شارك المقال
  • تم النسخ

الذكرى المئوية لانتصارات أنوال، الحلقة (3): المقاومة حق وجودي وليس انتحارا

  يُعَد الاستمساك بقيم الحرية والعدالة والكرامة القاسم المشترك بين ساكنة المغرب، وبخاصة عند ساكنة الشمال الواقع على مرمى مدفع من الأطماع الإيبيرية. ويتذكر المغاربة دور المقاومة في تحرير السواحل المغربية واسترجاعها من الاحتلال الإسباني والبرتغالي؛ كما يتذكرون مقاومة سكان الشمال والريف للوجود الإسباني في سبتة ومليلة دون مساعدة فاعلة من المركز، (أنظر حسن الفكَيكَي، المقاومة المغربية للوجود الإسباني بمليلة الحتلة). إن المقاومة عند الريفيين وغيرهم حق وجودي وليس انتحارا، أو وحشية، أو سعارا، إلا عند من ينكر حق المغاربة في الوجود الحر والحياة الكريمة. 

 ولا نستغرب أن تتسم علاقة الشعب المغربي، تاريخيا بجيرانه في الضفة الشمالية للمتوسط، بكثير من حالات التوجس والصدام بدل التعايش والتساكن، بسبب إصرار دول الضفة الشمالية للبحر المتوسط على إضعاف مركز المخزن المغربي بفرض كثير من الشروط المهينة له أمام مواطنيه أو رعاياه، بتعبير المخزن التقليدي. ولا نستغرب، والحال هذه، أن يوقِّع السلطان عبد الحفيظ في 30 مارس 1912 ما سُمي ظلما وعدوانا بـ”معاهدة الحماية”. هذه “المعاهدة” التي اعتبرت قطع الطريق، عمليا، على المقاومين بقمعهم ومحاربتهم، بكل أنواع السلاح، مجرد “تهدئة”.  

 انتقد الملك الحسن الثاني في كتابه “التحدي” المفهوم الفرنسي لمصطلح التهدئة، فكتب ساخرا “عجيب أمر هذا “التسكين” الذي خرب وحدة أمة، وجعلها خاضعة لاحتلال قوتين أجنبيتين، وبذر الاضطراب في العقول والقلوب، وفرّق ليسود”. (الحسن الثاني، التحدي، ص 19)، على عكس من تبنى مفهوم “التهدئة” الفرنسي لقهر المقاومة المسلحة. كالزعيم الاشتراكي المغربي، عبد الرحيم بوعبيد، الذي نُسب إليه تبنيه للمصطلح الفرنسي، وهو لا يزال على قيد الحياة، ولكنه لم يحتج، ولم يكذب برد ما.  

 ومهما يكن من اختلاف، أو خلاف، بين مغاربة معينين حول موضوع الاحتلال الأجنبي للمغرب، فلا أحد بوسعه أن ينكر أنّ إسبانيا وفرنسا احتلتا المغرب بالعدوان، واستوليتا على سيادته، وعلى ثرواته الموجودة في باطن الأرض أو فوقها، وسيطرتا على اقتصاده وأسواقه وتجارته. وكانتا، ودول أجنبية خرى، قد لجأت إلى الإغراءات الاستعمارية لدفع مختلف نخب المغرب وأعيانه وكبار تجاره إلى اختيار الحماية الأجنبية لأشخاصهم، أو التجنس بجنسيتها، هروبا من أي متابعة قانونية أو شرعية مغربية. ونعتقد بأن هذا الواقع المرير، الذي عرفته الدولة المغربية آنذاك، دفع السلطان عبد الحفيظ إلى التساؤل بإحباط كبير، وبحيرة أعظم: 

“أآمر بالقتال وجل قومي      يري أن الحماية فرضين”؟ 

   الشريف أمزيان يواجه حيل الاستعمار 

 لكن المغاربة الأحرار لم ينخدعوا بوعود الاستعمار البراقة، لأنهم كانوا موقنين بأن ليس كل ما يلمع ذهب. وكان في مقدمتهم الشريف محمد أمزيان، بادئ المقاومة المنظمة في القرن العشرين، الذي الحق بالجيش الإسباني هزائم بقيت مرسومة في الأهازيج والأشعار والروايات الإسبانية إلى اليوم. وأعقبت مقاومته مقاومات أخرى في كل من الصحراء والجنوب والأطلس، وبلاد اجبالة والهبط، وكذا في دكالة بالغرب وأنجاد في الشرق. 

    قاد الشريف أمزيان المعارك بنفسه، إلى أن سقط شهيدا في ميدان الشرف، يوم 15 مايو 1912. وصدق المؤرخ حسن الفكَيكَي بعنونة مؤلفه عن الشريف أمزيان بـ”شهيد الوعي الوطني”. وعلق محمد بن عبد الكريم الخطابي، من جانبه، على قيادته للمقاومة فقال: “أحسن التصرف في مهمته، وقام بوجبه من الإخلاص والصدق”، (عبد الكريم الخطابي، مذكرات لارينيون، ص 56).  

وبعد مرور تسع سنوات على استشهاد الشريف أمزيان انطلقت ملحمة مثلث الحرية والتحرر “ادهار أوباران وإغريبن وأنوال”؛ من أجل عزة الوطن وتجديد تاريخه، ومن أجل الوفاء للقيم التي بلورها الأجداد، وخلدتها الأجيال المغربية المتعاقبة، بصفتها أمانة مقدسة في أعناق أجيال الحاضر والمستقبل.  

 ولهذا، لم يتأخر محمد الخامس، رحمه الله، أن يشيد في خطابه بتاريخ 29 شتنبر 1957 بعراقة تقاليد الذود عن الوطن عند ساكنة المنطقة، التي أشرنا إلى مضمونه في الحلقة المتقدمة  

 ونعتقد جازمين بأن المقاومين، ومنهم الشريف أمزيان، هم الأحفاد المؤهلون للانتماء إلى العمل الوطني الصالح، الذي يرفع أصحابه درجات، وفقا لخصائص أعمالهم ومنافعها للناس؛ وهم أولئك الذين أدركوا واقتنعوا بأن ليس وراء الاستعمار إلاّ الدمار الاجتماعي والثقافي والاقتصادي والسياسي، ومعاداة قيم الحرية والعدالة والكرامة.  

ولعل وضع الشعب الجزائري، المجاور مباشرة للمغرب، الذي كان قد مر على استعماره حوالي ثمانين عاما؛ يكون وضعه الذي صوره مالك بن نبي، في مذكراته، بأنه “كان يتصعلك من فوق ويتدهور من تحت”؛ والذي أيده المؤرخ الفرنسي كَي بريفيلي (Gue Pervillé)، في مجمله، بأن الاستعمار الفرنسي لم يكن يقبل، من بين الجزائريين ضمن المواطنة الفرنسية، إلاّ من تخلى عن عقيدته الإسلامية وقيمه الثقافية، واعترف صراحة بأنه كان، قبل ذلك، متوحشا وهمجيا. (كَي بريفلي، الطلبة الجزائريون في الجامعة الفرن سية، 1880 – 1962، ص 129).  

 نعتقد بأن ذلك الوضع كان محفزا للشريف أمزيان، لأنه كان مطلعا وعارفا بما آل إليه وضع الجزائريين من خلال زياراته المتتالية لبلادهم، ومقتنعا بأن ما سيفعله الاستعمار في وطنه لن يقل عما فعله الاستعمار الفرنسي في الجزائر. وقد عبر محمد بن عبد الكريم الخطابي، لاحقا، عن المماثلة الاستعمارية بقوله “الاستعمار ملة واحدة”. 

*مفكر مغربي ودبلوماسي سابق

شارك المقال
  • تم النسخ
المقال التالي