شارك المقال
  • تم النسخ

الذكرى المئوية لانتصارات أنوال، (الحلقة 21)، مسارات رسمية ومنعرجات في تاريخ المغرب

في الوقت الذي لا يزال فيه طموح المغرب والمغاربة يأمل في انبعاث وطن سعت إليه الحركة الوطنية التحريرية وأجيال النضال المغربي، وتحقيق المواطنة ممارسة، بعد مرور قرن من الزمن على انتصارات أنوال وأخواتها؛ هي انتصارات على عجزنا السابق أو على أوهامنا المتخيلة، فإننا نتساءل: ما ذا كانت مواقف الدائرة الرسمية المغربية العليا مما جرى ويجري؟ 

  لن نتحدث عن نتائج ومسارات السياسة الرسمية للمغرب، منذ هزيمة “إيسلي”، صيف 1844، وإنما ننطلق من بداية ظهور المقاومة المسلحة المنظمة، أو الحركة الوطنية التحريرية، في العقد الأول من القرن العشرين؛ فبعد مواجهة الريفيين للداعي الجيلالي الزرهوني (بوحمارة) وهزمه في أواخر صيف  1908، واندلاع مقاومة سيدي محمد الشريف أمزيان ورفاقه للتمدد الإسباني في الريف الشرقي، التي حققت انتصارات تلو انتصارات على الغزاة، منذ 1909 إلى يوم استشهاده بتاريخ 15 مايو 1912، على يد مجند مغربي في الجيش الإسباني تحت مسمى “البوليس الأهلي”. وعند مراجعة التقارير المغربية الرسمية نجد أن الوصف الذي كانت تطلقه تلك التقارير على الشريف أمزيان، هو “الفتان أو مثير الفتن”. (رشيد يشوتي، “إسبانيا والريف والشريف محمد أمزيان، ص 329).  

 كانت صفة الفتان أطلقت من قِبَل عمال المخزن الحفيظي، ونسأل عن مواقف السلطان مولاي يوسف من المقاومة الوطنية الثانية، ومن قائدها محمد بن عبد الكريم الخطابي؟ فنجد أنها تتراوح بين تهمة “الفتان” و”الثائر”، أو الخارجي عن حكم السلطان الشرعي، بلغة الموروث الإسلامي القديم، أي الروغي Rougui بلهجة فرنسية استعمارية مغربية احتيالية، وأنه انفصالي عن دولة المغرب، إلخ… من أجل الحط من قدر الخطابي ومكانته في وجدان المغاربة الأحرار. ولا يزال هناك من يردد هذه النعوت دون أدلة أو قرائن معقولة. فمثلا القول إن الخطابي كان خارجيا عن حكم السلطان، وكأن السلطان هو من كان يحكم المغرب، وأن الوطن المغربي لم يكن مستعمرا وفاقدا لسيادته. أما القول بأن ابن عبد الكريم كان انفصاليا، فإنه يخفي بغباء بأن الرجل كان انفصاليا عن إسبانيا وعن فرنسا لصالح استعادة المغرب سيادته ومكانته في التاريخ الفاعل.  

     وفي السياق نفسه، يكون من الألم الوطني، بل الألم الوجودي كذلك، أن يستمر بعضهم في ترديد تُهم الاستعمار ضد الخطابي، بما فيها تهمة الانفصال ضده وضد ساكنة الريف. وقد تكررت تلك التهمة ضد الرعايا الريفيين خلال انتفاضة 1958/ 1959، المطالبين بالحد الأدنى من حقوقهم في وطنهم المستقل. وراحت الأحزاب تتهم حراك الريف في سنتي 2016 و2017، أثناء مطالبهم، مجددا، بالعيش الكريم في بلدهم، والتعليم العالي في مجالهم الجغرافي، ومستشفى متحصص في علاج أمراض السرطان المتكاثرة في المنطقة، منذ قيام إسبانيا وفرنسا باستعمال السلاح الكيماوي ضد الريف في عشرينيات القرن العشرين. ولن يتم نسيان صورة الأحزاب الستة وهم يعلنون مجتمعين بتاريخ 14 مايو 2017 بأن الحراك له نزعة انفصالية. 

     وبالعودة إلى موقف السلطان مولاي يوسف، نجده يختم توصيفه للمقاومة في الريف بعبارة “جرثومة العصيان” في خطاب له بباريس في 14 يوليو 1926. (جريدة السعادة، عدد 20 يوليوز 1926). 

       وفي عهد محمد الخامس لم يصلنا شيء عن موقفه من الخطابي أثناء منفاه الفرنسي في لارينيون. لكنه حين قام بزيارة الريف أول مرة، القى خطابا في الحسيمة بتاريخ 29 شتنبر 1957، أشاد فيه بالشريف أمزيان وبمحمد بن عبد الكريم الخطابي وأخيه، وببعض وجوه المنطقة الذين خدموا العرش العلوي منذ تأسيس الدولة العلوية. ثم جاء خطابه في ربيع 1959 الذي أعلن فيه عن قرره بإعادة أملاك عبد الكريم ورفاقه، التي استولى عليها “المسؤولون السابقون إلى أصحابها”. وفي أوائل سنة 1960 زار محمد الخامس مصر. وأثناء الزيارة قام بزيارة محمد بن عبد الكريم في بيته بالمنفى المصري. ومن جملة ما قرره الملك، في تلك المناسبة، أنه خصص معاشا لعبد الكريم وأخيه امحمد لأول مرة، منذ نفيهما سنة 1926، وهو عكس ما ادعاه الطريس سنة 1936. 

     أما الملك الحسن الثاني فقِيّم مقاومة الريفيين واجبالة للاستعمار، في كتابه “التحدي”، فاعتبر أن ما حدث في الريف كان لعبة، ولم تكن تدار لا من قِبَل المغاربة، ولا من الإسبان أو الفرنسيين (التحدي، ص 19 و 20)، دون أن يوضح من كان يديرها. الأمر الذي ترك الباب مشْرَعا على كل التأويلات والقراءات والاحتمالات. ثم أن الحسن الثاني أمر بمنع صرف المعاش لمحمد بن عبد الكريم وأخيه امحمد، الذي كان والده محمد الخامس قد قرره لهما في يناير 1960، بسبب نقد الخطابي لدستور نونبر 1962.  

 ولم يتراجع الملك الحسن الثاني عن أمره أو قراره إلا بعد مضي زهاء 18 عاما. وكان محمد بن عبد الكريم وأخوه قد رحلا عن دنيانا، حين أمر في أوائل الثمانينيات بصرف معاش لكل الأحياء من بنين وبنات مُحمد وامحمد ابني عبد الكريم، وكذا أبناء وبنات عمهما عبد السلام. ومن جانب آخر، لم تكن ذكرى أنوال تُحيى بصفة رسمية إلا في سنة 1998، من قبل مندوبية المقاومة، بعد أن تولى عبد الرحمن اليوسفي المتحدر من الشمال الوزارة الأولى. غير أنه تجب الإشارة إلى أن حزب الاستقلال كان يحيي الذكرى باحتشام، منذ سبعينيات القرن العشرين. 

     الأمل في تحرير النظر التاريخي  

      وفي عهد الملك محمد السادس عاد أمل المغاربة في قدرتهم على إعادة بناء “المغرب المهدوم”، بتعبير عبد الله العروي، والمبعد عن طموحات الآباء والأجداد، حسب ما جرى ووقع في دولة الاستقلال، بعد أن انتصرت منهجية السيطرة على سلطة الدولة وريعها، وبعد أن تشتت، بطريقة تراجيدية، شركاء الوطن المختلفون سياسيا وأيديولوجيا، الذين ابعدوا التوافق السياسي، الذي يبني الدول الناجحة والأنظمة الديمقراطية الناجعة، عن مناهجهم. وكَبُر الأمل في أن المغرب سيتجاوز وهاده الخطيرة بنجاح، بعد أن قرر جلالة الملك محمد السادس إنشاء “هيئة الإنصاف والمصالحة” بظهير ملكي في 2004. وساد الاعتقاد بأن ترميم “المغرب المهدوم” أمر ممكن.  

وبدا للمغاربة أن أحد أهم أهداف هذه الهيئة، هو تعزيز حقوق الإنسان المغربي وحمايتها. وكان المغاربة، ولا يزالون، يؤمنون بأن من حقوق الإنسان احترام تضحياته، وتاريخه، ورموزه، وتحقيق التنمية الاجتماعية والثقافية، والتقدم الاقتصادي لجميع أرجاء المغرب، وترسيخ النظام الديمقراطي.  

أما فيما يخص الذاكرة الوطنية والتاريخ، فإن الخطاب الملكي في 6 يناير 2006، المُختتِم لأشغال تلك الهيئة، أعلن بوضوح وشفافية عدم وجود أي حكم جاهز على التاريخ بقوله: “المؤرخون وحدهم المؤهلون لتقييم مساره، بكل تجرد وموضوعية، بعيدا عن الاعتبارات السياسية الظرفية”. إلا أن تحقيق مضمونه على أرض الواقع لن يحدث بعد، على الرغم من مرور 15 سنة وزيادة على المنطوق الملكي. ولذلك، نسجل بكثير من الأسف أن أحوال البحث، والدرس، والتأليف، والكتابة والنشر، بالنسبة للخطابي، وأنوال وامتداداته، لا تزال بعيدة عن التحقيق. ويبدو أن مراكز البحث التاريخي والجامعة المغربية لم تطلع على الخطاب الملكي، أو أنها لم تفهمه فهما إيجابيا. لكن تجب الإشارة إلى أن إصدارات لمؤلفين وباحثين في تاريخ حركة التحرير ورجالاتها لم يتعرضوا لأي مساءلة أو عقاب عن آرائهم، فيما أعلم. غير أن ما نود الإشارة إليه في هذه اللحظة، أنه يصعب أن نشعر شعورا واضحا بأن السياسات القديمة في الريف قد تغيرت تغييرا جوهريا، بالنظر إلى تقييم الواقع المعيش من قِبَل غالبية الساكنة؛ لأن دار لقمان، غير الحكيم، لا تزال على ما كانت عليه إلى حد بعيد. 

     وما نسجله في خاتمة هذه الحلقات ..أن المغاربة يُحيون الذكرى المائوية الأولى لانتصارات أنوال وأخواتها، وما زالت رفاة محمد بن عبد الكريم محرومة من ثرى وطنه المغرب، ومن تربة بلدته أجذير-الحسيمة، وما زال أحد أهم مراكز انبعاث الوطنية التحريرية في المغرب يتعرض للإهمال والتخريب، وإدخاله إلى ثقافة النسيان، وما زال مثلث “ادهار أوبران وإغريبن وأنوال” ينتظر تسجيله في مآثر الانبعاث المغربي المعاصر، وما زال مشروع  المتحف الجامع للوقائع التاريخية، والوثائق المادية واللامادية لحركة التحرير الوطنية في الريف، يتساءل عن أسباب عدم تنفيذه على الأرض، منذ وعود هيئة الإنصاف والمصالحة؟ هل العرقلة والمنع انتقام استعماري من المغاربة الأحرار، أم مجرد إهمال ولا مبالاة إدارية محلية؟  وهل ما يحدث على أرض الواقع يساعد على ترميم “المغرب المهدوم” وأحرى أن يتم تطويره؟ 

*مفكر ودبلوماسي سابق

شارك المقال
  • تم النسخ
المقال التالي