شارك المقال
  • تم النسخ

الذكرى المئوية لانتصارات أنوال (الحلقة 12) من يمثل الوطنية المغربية؟

من حسن الحظ أن جماعات العمل السياسي لا يمثلون وحدهم ضمير الشعب، والحمد لله، ومن صدق التاريخ أن الشعر ديوان الشعوب. فقد كان الشعراء المغاربة الأحرار في تجاوب مع روح الوطنية التحريرية. وهذا الجاج محمد بنونة، صاحب النشيد الأول للمقاومة والدفاع عن الوطن، جاء في مطلعه: 

“مغربنا وطننا روحنا فداه      أميرنا عبد الكريم ربي حماه”.

(أنظر النشيد في كتابي، (عبد الكريم الخطابي التاريخ المحاصر، ص 70). 

وهذا أبو بكر بناني في نشيد حماسي طويل؛ مما جاء فيه: 

“يا بني المغرب موتوا شهدا      لا تعيشوا تحت إذلال العدا”، 

  أما الشاعر، المؤرخ محمد بن الأعرج السليماني، فقد لام المتقاعسين على القيام بواجبهم الوطني، وميز بين العابثين وبي الجادين قائلا: 

“دع الفتيات تمرح في القصور   ويمم مسعفا وادي النكور”. 

      وفي العالم وقف الأحرار إلى جانب طلاب الحرية، على الرغم من وجود التوجه الاستعماري، او الاستدماري، لدى حكام الغرب، فإنه كان هنالك تأثير إيجابي لرجال المقاومة. ففي فرنسا نفسها كان الحزب الشيوعي الفرنسي ونقاباته تستنكر بقوة اعتداءات الاستعماريين على مغاربة الريف؛ وكانت جريدة “الإنسانية” (éL’humanit)، الناطقة باسم الحزب الشيوعي الفرنسي، المناهض للحرب الاستعمارية في الريف. ولم نستطع معرفة مدى انتشار الجريدة بين المغاربة؛ على عكس جيراننا الجزائريين. إذ نجدهم يقبلون بأعداد كبيرة على متابعة ما تنشره جريدة “الإنسانية” بصفة خاصة. وقد علق المفكر الجزائري مالك بن نبي في مذكراته قائلا: “كان الناس يحلمون بالحرب، ويبحثون عن تفسير أحلامهم في مخرج يوائم عبد الكريم” قبل أن يضيف “كانت قراءة صحيفة “éL’humanit” تنزل السكينة علينا”. (مالك بن نبي، مذكرات شاهد القرن، ج1، ص 222.) وكان التونسيون من جانبهم يتفاعلون بقوة مع حركة التحرير المغربية. لكن بفضل الجرائد المحلية. وفي هذا الصدد أكد المؤرخان أحمد بن ميلاد ومحمد إدريس أن الصحافة التونسية راحت تكتب، في شبه إجماع، أن “عبد الكريم قائد كبير، واتخذته رمزا من رموز التحرير من مخالب الاستعمار”. (أحمد بن ميلاد ومحمد إدريس، الشيخ عبد العزيز الثعالبي والحركة الوطنية، ص 285.)  

        أما أحمد توفيق المدني صاحب جريدة “إفريقيا” فكتب، على سبيل المثل، بتاريخ 25 مايو 1925 “أن عبد الكريم يعيد لأمته مجدا… ويحاول تغيير مجرى التاريخ في العالم العربي”. وندرك اليوم من خلال الأرشيف والدراسات العلمية أن الصحافة العربية تحمست لنشر أفكار الخطابي وإنجازاته على الأرض، كما تفاعل معه كثير من الكتاب المسلمين والعرب؛ على عكس المغرب. ونعلم أن مؤلف النشيد الرسمي الثاني لحركة التحرير هو الشاعر الفلسطيني إبراهيم طوقان. 

       نعم، كانت هنالك صحافة وجرائد أجنبية في العالم العربي والإسلامي، وفي أمريكا، وفي أوروبا، بل في فرنسا وفي أمريكا الجنوبية تفاعلت مع انتصارات حركة التحرير الوطنية، وأعلنت عن مساندتها لخطط محمد بن عبد الكريم الخطابي. أما المغاربة، فمن غير الشعراء الأحرار، قلما وجدنا من ساند الوطنيين. وقد أظهر كثير من ساكنة المغرب، وخاصة من سكان المدن يومها، أنهم لم يعودوا معنيين بالدفاع على الوطن ضد الغزاة، أو أنهم ليس لديهم اعتراض أصلا على الاحتلال. وكمثال على ذلك، ما ذكره الخطابي في “مذكرات لارينيون بقوله: “أن إسبانيا “احتلت مدينة تطوان برضى الأهليين ومن غير مقاومة بتاريخ 13 فبراير 1913” حسب شهادة والده الذي كان حاضرا هناك. (ص 61).  

   ما بين المقاومين والسياسيين  

نعتقد بأن الوطنيين المقاومين كانوا ينظرون إلى الوطن بصفته علة وجودهم، وأساس هويتهم، وعنوان شرفهم وفخرهم، وأمانة آبائهم وأجدادهم في أعناقهم، وكانوا يتميزون بالعزم على أن لا يروا غيرهم مالكا لوطنهم. أما الذين لم يكن الوطن والوطنية بالنسبة إليهم أكثر من عنوان تجاري (fonds de commerce) فكانوا يعتقدون أن الوطنية هي البيع والشراء، وامتيازات ممنوحة لأشخاصهم وحواشيهم، أو فئاتهم وعشائرهم. وكانت عقيدتهم في الحياة تنبني على تقديم الولاء والطاعة لمن أصبح في الحكم، بغض النظر عن نسبه وهويته، فالمهم هو الاستفادة من السلطة الحاكمة وريعها، وحضورها في تقسيم كعكعة الوطن؛ تماشيا مع “حكمة ” الانتفاعيين القائلة: “الله ينصر من أصبح”.  

وانطلاقا من هكذا معتقد وعقيدة، لا نستغرب أن يعتبر هؤلاء الرهط أن أحزابهم أحزاب وطنية، وشعاراتهم سياسة وطنية، ليس للمقاومة المسلحة مقام أول لديها. (علال الفاسي، الحركات الاستقلالية…، ص 145). وفي واقع شمال إفريقيا كانت هذه العقيدة السياسية عقيدة مشتركة عند أحزاب “وطنية” في أقطار البلاد المغربية. وعرّف الزعيم التونسي، الحبيب بورقيبة (تـ 2000)، طبيعة أحزاب الحركات الوطنيات المغاربية بأنها أحزاب دستورية شرعية، لا تؤمن ولا تنتمي إلى عصر التحرك المباشر. (تصريح منشور في ABDELKARIM Et la République du RIF، ص 408).  

والسؤال المحير هو: لماذا تجنبت جماعات العمل الوطني السياسي الحديث كذلك عن تجربة الخطابي التجديدية المتعلقة بالتحديث الاجتماعي والسياسي، وركزوا فقط على ما اسموه العمل المباشر، أي العمل المسلح؟ سؤال قد يكشف لنا أحد الأسباب الكبرى عن تخلي جماعات العمل السياسي غير المسلح عن الخطابي في منفاه الطويل في لارينيون بالمحيط الهندي، وعن عدم إشراكه، عند الاستقلال، في وضع خطط المستقبل للدولة الوطنية ومسألة السلطة والمواطنة.  

ونعتقد بأن هذا الإهمال أوحى للمؤرخ المغربي عبد الله العروي أن يختار عنوان “عبد الكريم والحركة الوطنية المغربية حتى 1947” لمداخلته، التي شارك بها في ندوة باريس حول الخطابي، سنة 1973، التي نشرت ضمن كتاب جماعي سنة 1976، تحت عنوان (“عبد الكريم وجمهورية الريف Abdelkrim et la république du Rif”)، قبل أن يُردِفه بالسؤال التالي: “هل يصح الكلام عن تأثير عبد الكريم على الحركة الوطنية المغربية”؟  

يري المؤرخ العروي أن مضمون مقاومة الخطابي ورفاقه وإصلاحاتهم على الأرض، في العشرينيات من القرن العشرين، لم يتم تناولها علانية في المغرب، إلا في إطار ما كان يسمح به الحيز الذي كانت تملؤه جريدة “السعادة”، الناطقة باسم الحماية الفرنسية. وأكد المؤرخ في مداخلته: أن السلطة العسكرية الفرنسية في المغرب منعت بواسطة الجريدة الرسمية دخول الجرائد والمجلات الصادرة في البلدان العربية والإسلامية إلى التراب المغربي؛ لأنها كانت تتناول بإسهاب أخبار عبد الكريم؛ وأشار بصفة خاصة إلى مجلة إفريقيا التي كانت تصدر في تونس، ومجلة المنار، والسياسة الأسبوعية، والثورة، القاهرية. والوقت، والإقدام الصادرة في أسطنبول، والمنتقد الجزائرية. وشمل المنع حتى جريدة كانت تصدر بالعربية في سان باولو بالبرازيل، إضافة إلى كتابات شكيب أرسلان، وممثلين لمسلمي الهند.  

*مفكر ودبلوماسي سابق

شارك المقال
  • تم النسخ
المقال التالي