في حين أن العبء والمسؤولية المطلوبة منك كونك “عاقلاً”، لا يمكن التنازل عن أحد أساساتها، إلا أن هذا العقل يعيش ظروفاً وتحديات أقل ما توصف أنها “مرعبة”، سيما في ظل الزخم المعلوماتي والثقافي والاتصالي الذي تلقي به رياح الانترنت ولا تكاد تهدئ البتة.
وقد فتح تغير الأدوات والوسائل الإعلامية، نوافذاً مهولة من المرئي والمسموع والمقروء، مستفيداً من تسخير الوسائل الجديدة في توسيع الإبداع والابتكار في نقل المعلومة، الأمر الذي ينتهي بجولات وصولات لا متناهية بين “أقسام” السيبرانية الضخمة، متمثلةً بالمواقع والتطبيقات التي اتخمت بها هواتفنا النقالة، التي أصبحت لازماً ملازماً للفرد مثل اسمه وبطاقته الشخصية!
إن هذا التداخل المعرفي، والبحبوحة العريضة الرقمية، توجد منابعاً معلوماتياً تحول دون اختيارية الفرد للنسق المعرفي والثقافي الذي يريده، إذ وحتى إن كان مستخدم الشبكة العنكبوتية بالغاً وراشداً ومدركاً للصواب من الخطأ، إلا أن هناك أنساق واتجاهات باتت تفرض على المتلقي، مما يعني أن الفضاء السيبراني بات شريكاً “من الدرجة الأولى”، في تكوين المعرفة وتشكيل الخبرة التي تنمو لتنضج سلوكاً معاشاً، وقيمةً نؤمن بها، وتلتصق بشخصيتنا، فكيف يمكن إدارة ذلك؟
إن المدخلات الحسية التي يتلقفها العقل آلاف بل ملايين المرات حول العالم من المواقع الإلكترونية والمنصات، والمدونات، والتطبيقات على اختلافها، تعمل على بناء معارف جديدة تتخذ من العقل اللاواعي مسكناً ومستقراً لها، مما يضع تساؤلات خطيرة حول طبيعة الغذاء العقلي للأطفال، سيما مستخدمي الانترنت. إذ “يعتبر الشباب اليوم القوة المحركة للاتصال الإلكتروني العالمي، إذ تشير الأرقام أن في عام 2022، 75% من الذين تتراوح أعمارهم بين 15 و 24 عاما يستخدمون التواصل عبر الإنترنت، مقابل 65% مقارنة ببقية سكان العالم” كما تشير احصائيات منظمة الأمم المتحدة. ويعتبر العقل اللاواعي متفوقاً بمئات المرات على ذلك الواعي الذي يضطلع بالعمليات الحسابية والمنطقية، وبخاصة أنه المسؤول عن أكثر من 95 بالمائة من أحاسيسنا، وسلوكياتنا، وعواطفنا، وانفعالاتنا، بل وقراراتنا كما أظهرت نتائج الدراسات، كما أن العقل اللاواعي هو المحرك الرئيس لسرعة دقات القلب، والتنفس، والوظائف البيولوجية اللاإرادية في الجسم.
وإذا ما تجاوزنا المخاطر الرئيسة للإنترنت على فئة الشباب -مثلاً- من تنمر إلكتروني عميق الأثر على الصحة النفسية، والتحريض على خطاب الكراهية، والانتحار، والاستغلال الجنسي، فإننا نقف بالفعل أمام معضلة أخلاقية كبيرة تتمثل في تحييد المسار التكويني للبنية العقلية السليمة، استناداً لمبدأ “العادات”، إذ أن القيام بالمهام والوظائف أو التلقي المباشر بشكل مستمر ومكرر يقوم ببناء عادة ثابتة في اللاوعي الإنساني يبدأ يتصرف بالاعتماد عليها دون أدنى تفكير.
وإن هذا الأمر يعني التهديد الصريح للأسس الأخلاقية والموروثات الثقافية التي تواجه زوابعاً من “الترسيخ المكثف” الالكتروني، من خلال ضخ الرسائل المختلفة، وبخاصة في ظل انتشار المؤثرين القائم عملهم -في الأغلب- على الصفقات الإعلانية الممولة ونشر المعلومات والتشجيع على “ثقافة الاستهلاك” واقتناء كل ما هو مصدر ثقة ذلك المؤثر، إلى جانب اتخاذ “المؤثرين المفضلين” كقدوة توجه السلوك، وليس بأدل على ذلك من “هبّات التريند”، و”موضة الأزياء”، وحتى العادات اليومية. فهل يسير المجتمعات اليوم في اتجاه برمجة عقولهم اللاواعية؟
إن “الوجبة الرقمية” التي يتغذى عليه العقل الإنسان اليوم تمثل تماماً النظام الغذائي الحياتي، فإما أن يكون صحياً يبشر بديمومة صحة وطاقة ونشاط، وإما أن يكون متخماً بالسكريات والنشويات والدهون منذراً بحزمة أمراض مزمنة “عالية المستوى”، سيما أن المتابعات والصفحات والتريندات التي بتنا نعيش نحن معها، لا تتوقف على التلقي، بل إن وظيفتها الاختراق، هناك بجانب باب العقل اللاواعي الموصد، تبني إدراكات جديدة، وتشيد قناعات مختلفة، فالحذر الحذر.
*أمين عام المجلس العالمي للمجتمعات المسلمة
تعليقات الزوار ( 0 )