شارك المقال
  • تم النسخ

الذكرى المئوية لانتصارات أنوال، (الحلقة 11) تأثير الدعاية الفرنسية في الوطنيين السياسيين

قاطعت جماعات العمل الوطني السياسي مجمد بن عبد الكريم الخطابي ماديا ومعنويا، حتى في حياته كشخص مغربي يستوجب التعاطف والتآزر الإنساني، كما أشرنا في الحلقة السابقة. فهل يعود ذلك إلى اقتناعهم بالبروباغاندا الفرنسية، القائلة: إنه كان ثائرا (روغيا) طامعا في السلطنة؟ وهي البروباغاندا التي يكون عبد الرحيم بوعبيد، السياسي الاشتراكي المغربي، قد عبر عنها بوضوح أكثر في ثلاث مناسبات على الأقل: في محادثات أيكس -ليبان بفرنسا سنة 1955، وفي تصريحاته حول انتفاضة الريف سنة 1958، وفي “الحوار” الذي يقول المؤرخ عبد الله العروي أنه أجراه معه سنة 1973، والمنشور في مجلة “زمان” المغربية، عدد شتنبر 2016، الذي يزعم فيه أن الخطابي كان يريد تأسيس سلالة حاكمة جديدة مثله كمثل السعديين. أما المؤرخ جرمان عياش، المعتمد عليه والمؤيد من قبل جهات نافذة في الداخل وفي الخارج، فلم يترك أي صفة خبيثة لم يلصقها بمحمد بن عبد الكريم الخطابي وبوالده وبالريفيين عموما. 

ولا يزال البعض يردد مثل هذه الادعاءات (البروباغاندا) إلى الآن، كما يعرف المغاربة. ولا ندري حقيقة الشعور الذي جعل قادة أحزاب مغربية وزعامات تنساق وراء هذه البروباغندا، هل كانت بقصد النيل من المقاومة الريفية للاستعمار فقط؟ ويعلم الجميع أن آخر إنجاز استعماري في الموضوع قد يَكْمن في ترديد منخرطي أحزاب الحركات الوطنية عبارة “الثورة الريفية”.  

مما لا شك فيه أن الفرق جوهري بين مصطلح “الثورة” ومصطلح “المقاومة المسلحة” أو “حرب التحرير”، أو “حركة الدفاع عن الوطن في حالة الخطر”، وهي مصطلحات متداولة في التاريخ السياسي هنا وهناك. لكن كل مصطلح إلا وله مدلولاته المضبوطة، وأبعاده المعجمية. ويعلم الجميع أن مصطلح “الثورة” يعني الخروج على الشرعية القائمة، أو التمرد على الدولة ذات المشروعية. فهل تسمية حركة المقاومة والدفاع عن الوطن بـ”الثورة الريفية” من طرف “جماعات العمل السياسي الحزبي” كانوا يعنون بها أن الاحتلال الاستعماري دولة مغربية شرعية ومشرعة؟ وأن من تمرد عليها يعد ثائرا (روغيا)، أو على الأقل فتانا، أو “خارجيا” بلغة التراث السياسي للمسلمين القدامى؟  

 وبالمناسبة، ذكر علال الفاسي، زعيم “حزب الاستقلال،” في كتابه “الحركات الاستقلالية في المغرب العربي” أنه كان ذات يوم في لقاء مع الخطابي بالقاهرة، عقب لجوئه إلى مصر، فذكر أمامه عبارة “الثورة الريفية”، فاحتج عبد الكريم على كل من يصنف حرب التحرير الريفية في خانة “الثورة”، رافضا “تسمية ما قام به باسم الثورة”، قبل أن ينسب إليه السي علال الفاسي أنه تساءل باستنكار شديد: “لماذا تسمونها الثورة؟ إنها لم تكن إلا حرب تحرير ودفاع عن الوطن. (علال الفاسي، الحركات الاستقلالية…، ص 138).   

  ومعلوم أن مصطلح “الثورة الريفية” صاغته الدوائر الاستعمارية، وأطلقته وسائل إعلامها ودعايتها. خاصة أن تلك الوسائل كانت تتحكم، بصورة شبه كاملة، في ساحة الإعلام والدعية في المغرب، حتى العقد الرابع من القرن العشرين. وكانت مصطلحاتها وعباراتها مرجعا أساسا للغة الإعلامية وللخطاب المتداول في مغرب جماعات العمل الوطني السياسي أيضا. ويعلم الجميع، كذلك، أن الرأي العام يشكله الإعلام بترسباته في مشاعر الناس وأذهانهم. وهنا يجب التذكير بأن المغرب لم يعرف جرائد يومية تنتمي إلى المغرب بلا وصاية أجنبية إلاّ نادرا جدا جدا. وأول جريدة يومية صدرت في المغرب هي جريدة “السعادة”، التي أنشأتها فرنسا، كما سبقت الإشارة إلى ذلك، بهدف الترويج لمزايا استعمار فرنسا للمغرب؛ وهي الجريدة الأولى التي أطلقت عبارة “الروغي” ( Rougui)، وعبارة “الفتان” كصفة للخطابي، وكذلك صفة “الزعيم الريفي، والزعيم القبلي”. وتبقى أغلب مرجعيات المصطلحات والعبارات السياسية في مغرب الاحتلال الفرنسي، وفي معجم الجماعات الوطنية السياسية استعمارية الأصول. وقد أشرنا إلى إلصاق القاب به لا علاقة لها به، وأنه كان “ثائرا” طامعا في السلطنة، أو أنه كان “انفصاليا”. وغير ذلك مما لا تزال أبواق مغربية تلوكها ترددها إلى الآن، لأسباب علينا أن نبحث عليها في البروباغندا الاستعمارية التي غرستها في المغرب، لكي تبقى هي المتحكمة. ويعلم الجميع أنه كل ما طالب ساكنة الريف، أو المتحدرين منه، بحقوق تلك الساكنة في وطنهم اتّهموا بعدم الطاعة للملك، وبالخيانة الوطنية والانفصال!!!  

      ويبدوا مؤكدا أن تأثير معجم الاصطلاحات وألفاظ الإعلام الاستعماري طال تعابير أحزاب مغربية وأشياعهم في زمن الاستقلال كذلك. فقد استمر التلويح باتهام الخطابي بالانفصال كمبرر لحرمانه حتى من قبر في ثرى وطنه، أو تربة بلدته أجدير، كما أضحت التهمة حلا سحريا لمواجهة احتجاجات سكان المنطقة الاجتماعية والاقتصادية والثقافية. والحل السحري بالنسبة إليهم هي اتهامهم بنزعة “الانفصال وتهديد وحدة الوطن”، والحكم عليهم بالتالي بوضعهم في السجون. وجرى ذلك منذ السنوات الأولى للاستقلال إلى اليوم، كتهم 1958 – 1959 و 2016 و 2017، وما بين تلك الأزمنة الفزيائية. 

    أفادنا محمد البصري (الفقيه)، الذي عاش في المطبخ السياسي والحزبي المغربي قبل لجوئه إلى المعارضة السياسية، بأنه “كثُر الإيحاء آنذاك (العقد الأول من الاستقلال) بأن من يطرح موضوع إعادة بناء الدولة ومسألة الدستور، إنما يحركه عبد الكريم الخطابي الجمهوري، أو يخدم مصالح الاستعمار، أو يحاول التآمر على الملك. (البصري الفقيه، العبرة والوفاء، ص 86). ومهما يكن من ادعاءات محتملة على عدم اعتذار ورثة أحزاب الحركات الوطنيات السياسيات، عما وقع فيه أسلافهم، فإن الثقافة التاريخية لدى المغاربة، وثقافات حزبية، لا تزال تعاني من المدى الذي وصل إليه تشويه إرادة حركة التحرير الوطني وذاكرتها.  

      ونعرف، بألم وطني، أن أوصافا وأحكاما سالبة لشجاعة المغاربة، لا تزال تُقتبس مما كانت تنشره الصحافة الفرنسية الرسمية عن المقاومة وقادتها. وإذا سلمنا بأن الإعلام التابع للاستعمار، كان يقوم بوظيفته المنوطة به في تلميع صور وأهداف الاستعمار، وترسيخ وجوده “الإيجابي” في الأذهان، فإن ما يُستعصى فهمه عند المغاربة الأحرار، هو: كيف انساق مغاربة زعموا، ولا زالوا يزعمون، أنهم وطنيون، ومثقفون ملتزمون بتحقيق حرية الشعوب وكرامتهم، وراء البروباغندا الفرنسية غير الخفية الأهداف والمرامي، وأولها الحط من شأن المقاومة المدافعة عن حرية الوطن وشرفه؟ ووصل الأمر بالبعض إلى مستوى إنكار قيادة المقاومة ضد إسبانيا من قِبل المغاربة. (الحسن الثاني، التحدي، ص 19 و20). ويبدو أن إنكار وجود قيادة مغربية لحركة مقاومة الاستعمار يخالف، بكل وضوح، ما جاء في خطاب محمد الخامس في 29 شتنبر 1957 المشار إليه أعلاه.  

      وهل القصد من وراء الحط من مقاومة الشعب المغربي ودفاعه عن وطنه واستقلاله، هو تشجيع واعتراف بأحقية من تسابقوا للترحيب بجيوش الاحتلال، ومحاولة للتأكيد أن المقاومين المسلحين كانوا بدائيين ومتوحشين ومسعورين بالحرب؟ والتأكيد أن أدبيات المدرسة الكولونيالية، في حق الشريف محمد أمزيان ومحمد بن عبد الكريم الخطابي، كانت صائبة ومصيبة.  

     ولم يتوقف تأثير البروباغندا الاستعمارية على تأثير الإعلام فقط، بل أن قائد الاحتلال الفرنسي الجنرال ليوطي أمر بتصنيف الوجوه أو الأعيان المغاربة إلى متحضرين، إذا كانوا مؤيدين لفرنسا، وتصنيف كل المقاومين المغاربة بأنهم استبداديون ودكتاتوريون، إذا كانوا غير موالين لفرنسا؛ وفي مقدمتهم محمد بن عبد الكريم الخطابي. ذلك ما أمر به ليوطي سنة 1924 زوجين فرنسيين هما: Marthe Gouvion; Edmond Gouvion بإعداد “كتاب أعيان المغرب الأقصى” (Kitab Aâyane al-Marhrib ‘l-Akça )، وهو عبارة عن موسوعة لأعيان المغرب، أُعِدّت وفق هوى المعمرين. 

   وتبقى شهادة علال الفاسي في كتابه “الحركات الاستقلالية في المغرب العربي”، من أن الفرنسيين كانوا يحاولون بقوة إقناع المغاربة “في دعايتهم أن يجعلوا من زعيم الريف مجرّد ثائر راغب في الملك، أو ناقم يطالب بالسلطان”. (الحركان الاستقلالية…، ص 137). وهي شهادة قد ينطبق عليها قوله تعالى في صورة يوسف، الآية 26، {وشهد شاهد من أهلها}. 

*مفكر ودبلوماسي سابق

شارك المقال
  • تم النسخ
المقال التالي