Share
  • Link copied

عبد النبي الحري يكتب: دفاعا عن الشغب السياسي للشبيبة الحزبية

بين “من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه” و”المثقف هو الذي يتدخل فيما لا يعنيه”، نتلمس خيطا رفيعا يضمن لقولنا هذا الحد الأدنى من المشروعية الفكرية والأخلاقية.

فهذا حزب كبير يتم تمويله من جيوب المغاربة، على مستويين اثنين: أولهما الدعم العمومي السنوي المخصص للأحزاب السياسية؛ وثانيهما: المساهمات المالية الفردية التي يقتطعها عشرات الآلاف من المغاربة من أموالهم الخاصة، ويقدمونها كواجب نضالي يعبر عن انخراطهم المادي، إلى جانب المعنوي، في هذا الحزب. يتعلق الأمر بمال عمومي يجب أن يحظى بالمتابعة والمراقبة والمحاسبة الدقيقة من لدن كل مواطن، بما هو مواطن، فما بالك إن كان قدره أن ينتمي إلى فئة يسمها التقليد الاجتماعي ب”المثقفين”.

وهذا أيضا حزب سياسي كبير يدبر شؤون المغاربة، من موقع رئاسة الحكومة،  ما يقارب عقدا من الزمن، واتخذ قرارات ستكون لها انعكاسات على مصير البلاد والعباد، ومرشح بقوة ليفوز بولاية حكومية ثالثة، خاصة مع تراجع فظيع للأحزاب الوطنية التاريخية، وعجز فادح لما يعرف ب”الأحزاب الإدارية”.

وقبل هذا وذاك، فنحن نطمح لتحقيق انتقال ديمقراطي حقيقي، نود أن تلعب فيه الأحزاب السياسية دورا رياديا.

لكن استسلام الأحزاب المغربية لداء المحافظة السياسية، والميل المزمن لمراكز القيادة والنفوذ فيها إلى الجمود والسكون، لا تقدر على تحريك مياهه الراكدة إلا المبادرات الشبابية المتحررة من طوق المساومات والتسويات والتوازنات التي تكبل الكهول والشيوخ عادة، ولا تترك لهم إلا هوامش ضيقة للحركة والمناورة.

من أجل ذلك نخصص هذا المقال لإبداء مجموعة من الملاحظات على هامش الوثيقة التي تروج بين أوساط إعلامية واجتماعية وسياسية، والمسماة ب”مبادرة النقد والتقويم”، والمنسوبة لشباب من حزب العدالة والتنمية.

لعل الملاحظة الأولى التي تفرض نفسها هو أن الوثيقة التي بين أيدينا لا تحمل توقيع أي جهة معينة، ولا هي مذيلة بتوقيعات أشخاص بعينهم، كما أننا لم نعثر عليها في أي موقع رسمي للحزب المعني، ولا أي موقع تابع لإحدى هيئاته الموازية وفي مقدمتها الموقع الرسمي لشبيبة البيجيدي نفسها.

وهي مسألة غريبة أن يتحدث الكثيرون عن هذه الوثيقة، من القيادات والقواعد، من الشباب والشيوخ، ولا أحد كلف نفسه، في حدود ما نعلم، نشرها على صفحته في أحد مواقع التواصل؛ بل إن مكتب المجلس الوطني، وهو أعلى هيئة تقريرية في الحزب المعني، نشر بلاغا حول تسلمه للوثيقة، ولم يكلف نفسه عناء نشرها  وإطلاع الرأي العام الحزبي على مضمونها، ومن خلاله الرأي العام الوطني.

إن من يطلع على هذه الوثيقة لا يجد فيها أي فكرة خاصة وفريدة يمكن اعتبارها شأنا حزبيا داخليا خالصا، يبرر هذا التحفظ على مشاركتها مع الرأي العام، بالنظر إلى ما تضمنته من مواقف واختيارات معروفة ومتداولة على أوسع نطاق، مما يطرح أكثر من سؤال حول الأسباب الحقيقية لعدم نشرها بشكل رسمي ومسؤول.

نحن إذن أمام صعوبة توثيق الوثيقة، والإحالة إلى أي مصدر من مصادرها، كما تقتتضي ذلك قواعد وأعراف كل كتابة تريد أن تكون مسؤولة وذات مصداقية. غير أن توصلنا بنفس الوثيقة ومن مصادر متنوعة تجعلنا نجازف بفتح المجال للنقاش مع أهم ما ورد فيها.

اختار كتبة الوثيقة لها العنوان التالي: “مذكرة موجهة للمجلس الوطني لحزب العدالة والتنمية للمطالبة بعقد مؤتمر استثنائي”، لكن قراءة متنها تفيد أن طموح من كتبها يتجاوز ضيق أي استحقاق تنظيمي مهما علا شأنه، كالمؤتمر الاستثنائي، ولا يمكن أن تحتويه أية قناة تنظيمية مهما كان وضعها الاعتباري، كما هو شأن المجلس الوطني.

من بين العبارات القوية والدالة التي وردت في ديباجة المبادرة، تلك التي تصف الوضع داخل الحزب وشبيبته بحالة “القلق الذي نتج عنه أرق“. بحيث سيكون من الخطأ الاعتقاد أن الحل لتجاوز وضعية “القلق” والقطع مع مشكلة “الأرق” يملك مفاتيحها المجلس الوطني المخاطب، أوالمؤتمر الاستثناني المشود.

ومن دون الوقوف كثيرا عند طبيعة هذه الهياكل التنظيمية وما تعكسها من توازنات وتوافقات داخلية، وما تسطره من مسلكيات ومنهجيات مستقرة، تتجاوز إرادة الأفراد والأعضاء؛ بحيث لا يمكن أن يتوقع منها أي أحد إفراز نتائج جديدة مختلفة اختلافا جذريا عما أفرزته من نتائج حالية، حتى ولو تم تغيير الوجوه الحالية بوجوه جديدة، أو أخرى قديمة، يشعر الكثيرون بالحنين إلى رؤيتها على واجهة الحزب مجددا.

إن اقصى ما يمكن أن يحققه مؤتمر استثنائي، في حالة الاستجابة الفورية لهذا المطلب، هو إعفاء القيادة الحالية من المحاسبة الشعبية المباشرة، وذلك بوضع قيادة جديدة/ قديمة محلها، يخوض بها الحزب الاستحقاقات الانتخابية المقبلة.

وهي خطوة، إذا كانت ستفيد حزب العدالة والتنمية انتخابيا، وتسهل عليه مهمة التبرؤ من تدبير قيادته الحالية للولاية الحكومية الثانية، فإنها لن تجدي نفعا من الناحية السياسية والديمقراطية، وهذا في اعتقادنا هو الهدف العميق للمبادرة.

وقبل تفصيل القول في هذه النقطة الجوهرية، لا تفوتنا فرصة التساؤل عن السبب الذي جعل أصحاب المبادرة من أعضاء الشبيبة الإحجام عن المطالبة بعقد مؤتمر اسثنائي للشبيبة، رغم تسجيلهم لمجموعة من الانتقادات على القيادة الحالية لإطارهم الشبابي. علما أن الأمر يقتضي أن يبتدأ الشباب من بيتهم الخاص أولا ثم يتدرجون إلى إطارهم الحزبي العام؛ لكنهم اكتفوا فقط بمطلب عقد مؤتمر استثنائي للحزب فقط !

ليس الغرض من الملاحظات السالفة تثبيط عزيمة الشباب، بل، على العكس تماما، هدفنا هو رفع سقف طموحهم عاليا، ليتحرر من ضيق المساطير والهياكل الحالية، الجاري بها العمل داخل حزب العدالة والتنمية، وهي بالمناسبة ذات طبيعة محافظة، وتكرس روح المحافظة التنظيمية والسياسية.

إن التحرر من هذه القواعد المستقرة لا يكون بالعودة إلى هوية “نضالية” مفقودة، وإنما بصناعة هوية نضالية جديدة، وصناعة قواعد ممارسة حزبية جديدة، قائمة على الاعتراف بالفرد الحزبي، وإعطائه حقوقه السياسية كاملة، التي لا يكون مواطنا كامل المواطنة إلا بها.

يتم التعامل مع الفرد/ العضو الحزبي، داخل حزب العدالة والتنمية، لا كمواطن كامل المواطنة، ولكن ككائن خاضع لسلطة الجماعة المتنفذة من أهل “العقد والحل”؛ فهو لا يملك حقه المشروع، إنسانيا وشرعيا ودستوريا، في الترشح للمهام الداخلية والخارجية. ولا يجوز له حتى التعبير همسا عن أي رغبة من رغباته التنظيمية والسياسية الطبيعية، بذريعة تأويل مغرق في الماضوية لنص ديني منتزع من سياقه وأسباب نزوله.

كل الهياكل والهيئات القائمة هي وليدة هذه الثقافة المحافظة، التي مهما تفننت في إخفاء عيوبها وتناقضاتها، فإنها لن تحجب عن الشباب أنها هياكل لعبت قيم الكولسة والتوجيه القبلي، التي يدمن الأعضاء علي التعاطي لها في الظل والخفاء، من دون أدنى شعور باقتراف ذنب تعارضها مع القيم والقوانين المعلنة.

من مميزات الشباب البذل بسخاء، والنضال بلا حساب، بعيدا عن حرب المواقع والتموقعات، وشغبهم لا تحده حدود استبدال وجوه بأخرى، وإنما يرتفع سقفه عاليا بالسعي إلى خلق حالة سياسية جديدة تتحرر من قيود وإكراهات الممارسات السياسية السائدة التي تجنح إلى تأبيد قيم المحافظة السياسية.

إن أول خطوة نقدية ينبغي البدء منها هي الانتصار للديمقراطية داخل الوطن وداخل الحزب، والديمقراطية تقوم على المواطنية والمواطن. وهذا الأخير إذا كان غير قادر على ممارسة حقوقه المواطنية كاملة داخل حزبه السياسي فكيف سيكون ناجحا في ممارستها خارجه؟

يريد الشباب محاسبة القيادة الحالية، ونحن نسألهم على أي أساس تريدون محاسبتها؟ ووفق أي تعاقد؟ هل ترشح الأمين العام الحالي للمؤتمر بشكل صريح وعلني وقدم برنامجا سياسيا واضحا يتضمن وعودا صريحة لم يفي بها بعد انتخابه؟ وماذا عن البرنامج السياسي لمنافسه؟ أم أن اختياره تم وفق “منطق” لا منطق له، وهو “لم يطلبها ولكنها طلبته” !

ولا أريد الاستطراد والتساؤل وفق أي قواعد ستتم هذه المحاسبة، أليست هي ذاتها القواعد التي جاءت بالقيادة الحالية وأفرزتها؟ هل يمكن توقع نتائج جديدة من مسلكية قديمة؟

إن المطلوب من الشبيبة خلق حالة وعي سياسي جديد، على مواقع التواصل المختلفة، وفي المنتديات العامة والخاصة، يفرز قواعد لعبة جديدة، تسع طموحات الشباب التي تتجاوز دائما سقف طموحات الكهول والشيوخ التي تجنح في لحظات كثيرة إلى المحافظة على الوضعية الحالية، والمواقع القائمة، والمصالح الجارية، وهؤلاء هم الفئة التي تهيمن عادة على كل الهيئات التنظيمية، من المجلس الوطني إلى المؤتمر الوطني، مرورا بالأمانة العامة، وليس انتهاء بالهياكل المجالية التي تكون للمتنفذين بها اليد الطولى في الاستحقاقات التنظيمية المختلفة.

سيكون للمؤتمر معنى حينما يكون تتويجا لحالة وعي سياسي جديد، يؤتي أكله بتحوله إلى قوة اقتراحية ضاغطة، تجد ترجمتها في قوانين جديدة، وقواعد لعبة مختلفة، تنتصر لقيم الديمقراطية وحقوق الإنسان داخل الحزب وداخل الوطن. وهو الأمر الذي يتعذر حصوله في الظروف الحالية.

فنحن، لا نكاد نمسك بهوية نضالية ديمقراطية حقيقية للأحزاب، ونجد صعوبة في اعتبارها تنهج خطا إصلاحيا ديمقراطيا واضحا، ويصل سقف طموحها إلى تحقيق انتقال ديمقراطي حقيقي بهذا الوطن.

تجنح الأحزاب المغربية، في غالبيتا مع الأسف، إلى تغذية جوانب المحافظة في النظام السياسي المغربي، ونادرا ما تبذل جهدا نضاليا يساعد هذا النظام في التحرر من أغلال المحافظة والتقليد، الأمر الذي جعل مرحلة الانتقال الديمقراطي تطول، وبطول أمدها تحولت من لحظة انتقالية/ استثنائية إلى لحظة دائمة الاستمرارية.

لقد ساهم شباب 20 فبراير في إحداث منعطف سياسي مهم ساعد النظام السياسي المغربي على إحداث نقلة دستورية مهمة أيضا، تحتاج إلى أحزاب سياسية قوية، تتعاطى السياسة من موقع المبادرة الخلاقة والشراكة الفعالة. والحال أن أحزابنا المهيمنة، ومن بينها حزب العدالة والتنمية، تجد راحتها في السكون والجمود والمحافظة، التي لا يستطيع إنقاذنا منا إلا شغب الشبيبات الحزبية وجنوحها الدائم إلى التحرر من قيود الحاضر والتطلع إلى آفاق مستقبل سياسي أفضل.

هذا الشغب الشبيبي هو الذي  لا يمكننا إلا أن نرفع القبعة تحية وتقديرا له.

*أستاذ الفلسفة بجامعة الحسن الثاني بالدار البيضاء

Share
  • Link copied
المقال التالي