يتساءل البعض كيف يؤكد العالم، بكل اتجاهاته الأيديولوجية، والثقافية، والقومية، اعترافه بأن حركة التحرير التي صنعت أنوال وأخواتها قبلها، وخلدت في العالمين ذِكْر المغرب، لم تكن ناتجة عن وحشية الريفيين وسعارهم كما زعم البعض، من الذين يمكن أن نعتبرهم مندسين لتشويه تاريخ الوطنية المغربية. والسبب الأكبر، في نظرنا، أن حركة التحرير كانت مرفقة بـ”مشروع مجتمعي”، لتجديد مسيرة المغرب وتحديثة في مختلف المجالات. وقد أظهرنا، فيما تقدم، أهم سماته. وركزنا، بصفة أساسية، على أهمية الصحافة في المشروع، ودورها في تنوير المجتمع، والتعريف بأحداث العالم ومتغيراته، ومساهمتها في تجديد الوعي التاريخي والاجتماعي. لأن المغرب كان بعيدا عن نشر الصحافة يومذاك؛ كما عرضنا لابتكار منهجية جديدة لتدبير مرحلة الحرب التحريرية، تمثلت في ربط مقاومة الاستعمار بالعملية الاقتصادية والإنتاج قصد تجنب فقدان التوازن في المجتمع. ومن عناصر المشروع الكبرى “التعليم”، بصفته الدعامة الأساسية للتقدم والتنمية الاجتماعية.
ولكي يتمكن مشروع مجتمع الحركة من تحقيق أهدافه على أرض الواقع، كان لا بد من الوصول إلى مغرب مخالف لمغرب السيبة ومغرب الضغائن؛ مغرب تقوم مرتكزاته على تجاوز مغرب “الريفوبليك”، وعلى التزام الجميع بعلو الشريعة والقانون على ما سواهما، وعلى الامتثال لأحكام القضاء بعد محاكمة عادلة. (انظر بالقاضي، أسد الريف، ص 98 و 99، وانظر أيضا البوعياشي، حرب الريف التحريرية…، ج 2، ص 57 و 58). واعتماد القرارات المتخذة بشأن الوطن على التشاور، أو اعتماد الطرائق الديمقراطية، المعروفة آنذاك في الدول المتحضرة، التي لم يكن المغرب قد طرق بابها بعد. وبما أن أكثر شيء يؤثر في الناس، ويحول القرارات المعلنة إلى سلوك ثقافي في المجتمع، هو القدوة؛ فإن الخطابي طبق الخطط على نفسه؛ فقد صرح لجريدة “الديلي ميل” الإنجليزية “إنه انتخب أميرا للريف (أي حاكما) من قِبَل رؤساء القبائل”. (فورنو، عبد الكريم أمير الريف، صص 98 – 100). ومن جملة الأشياء التي تحضرني على الدوام أن كثيرا من المقاومين المجاهدين الأحياء، الذين جمعتني بهم ظروف متعددة، كانوا يتذكرون باعتزاز كبير كيف كانوا ينتخبون رؤساء قبائلهم. وكانت حركة التحرير قد بادرت إلى شق الطرقات، ونشر وسائل الاتصال والتواصل بين مختلف المناطق، كالتلغراف والتلفون؛ إضافة إلى المدارس والمعاهد؛ وهي وسائل كانت منعدمة في “المغرب الذي كان”.
ومن هنا نرى أن مكانة الخطابي ورفاقه، المنسيين مغربيا، أبرزها المشروع المجتمعي في المرحلة الثانية من الحركة الوطنية التحريرية؛ بما في ذلك التغيير الثقافي والاجتماعي، والسياسي والاقتصادي على أرض الواقع. وينسب إليه أنه لم يكن يضع فرقا بين المساجد وبين مداخن المصانع. وكان يؤكد النتائج المتلاحمة بينهما.
ويُبعث المغرب في زمن “الاستعمار ملة واحدة”
كان الخطابي ورفاقه، إذن، يريدون انبعاث المغرب واستعادة دوره في التاريخ الفاعل؛ ويبرهنوا في الوقت نفسه على أن الاستعمار، مهما تختلف شعاراته، فهو “ملة واحدة”. وظهرت تلك الملة جليا في اتحاد الإخوة الأعداء، (إسبانيا وفرنسا،) ومساعدة إنجلترا بأسطولها البحري، وألمانيا بالسلاح الكيماوي، وأمريكا بطياريها، على هزم المقاومة الريفية عسكريا، من أجل الحفاظ على “هيبة الاستعمار” عند المستعمَرين، ولو باستعمال الأسلحة المحرمة أخلاقيا، والممنوعة قانونيا.
وفي المقابل اعترف العالَم، المناصِر لحقوق الشعوب في الوجود الحر، صراحة وضمنيا: إعلاميا وتنظيريا، توثيقا وتأريخا، تقويما وتقييما، بأن الريفيين لم يخدشوا أمبراطورية الاستعمار فحسب، بل أكدوا أن مقاومتهم التحريرية حملت مشروع تطوير للمغرب يتماشى مع ما كان يجري في العالم آنذاك من تحديث اجتماعي وثقافي، ومن حداثة سياسية، ومن تحولات اقتصادية، وتحقيق الديمقراطية، أو إشاعة المواطنة، وفقا للمصطلح الراهن في الدول الديمقراطية ممارسة. وتلخص جملة أم المؤرخة الإسبانية ماريا روسا دي مادارياكَا: “لو انتصر عبد الكريم لما حكم فرانكو إسبانيا” رؤية المتحررين إلى واقعة أنوال. ولا تمل المؤرخة الإسبانية من تكرارها في جميع حواراتها وكتاباتها، لأنها دفعتها إلى معرفة ما جرى وحدث في الريف، فهي تلخص الآمال التي كانت منعقدة على حركة التحرير الريفية من قِبَل شعوب المنطقة، وليس المغرب وحده؟ فهل كانت مواقف المغاربة “النافذين”، وكذا من أطلقوا على أنفسهم قادة على ما أصبح يعرف لاحقا بـ”جماعات العمل الوطني السياسي” أو الحركات الوطنيات السياسية في المغرب؟
بين الوطنية التحريرية والوطنية السياسية
ما وصل إلينا حتى الآن من وثائق وتصريحات وكتابات من طرف أولئك الذين نصبوا أنفسهم، منذ ثلاثينيات القرن العشرين، كزعماء وقادة للعمل الوطني السياسي، أنهم لم يعتبروا تجربة حركة التحرير الريفية مرجعية لهم، لا من حيث الشكل أو المضمون. ومن الأشياء التي تحضرني شخصيا بالمناسبة، أنه حينما كنت مستشارا علميا، ما بين 2002 و2006، لدى مجلة الذاكرة الوطنية، التابعة لمندوبية المقاومة وجيش التحرير لاحظت، أثناء اللقاءات التي كانت تعقدها المجلة مع قدماء المناضلين الوطنيين، أنهم لم يكونوا في اجتماعات خلاياهم الحزبية على وفاق مع نهج زعمائهم السياسيين، بل أنهم كانوا يؤمنون بمنهج عبد الكريم الخطابي في تحرير المغرب وتحديثه.
ونظن أن أغلب قادة الوطنيين السياسيين انخرطوا فيما روجت له البروباغندا الفرنسية؛ وربما اقتنعوا فعلا بأن الاستعمار ضرورة لتحضر الشعوب المتخلفة، وبالتالي فإن وجوده وجود شرعي، حسب أغلب الدراسات الاستعمارية، والذين تأثروا بها. وربما كانت رؤيتهم، عن قصد ومكر، أو عن غباء وطني سياسي، أن ما قام عبد الكريم الخطابي ورفاقه كان عملا متهورا ضد دولة الشرعية والحضارة. ولا يزال هناك من يردد عبارة “الثورة الريفية” إلى الآن، كما سبقت الإشارة إلى ذلك. والثورة في اللغة المعاصرة وفي المصطلح الراهن لا علاقة لها بالعبارات التي يستعملها إعلاميون وكتبة وحزبيون عن قصد، أو عن جهل. وكمثال على ذلك ما أشاعه الانقلابيون العسكريون في أقطار عربية بأن أطلقوا على انقلاباتهم صفة “الثورة”. ويُعد ذلك، في نظرنا، إهانة لمفهوم الثورات المعاصرة، منها الثورة الفرنسية، والثورة البولشيفية الروسية، والثورة الإيرانية، بغض النظر عن موافقتنا لما آلت إليه أو مخالفتها. اما مصطلحات المقاومة الوطنية، والدفاع عن الحرية، والتحرير من الاستعمار، فهي مصطلحات المواجهة المسلحة ضد الغزاة والاستعماريين والمحتلين.
علمتنا الحياة السياسية والحزبية في المغرب أن طرح أسئلة عن محمد بن عبد الكريم الخطابي يمكن أن تؤدي بصاحب السؤال إلى ما لا تحمد عقباه. وعلمنا التاريخ السياسي للمغرب أنه إذا ما طرحت سؤالا يدور عن منجزات الخطابي، وحتى إذا لم يحدث لك مكروه، فإنك تُسجل في قائمة المطالبين بالانفصال، وفي أفضل الأحوال تُعد من المعارضين للنظام الملكي.
ولهذا اضطر المهتمون أن يطرحوا أسئلتهم بحرية خارج المغرب، وفي باريس بالذات. ولذا انعقدت ندوة باريس حول الخطابي سنة 1973، أي بعد 46 سنة من توقف المقاومة، وبعد حوالي 16 سنة من قيام “الدولة الوطنية”. ولاحظ الجميع كيف غابت قيادات الحركات الوطنية عنها؛ خاصة تلك التي لم تكن في المعارضة الخارجية، كما غاب عنها “مثقفوها”. وقد أوجز المؤرخ عبد الله العروي، في تلك الندوة، صورة الخطابي لدى قادة أحزاب الحركات الوطنية، فأوضح أن القاسم المشترك بينهم، هو عدم اهتمام أيّ منهم بتجربته وبتركته، بدليل أن أي واحد منهم لم يتخذها سندا أو مرجعا لعمله السياسي، ولو على سبيل الاستئناس.
ونعتقد بأن ما يمثله، قائد حركة تحرير وطنية التي حرَّكت الهمم ونوازع التحرر لدى الشعوب المستعمَرة في المنطقة وفي العالم، كان يتطلب عقل سياسي مغربي أصيل. وشتان بين مواقف زعماء سياسيين مغاربة وبين موقف عالم اجتماع فرنسي، مثلا، سبق له أن عمل في الإدارة الاستعمارية في شمال إفريقيا، وهو جاك بيرك (تـ1995)، الذي قيّم محمد بن عبد الكريم الخطابي في ندوة باريس بالمقولة التالية: “قيمة البطل التاريخي لا تكمن فيما فعله فقط، بل فيما تركه ليفعل”.
*مفكر ودبلوماسي سابق
تعليقات الزوار ( 0 )