا. الحب عن بعد إشكالية تنفتح في رأيي على قضية مهمة تخص شكل الحياة المعاصرة التي تتسم بقدر كبير من التباعد الاجتماعي، وأوهام القرب التي تروج لها وسائل التواصل الالكتروني.
الرواية هي محاولة لتفصيل مقولة للفيلسوف الفرنسي الماركسي جي دوبور الذي رأي في ستينيات القرن العشرين أن مجتمعات الاستعراض والفرجة “توحد بين المتفرقين شريطة الحفاظ على تفرقهم”.
تتشابه البنايات السكنية الحديثة شاهقة الارتفاع في المدن الكبرى والحياة في بلدان الهجرة في فكرة التفريق والتشتيت هذه، كلاهما تجارب في السكن والعيش توهم بالوحدة المكانية (والشعورية) رغم الفرقة والشتات الواقعين.
قبل ترشح روايتي للبوكر هذا العام، حصلت في 2021 على وسام الآداب والفنون الفرنسي برتبة فارس عن مجمل نشاطي الثقافي ككاتبة وأكاديمية ومترجمة وناشطة ثقافية.
فأنا أمارس العمل بمجالات كثيرة وبلغات مختلفة وأعتقد أن الوسام كان بمثابة تثمين وتقدير لكوني كاتبة عربية تؤثر في مجتمعها بطرق متنوعة.
الحضور الشامل ربما كان سببا في حصولي على الوسام، ما أسعدني كثيرا خاصة حين أشار سفير فرنسا للقاهرة في حفل تسليم الوسام إلى تنوع وغزارة إنتاجي الثقافي خارج نطاق الكتابة الإبداعية.
تستقرين بكندا لأزيد من 26 سنة، هل يمكن تصنيف مي التلمساني من أدباء المهجر على غرار جبران خليل جبران وميخائيل نعيمة ونسيب عريضة وإيليا أبو ماضي، أم لك مدرستك الخاصة؟
لا أعتقد أن كلمة “المهجر” اليوم تحمل الدلالات نفسها التي كانت تحملها قبل مئة عام، زمن جبران ونعيمة. أعتقد أن شكل السفر والترحل اختلف جذريا اليوم عن ما كانت عليه الحال في الماضي، وأن فكرة المنفى نفسها أصبحت أقل توترا ولم تعد تثير في الروح أنماط البؤس والشجن والحسرة التي كانت تثيرها في السابق.
يكفي أن الرحلة بين مختلف بلدان العالم لم تعد تستغرق أسابيع وأن أغلب المهاجرين من العرب لا ينزحون عن بلادهم بسبب الحروب عكس ما هو شائع في الميديا. الغالبية العظمي تنزح لأسباب اقتصادية أو طلبا للعلم.
في مجال الأدب، كثيرون يكتبون بلغات أجنبية عن قضاياهم ومجتمعاتهم العربية، وكثيرون أيضا يكتبون بالعربية مثلي من موطن بديل ويتجاوبون مع الأوساط الثقافية العربية أكثر ربما من تجاوبهم مع أوساط أجنبية.
وثمة جيل ثاني ولد لأبوين من أصول عربية يمارس كافة أنواع الأنشطة الثقافية دون أن يشعر بالغربة في الغرب، بل على العكس قد يعتبر البلد الغربي في أوروبا وأمريكا الشمالية تحديدا هو وطنه الأم.
أفضل استخدام لفظ الشتات العربي وهو أشمل وأعم، ويوحي بشكل من أشكال التنظيم للمجتمعات الغربية خارج الحدود. أدب الشتات يشمل بالنسبة لي كافة أنواع الحركة المتجاوزة للحدود القومية، وكذا العابرة للثقافات واللغات.
كيف توفقين بين الكتابة والترجمة والقراءة والعمل والأسرة؟
في السنوات الماضية حين كانت أسرتي الصغيرة تعتمد اعتمادا كليا على جهدي، كنت أسعى لتنظيم الوقت بحيث أخصص مساحة للأسرة ومساحة للكتابة، وربما لذلك كنت أبدأ الكتابة ليلا وحتى فجر اليوم التالي.
أما الآن وقد استقل الولدان، أحدهما في إنجلترا والآخر في مدينة تورونتو، فلدي فائض من الوقت أخصصه للتدريس والبحث الأكاديمي من ناحية والكتابة والترجمة من ناحية أخرى.
مشروع الرواية القادمة بدأ منذ سنوات ومازلت أحاول الانتهاء منها ودفعها للنشر في غضون العام الحالي. أما الترجمة فقد ابتعدت عنها لسنوات طويلة وأعود إليها حاليا لترجمة كتاب في فلسفة الأدب تأليف جيل دولوز وفيليكس جواتاري، بعنوان كافكا، نحو أدب أقلي.
هل واجهت مي التلمساني صراع الهويات وألم الحب في كندا؟
لم أشعر يوما بصراع بين هويتي العربية وهويتي الفرانكوفونية أو الكندية، فكلها هويات ثقافية وليست قومية من وجهة نظري، لذا تظل بشكل ما بعيدة عن التعصب الأعمى والشوفينية.
لا شك أن بين مختلف الهويات التي أنتمي إليها بدرجات متفاوتة من الكثافة ثمة تلاقح وحوار مستمر، بدأ قبل الهجرة بسنوات كثيرة.
هذا الحوار مفتوح دوما وحتى اليوم بين نشأتي في بيت عربي مسلم وتعليمي في مدارس فرنسية للراهبات الكاثوليك في حي هليوبوليس ذي التاريخ الكزموبوليتاني، بين كوني مصرية تعيش في كندا وكوني فرانكوفونية تعيش وتعمل بالتدريس في جامعة أوتاوا باللغة الإنجليزية.
لم تكن الهجرة إذن سوى مرحلة من مراحل الحركة التي قادتني للتنقل بين الثقافات ورسخت إيماني بعلمانية الثقافة وإنسانيتها.
ماذا تعرف مي التلمساني عن المغرب وكتابه وشعرائه وأدبائه وسينمائييه؟
تربطني أواصر محبة كثيرة بالمغرب كبلد عربي متنوع الثقافات، زرت الكثير من مدنه الرئيسية من الرباط إلى الدار البيضاء ومن فاس ومكناس إلى مراكش في إطار فاعليات ثقافية تنظمها وزارة الثقافة المغربية أو الهيئات غير الحكومية.
لدي شغف بقراءة بعض الكتاب المغاربة من الأصدقاء أو ممن أتاحت لي الظروف أن أتعرف على أعمالهم عن قرب، ربما يكون محمد شكري الذي لم ألتق به شخصيا ومحمد برادة الذي بات صديقا. أحببت كتابات شكري الذاتية بلا استثناء، وكذا مقالاته الأدبية كما في “غواية الشحرور الأبيض”.
وكذلك قرأت كل أعمال برادة الروائية وأحببت “مثل صيف لن يتكرر” و”موت مختلف” فضلا عن أعماله النقدية، وأعتبره أحد أعلام النقد الأدبي في عالمنا العربي.
أما في مجال السينما فلدي بحكم الاهتمام بتدريس السينما العربية والكتابة الأكاديمية عنها في كندا شغف بأعمال مخرجي المغرب وبعضهم يعيش في الشتات ويتناول وطنه الأم في أعماله السينمائية، أمثال مصطفى الدرقاوي وجيلالي فرحاتي ونبيل عيوش.
وفي الفترة الأخيرة أتابع بعض الأفلام المغاربية عبر منصات مثل نتفليكس لكن عددها مع الأسف محدود بسبب إشكاليات التوزيع خارج حدود المغرب. كما أتابع بشغف نهضة صناعة السينما في المغرب وكذا تطور المهرجانات الدولية بها كونها باتت معبرا أو جسرا بين سينما الغرب وسينما العالم العربي.
ما الرسائل التي تحملها أعمالك وما هي أبرز القضايا التي تعالجها روايتك؟
لا أؤمن بفكرة أن للرواية أو القصة “رسالة”. أعتقد أن أقصى ما نطمح له اليوم ككتاب هو لفت الأنظار لبعض القضايا الملحة في عالمنا المعاصر، ليست بالضرورة القضايا المرتبطة بحركة التحرر الوطني، أو بتأسيس الهويات القومية، أو بالنضال ضد الامبريالية العالمية، فتلك قضايا على أهميتها ترتبط بعصور سابقة والعودة إليها يمثل عودة للتاريخ.
ما أكتبه معاصر ويخص اللحظة الراهنة، أعتبر أن قضية الأمومة في روايتي الأولى “دنيا زاد” (1997) قضية مهمة ومؤثرة إنسانيا ولم تحظ بالاهتمام الذي تستحقه إلا مؤخرا، بفضل تطور النظرية النسوية في الغرب.
كما أن قضية المكان الهجين وعلاقة المرأة بالأشياء المحيطة بها وبتراث العائلة المادي في رواية “هليوبوليس” (2000) هي من القضايا الأثيرة القريبة إلى نفسي، والتي تنفتح على الإنسانية على قدر محليتها وحدودها العربية التي تتجلي من خلال الشخصيات النسائية.
قضية الصداقة في رواية “أكابيللا” (2012) والحب عن بعد في “الكل يقول أحبك” (2021) بقدر ما تنحصر أحيانا في نظر بعض النقاد في إطار النظرة النسوية للأدب، بقدر ما تنفتح على كونية القيم والمبادئ التي يتمثلها الإنسان المعاصر في حياته اليومية.
تشغلني تلك القضايا وألتزم بها بمعنى من المعاني في كل ما أكتب، ابداعا أو على المستوى الأكاديمي، ويهمني أن يكون التناول أقرب للتناول الفلسفي والاجتماعي.
لا يخفى على أحد أن ثمة شكل من أشكال النضال الهادئ، أو لنقل المقاومة الثقافية، أتبناه في كل أعمالي لكي أغير من الأحكام المسبقة التي تخص المرأة العربية ولكي أقاوم مختلف أنواع العنف الممنهج وقمع الحريات التي تمارس على المرأة وأيضا على الرجل في تلك المجتمعات.
تظل المنطلقات الأولى لدي منطلقات متحررة من قيود الطابو السياسي والديني والجنسي، ساعية لمزيد من التحرر على مستوى بنية النص المكتوب وعلى مستوى القضايا التي أتناولها.
مازلنا ننظر للأدب نظرة قديمة، كلاسيكية، ونتوقع منه أن يكون ميلودراميا مثل أحداث نشرة الأخبار، أو مثيرا للمشاعر السطحية لدي القارئ المضمون، أو مكررا لوصفات ناجحة حققت انتشارا عبر فن السينما.
ما أهمية أن نكتب رواية أو مجموعة قصصية اليوم هي محاكاة لنشرة الأخبار في التلفزيون أو لفيلم رائج أو نوع سينمائي جماهيري؟ هل نكسب بذلك تعاطف القراء والنقاد؟ حسنا، ليكن. لكن الأدب الطليعي يسخر من تلك التوقعات ويحفر في منطقة أخرى، بعيدا عن السائد. وهو نوع الأدب الذي أطمح إليه.
تعليقات الزوار ( 0 )