نعترف من حيث المبدأ أن الوطن يعيش محنة حقيقية، على غرار باقي بلدان الكون، تهديد هولامي مخيف يصنع الرعب ويربك أقوى الأنظمة الصحية بالعالم، كما هو حال إيطاليا؛ تلك القوة الصناعية العظمى.
ولأن نظامنا الصحي هش بشكل يعجز عن ضمان أدنى شروط السلامة الصحية في الظروف العادية، فإن رص الصفوف والتعبير عن التضامن ينبغي أن يشكل مؤشرا لجبهة وطنية ملتحمة تقديرا لخطورة اللحظة وغموضها.
ومع التعليمات الملكية بخلق صندوق التضامن ضد كورونا، حري بالأثرياء التعبير عن الروح الوطنية، دون لف أو دوران . فوباء “كورونا” كفيل بتبيان هل نملك بورجوازية مغربية وطنية تنتصر للمشترك الإنساني، وتؤمن بالدولة كنسق قيمي وكبنية مؤسساتية ضامنة لوحدة المجتمع؟ أم أن أثرياء الوطن مجرد بنية أوليغارسية، إقطاعية وكومبرادورية لا تعرف من الوطن سوى كونه أصلا تجاريا للربح ؟.
وما يعيشه العالم يؤكد أن المصير واحد، ولذلك وجب تحفيز الهمم والانتصار للمشترك، دون الإنزواء إلى مدارك الجدل العقيم والسجالات الفارغة. اللحظة عصية جدا بما يسائل كل المغاربة ويدعوهم إلى التسلح برباطة جأش لضحد المخاطر المحذقة بالجميع.
وعلى الأحزاب السياسية المتجذرة والحركات المدنية المستقلة والفرقاء الاجتماعيين التعبير عن استعدادهم للانخراط في كل ما من شأنه حماية الوطن من هذه الجائحة. وبذلك سيتأكد أن الاختلاف مجرد مواقف تدين الفساد وتحاكمه على ضوء المتاح من التشريعات، دون أن تتجاوز سقف المشترك الموحد لكل الإختلافات، وماذا يكون الوطن سوى ذلك المشترك المقدس وفق قدسية اللحمة الشعبية على قاعدة التعاقد الحاصل منذ قرون .
إن خلق صندوق التضامن مهم جدا على درب تحفيز الهمم لاستعاب حجم المخاطر، على أن الدولة مطالبة بالذهاب بعيدا لتقديم الاطمئنان للميزاج العام للتأكد من سلامة النوايا، ومن ذلك تحويل الميزانيات المخصصة للمهرجانات الى صندوق كرونا.
وعلى سبيل المثال لا الحصر ميزانية مهرجان موازين، والذي طالما حقق النقاش فيه درجة عالية من الإنزياح بعلة كون المساهمين اشخاصا ذاتيين و شركات خاصة مساهمة، وكأن المساهمة بالمبالغ نفسها لصندوق كرونا يقل أهمية عن منح مبالغ خيالية لفنانين على المقاس.
ولزوما يجب على طبقة المحظوظين الانخراط الفعال و المستعجل بمبالغ مهمة للصندوق، بدل انتظار جحافل البؤساء، رغم أن كل المساهمات مطلوبة، مهما كان حجمها، بما يسائل كل الفئات.
إن جائحة كرونا يفيد ضرورة فهم الدولة ان المراهنة على الشعب لا محيد عنه في لعبة التدافع الحاصل دوليا، سيما مع تعدد المخاطر بمنطق يتجاوز تلك المخاطر التقليدية التي اعتادت الدول و الأنظمة أخذها بعين الإعتبار .
فـ”كرونا” أولا يضع الأمن القومي المغربي في ميزان التقييم لإصلاح ذات البين وتوطيد لحمة الجبهة الشعبية وتقديم الدليل للعالم أن هنا يعيش شعب مغربي خبر تاريخ الأزمات وقادر على الانخراط المصيري في صلب توجهات الدولة بقناعة ورضى.
وقد تشكل الظرفية فرصة ذهبية لإعادة التفكير في قضايا عالقة من طينة ملف الاعتقالات والمحاكمات تقديرا لوحدة المصير، ويمكن للدولة التوجه نحو جس نبص كل الأطراف، على أن تعبر هذه الأخيرة عن حسن النوايا، بعيدا عن منطق لي الأذرع واستعراض العضلات، تحت مسميات متعددة.
فمحاربة الفساد يسترعي تعبيد طريق النضال الديموقراطي وفق قوالب الترافع المكفولة، دون تهور ودون القفز عن حدود التوافق الشعبي المؤسس على أهمية الثوابت في ضمان اللحمة، لاسيما مع دقة المخاطر الدولية المتجددة بما لا يخطر على بال بشر.
إن اللحظة عصيبة جد، ونظامنا الصحي رديء جدا، ولسياسات العمومية مهما اجتهدت تظل دون مستوى التحولات الحاصلة كونيا في ظل النظام العالمي الجديد، حيث يختلط الاقتصادي بالسياسي، والأيديولوجي بالأمني والبيئي بالوبائي، حتى أصبح العالم ساحة الغير لتهديدات تكاد لا تتوقف أبدا.
وعبر مخاطر كرونا، على الدولة الانتصار للشعب واعتماد مصالحة حقيقية بكل تواضع، لأن الدولة الفاضلة تستمد مشروعية وجودها من خدمة قضايا شعبها، وعلى الشعب، من خلال قواه الحية، التعبير عن الإيمان بالدولة كنسق مؤسساتي وجهاز مفاهمي وكبنية رمزية موحدة تضمن سلامة التفكير في المصير المشترك.
و إذا نجحت الدولة، من جهة، في التخفيف من حدة ممارسة العنف المشروع، بالاحتكام الى قيمة الرحمة والعفو إزاء الشعب عبر التخفيف من حدة التأديب حيال كل الحالات العالقة حتى الآن دون استثناء ولا تمييز.
و إذا نجح الشعب، من جهة ثانية، في منح الثقة للدولة، من خلال ضبط مواطناتي للفرق بين الحق في الاحتجاج ضد الفساد ، والسعي لتبخيس الدولة ومحهوداتها. فإننا قد ننجح جميعا في دمقرطة الدولة ودمقرطة المجتمع .
إن صندوق التضامن ضد كوفيد 19 قمين برجحان كفة الحكمة بميزان جد حساس تفاديا للمناوشات التي تجعل طرفا يخون طرفا آخر، بما يجفف منابع الثقة بين الطرفين، ويهدر الطاقة و يسيء للمشترك الإنساني الجامع المانع تحت مسمى واحد بقدسية عالية، أقصد “تمغرابيت”.
ترى هل سيعتبر الجميع انتصارا للمشترك، أم سندبر الأزمة وفق ردود الفعل المتأزمة الظرفية الجامحة، ثم ستمر الأزمة ويبقى الوضع المغربي مشحونا بسبب الملاسنات والمناوشات وتبادل الاتهامات بين أبناء الوطن الواحد؟.
وإذا كنت أعتبر القوى الديموقراطية الحية ملزمة بمد اليد لتجديد التعاقد وبناء توافق وطني جديد لصالح حلحلة كل المعيقات، فإنني أعتبر الدولة ملزمة بإبداء حسن النية ، إلى أن يثبت العكس، من خلال التقارب الصادق مع الشعب، وذلك بالإيمان بكون الدولة مبدئيا في خدمة شعبها نحو شرعنة السلطة لصالح المصلحة الفضلى للمغرب، دولة وشعبا.
ترى هل تنفع الذكرى المؤمنين، فاللحظة مناسبة لطي كل الملفات وبداية صفحة جديدة عنوانها، مغرب المستقبل موحد، متضامن، ديمقراطي، وحداثي!!
*محامي بمكناس، خبير في القانون الدولي، قضايا الهجرة ونزاع الصحراء
تعليقات الزوار ( 0 )