أشرنا في الحلقة الأولى، بطريقة ضمنية، إلى أن مقاومة المعتدين على الريف كادت أن تصبح تقاليد وثقافة راسخة لدى السكان؛ على الرغم من اختلاف وتعدد الرؤى والزوايا التي نظر وينظر من خلالها الدارسون، أو الباحثون إلى مقاومة أهل الريف، طبقا لبواعثهم الذاتية، ولمناهجهم المعتمدة في تقييمهم للوقائع المدروسة، ولعلاقتهم بالموضوعية وبالنزاهة الفكرية. وقد لخص الباحث الاجتماعي عبد الرحمان الزكريتي أهم رؤى تلك الزوايا فقال: “تباينت بين من ربط المقاومة كسلوك حربي عنيف يطبع الريفيين وحدة مزاجهم المكتسب من علاقتهم بواقعهم الطبيعي القاسي والشحيح، الذي ظل يغذي أخلاق البداوة والقسوة فيهم، وبين من ربطها بالعلاقات الداخلية بينهم، التي بقيت تتسم … بالحدة في الصراع حينا والتضامن حينا آخر. إضافة إلى من ربطها بنزوع الانغلاق على الذات ومعاداة الأمازيغ الريفيين لكل ما يأتي من خارج موطنهم” (الزكريتي، ثقافة المقاومة بالريف، ص 17).
وبغض النظر عن موافقتنا أو اختلافنا مع أصحاب هذه الرؤى، فإن المقاومة عند الريفيين، بصفتها ردا للعدوان، وذودا عن الوطن وحماية لحريته واستقلاله، تبقى من ثوابتهم في ثقافتهم وهويتهم الوطنية، حسب ما تؤكده جل الدراسات الأنثروبولوجية والاجتماعية التي تتمتع بقدر كبير من الموضوعية والنزاهة. ولهذا نرى أنه من حقنا أن نتساءل: أين تتجلى ظاهرة مقاومة الغزو الاستعماري عند أهل الريف؟
نعلم أن سكان الريف حافظوا على استقلال مجالهم الجغرافي من الغزو الإسباني، وقاوموا بشدة تمدد الإسبان من ثغري سبتة ومليلة، كما نعلم أن مدينة سبتة استولى عليها الرتغاليون سنة 1415، ولم يتنازلوا عليها لإسبانيا إلاّ في سنة 1580، أي بعد سنتين من انهزام البرتغال هزيمته الساحقة في معركة وادي المخازن، الواقع على الحدود الغربية للريف التاريخي والجغرافي، قرب مدينة القصر الكبير.
ومن أكثر المؤرخين المغاربة، في عصرنا، الذين تناولوا موضوع احتلال سبتة ومقاومة المغاربة له، ننوه بالمؤرخ حسن الفكَيكَي الذي أنجز مؤلفين، عنوان الأول “سبتة المغربية، صفحات من الجهاد الوطني”، الصادر ضمن سلسلة “المعرفة للجميع”، العدد 14، سنة 2000، وعنوان الكتاب الثاني “سبتة المحتلة ذروة وعينا الوطني”، الصادر في الرباط سنة 2003.
أما فيما يتعلق باحتلال إسبانيا لمدينة مليلة في الريف الشرقي، فتم في سنة 1495، أي بعد ثلاث سنوات من سقوط غرناطة؛ وخصص لها المؤرخ نفسه كتابا يعرّف بجانب من جوانب مقاومة أهل الريف لإسبانيا، لكن بدون غطاء بحري فاعل، تحت عنوان: “المقاومة المغربية للوجود الإسباني بمليلة” نشرته جامعة محمد الخامس بالرباط، سنة 1997.
ومما لا شك فيه أن الإبيريين (البرتغال وإسبانيا) استغلوا غياب المغرب الرسمي، شبه الكامل، عن البحر، منذ نهاية عصر الموحدين، في احتلال المدينتين. ونجم عن ذلك ضعف المقاومة البحرية عند سكان المنطقة؛ إلا ما كانت تقوم به قبيلة “إبقوين” أو “بقيوة”، الكائنة بين الحسيمة وبادس في الريف الأوسط؛ وهي القبيلة التي اشتهرت بجهادها البحري، أو القرصنة؛ الأمر الذي عرض ساكنتها لعقاب مهين على يدي السلطان مولاي عبد العزيز، في أواخر القرن التاسع عشر.
وبالرجوع إلى غزو الإسبان للبر المغربي، نذكر بأن مصير مدينة بادس، التي كانت الميناء الاقتصادي للعاصمة فاس، تعرضت للخراب والتدمير في أواخر الدولة الوطاسية. وتشير بعض كتب الإخباريين إلى أن هذه الدولة، التي كانت عاجزة عن الدفاع على المدينة وجزيرتها المحاذية لها، أمرت بتخريبها، طمعا في أن يزهد فيها العدو. إلاّ أن الإسبان الذين كانوا يغيرون على الجزيرة بين فينة وأخرى، ويردون على أعقابهم بفضل مقاومة السكان المحليين، استطاعوا سنة 1564 أن يستولوا عيها بصفة نهائية، وانتقموا من سكان مدينة بادس بتدميرها بالكلية. ولم يفكر أحد، لا المغرب ولا إسبانيا، في إعادة إعمارها إلى اليوم. ومن الأشياء المستغربة في سياسة الدولة الوطاسية، حسب بعض المصادر، أنها قبل أن تلجأ إلى تخريب مدينة بادس كانت قد أمرت بإحراق مدينة مليلة، كي لا يجد فيها الإسبان ما يغريهم على البقاء فيها!!!
ومما لا شك فيه أن ابتعاد المغرب الرسمي عن الجهاد البحري ساهم، بل ساعد إسبانيا لكي تسيطر على كل الجزر والأحجار البحرية الواقعة على الشاطئ المغربي في البحر الأبيض المتوسط بعد ذلك.
وعادت المقاومة
وفي الزمن المعاصر، ضن الإسبان أن المخزن المغربي أمسى عاجزا عن حماية حدوده. خاصة بعد هزيمة إيسلي أمام فرنسا 1844، وسهولة احتلال إسبانيا لجزر ملوية أو كبدانة سنة 1848 بدون مقاومة مخزنية تذكر، واحتلال مدينة تطوان سنة 1859، التي لم يتم الانسحاب منها إلا بقبول المخزن لشروط إسبانية قاسية، أهم بنودها:
دفع المغرب تعويض حرب لفائدة إسبانيا بقيمة 400 مليون ريالات إسبانية، وتوسيع مساحة سبتة وحدود كل من مليلة وجزيرتي النكور – الحسيمة، وباديس، وإلزام السلطان بتوفير حاميات عسكرية لمحيط الثغور العسكرية الإسبانية في المغرب، ومعاقبة القبائل المغربية “المعتدية” على المواقع الإسبانية.
وتم تنفيذ المغرب للشروط الإسبانية، وتم فعلا توسيع حدود المناطق المذكورة في تلك الشروط، الموقع عليها من طرف السلطان في 24 غشت 1859. وحين بدأ تنفيذ توسيع حدود مليلة، سنة 1893 انطلقت المقاومة الأولى في الريف الشرقي المعاصر، كرفض تلقائي من سكان قبيلة قلعية لتوسيع حدود المدينة السليبة. ويطلق المؤرخون عليها اسم “حرب سيدي ورياش”، بسبب سقوط مدفع توسيع الحدود عند ضريح الولي الصالح سيدي ورياش. ومن أهم ما صدر حديثا في موضوع حرب سيدي ورياش، كتاب “إسبانيا وحرب سيدي ورياش من خلال الوثائق الإسبانية، للباحث جمال عاطف.
وفي العقد الأول من القرن العشرين راح الإسبان يستغلون توسيع حدود مليلة بالتمدد في أراضي الريف الشرقي ونهب معادن جبل أُيكسان. وحينئذ انطلقت مقاومة منظمة برئاسة سيدي محمد الشريف أمزيان؛ هذه المقاومة التي بدأت تعيد المغرب إلى صناعة تاريخه، وبينت أنها لم تنطلق من الفراغ، أو من رد فعل عاطفي أو قبلي، بل أن قناعة أمزيان بمقاومة التوسع الإسباني كانت نتيجة معرفته وخبرته بخطر الاستعمار على حرية الأوطان وسيادة الشعوب. فبالإضافة إلى ما كان يستخلصه من سلوك إسبانيا نحو الريف والشمال بصفة خاصة والمغرب بصفة عامة، كان مدركا كذلك أن الاتفاقيات المغربية الإسبانية كانت توقّع من طرف المغرب في ظروف ليست متكافئة.
إن مقاومة أهل الريف للغزو الإسباني، إذن، مقاومة تاريخية ومبررة لمنع إسبانيا من أن تفعل بسكان الضفة الجنوبية للمتوسط الغربي ما فعلته بمسلمي ويهود الأندلس. وفي هذا السياق تجند البعض لكي يشوه روح المقاومة عند أهل الريف بادعائه أنها مجرد غارات قديمة ومستمرة يقوم بها الريفيون على الإسبان، بوصف هؤلاء “قراصنة متوحشين”، و”إن المجتمع الريفي كان مصابا بسعار من الشراسة، ويعيش حياته اليومية … في حركية انتحار دائم”. (جرمان عياش، أصول حرب الريف، ص 96 و 97).
*أستاذ فلسفة التاريخ ودبلوماسي سابق
تعليقات الزوار ( 0 )