Share
  • Link copied

الجباري يكتب عن: جريمة تحريف الكتب !

الكتاب هو الوسيلة الوحيدة للمؤلف التي يعبر بها وفيها عن آرائه وأفكاره، وهي الوسيلة التي تعكس تجارب المؤلف ومساراته وتناقضاته واضطراباته وتحولاته، لذا كان الحفاظ على الكتاب كما هو واجبا مقدسا، وقديما قيل: الكتاب حبس على صاحبه.

وكان سلفنا الصالح على هذا المنوال، لذا اخترعوا طرق التثبت من وثوقية النص، فكان النساخ يتولون إعادة كتابة المؤلفات، ولا يتأكد المشتري أو المتملك لها من وثوقية نصها إلا بعد عرضها على الشيخ (قد يكون هو المؤلف) أو على نسخة موثوق منها. ولا يجيزون التصرف في الكتاب بالحذف والبتر إلا في حالة واحدة، وهي حالة الاختصار أو التهذيب، فيصر المتدخل الثاني في الكتاب على التركيز في عنوانه على كلمات من قبيل: “التهذيب” أو “الاختصار” أو غيرهما.

ونظرا لما لنص الكتاب من قدسية، فإن العلماء لم يبيحوا تغيير ما به من أخطاء ولو كانت في الآي القرآنية، قال الببليوغرافي المغربي عبد الحي الكتاني: “المقرر المعلوم أنه لا يجوز التصرف في كلام المؤلفين بإدخال شيء داخل تصانيفهم ولو بالإصلاح، حتى نصوا على أن الآية الكريمة إذا وقع تحريفها في أصل كتاب فلا يجوز إصلاحها إلا بهامش الكتاب لا بداخله، حرصا على كلام المؤلفين ليبقى على وجهه، لأن العلم أمانة عند أهله، والأمانة لا تمس إلا بإذن صاحبها”.

وقد ابتلينا في الآونة الأخيرة ببعض الباحثين و”المحققين” الذين يتصرفون في متون الكتب خلافا لما رامه المؤلفون، إما بالحذف والبتر أو بالإقحام والزيادة أو بالتعديل، ومن أمثلة ذلك:

المثال الأول: بقي كتاب الوصول إلى معرفة الأصول لأبي بكر بن العربي رحمه الله مخطوطا طيلة قرون، إلى أن أخرجه [ولا أقول: حققه] الباحث حمزة النهيري، وقد زاد في متنه وغيّر وحذف وأضاف، بحيث صار الكتاب تأليفا مشتركا بين القاضي أبي بكر بن العربي وحمزة النهيري، ولم يبق من تأليف أبي بكر وحده، وهناك أمثلة على هذه التحريفات سبق أن أشار إليها الباحث التونسي نزار حمادي نذكر بعضها هنا (أشار إليها بعد أن عقد مقارنات بين المخطوط والمطبوع):

أ ــ قال ابن العربي في كتابه المخطوط: “وأما العلة فكون العلم علةً لكون العالِم عالم، فكل عالم فللعلم ما كان عالما. وأما التسمية فقولنا…”، هذا النص غيّره مُخرج الكتاب مع إضافة عبارات من عنده، وهي عبارات يقرأها القارئ المعاصر وينسبها إلى المؤلف وهي ليست له، فقال: “وأما العلة فهي كون العلم علة لكون العالم عالم[ـا، والقطع على أنه من حصل على حكم العالم فإنه] للعلم ما كان عالما ، [فهذا أيضا يتساوى فيه الغائب والشاهد]”.

وما بين المعقوفات ليس موجودا في المخطوط، ولا ندري من أين جاء بها مُخرج/محقق الكتاب.

ب ــ قال ابن العربي رحمه الله: “وعِلمُ المخلوقين على ضربين: علم ضروري، وعلم نظري، فالضروري [ما لزم نفس المخلوق لزوما] لا يمكنه دفعه، ولا يتهيأ [له] الشك في متعلقه”. لكن المُخرج حذف ما بين المعقوفين الثانية، وهذا قد يقع لعموم الباحثين، لكنه حذف ما بين المعقوفين الأولى وعوض عبارة [ما لزم نفس المخلوق لزوما] بقوله: “هو ما”، فحرف النص بطريقة غير مفهومة.

ج ــ الأمر ذاته وقع في موضع آخر من الكتاب، حيث قال ابن العربي: “ومن قول القاضي أيضا: يقع العلم بالمعلوم إذا كان ضرورة من ستة طرق”، فحرف المُخرج هذا النص وأثبته بقوله: “ومن قول القاضي أيضا: [وجميع العلوم الضرورية تقع للخلق، فمنها درك الحواس الخمس] من ستة طرق”، وما بين المعقوفين لا علاقة له بالمؤلف لا من قريب ولا من بعيد.

اكتفيت بهذه النماذج نقلا عن الباحث التونسي نزار حمادي، وقد أورد غيرها، وهي ملاحظات تبين التحريف الذي وقع في الكتاب، والتحريف غيْر الأخطاء، لأن الخطأ وارد ويقع للجميع من دون استثناء.

المثال الثاني: كتاب “سل النصال للنضال بالأشياخ وأهل الكمال” لعبد السلام بن عبد القادر بن سودة، ترجم فيه لعدد من الشيوخ، وترجم فيه لعبد الحي الكتاني الفاسي، ولعله أقذع في حقه لانحرافه عن الوطن والوطنية وعمالته لفرنسا الاستعمارية، فحذفت ترجمته من الكتاب المخطوط.

وقد تعرفنا على ذلك من خلال كتاب ابن سودة الآخر الموسوم بـ”إتحاف المطالع بوفيات أعلام القرن الثالث عشر والرابع”، حيث ذكر ترجمة مختصرة لعبد الحي المذكور، وقال فيها: “الشيخ المحدث المسند المؤرخ النسابة المطلع، كان يعد من أساطين العلم المبرزين بالمغرب، لكنه انحرف سياسيا فقضى على علمه وجاهه ونفسه والأمر لله. انظر كتابنا سل النصال فقد أطلت في ترجمته”. وعلق المحقق سيدي محمد حجي في الحاشية بقوله: “سقطت ترجمة عبد الحي الكتاني من نسخة سل النصال التي بأيدينا”. وهذا لعمري من التحريف الذي طال الكتب والمصنفات خلافا لأهداف ومرامي مؤلفيها، وكان حريا بهؤلاء العابثين أن يتركوا لنا رواية بن سودة وقراءته للمسار السياسي والعلمي لمترجَمه، ويمكن لهم التعليق في الطرة كما شاؤوا، خصوصا أن الترجمة مطولة كما أشار إلى ذلك في إتحاف المطالع.

المثال الثالث: ألف العلامة المغربي محمد الباقر الكتاني كتابا في ترجمة والده العلامة المربي سيدي محمد بن عبد الكبير الكتاني قدس الله روحه، ووسم كتابه بـ”ترجمة الشيخ محمد الكتاني الشهيد”، وصدر سنة 1962، ولما كان الشيخ محمد الباقر الكتاني من الصوفية الوطنيين الشرفاء الأفاضل الذين يحق لنا أن نفخر بهم لما حباه الله من شهامة ونبل، لم يتوان في تسطير فقرات في الكتاب للحديث عن عبد الحي الكتاني، وهو عمه شقيق والده، والأعرف به والخبير بمخازيه، وشهادته مهمة في هذا الباب.

وبعد عقود من نشر الكتاب، تولت حفيدة المؤلف الأستاذة نور الهدى الكتاني بإعادة طبع الكتاب، وحذفت ما يمس عبد الحي الكتاني من فقرات، وحذفت بذلك جزءا من الذاكرة الوطنية للعائلة الكتانية، وحرفت مرامي ومقاصد المؤلف، وهي والنموذج السابق مخالف لمنهج عبد الحي نفسه المضَمّن في النص الذي صدرنا به المقال. وقد كان الوضاعون في الحديث يقولون: نحن لا نكذب على النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما نكذب له. وكذلك هؤلاء، فإنهم يريدون نصرة عبد الحي الكتاني وتبييض صحيفته بمخالفة منهجه ومذهبه.

المثال الرابع: ألف العلامة الطالب بن حمدون بن الحاج السلمي كتاب “نظم الدر واللآل في شرفاء عقبة ابن صوال”، وهو كتاب في نسب الكتانيين، وقد ادعى البعض القطع بشرفهم، وأن شرفهم فوق كل شرف، وأنهم المعيار في تحقيق النسبة النبوية الشريفة، يُعرَضُ عليهم غيرهم ولا يُعرضون على أحد، فقال العلامة المذكور ردا على هذه الشنشنة القديمة/الحديثة: “لم أقف على تعيين القادم منهم على مكناسة، وليس عندهم ــ أي الكتانيين ــ ما يفيد بنص أو قياس ــ مع كثرة ما اجتمع بأيديهم ــ دليلا على القطع بشرفهم”.

هذا النص الخطير والقوي اعتمده بعض الباحثين المعاصرين في سياق التشكيك في صحة نسب الكتانيين عموما، وما يهمنا هنا هو بيان أمرين اثنين:

الأمر الأول: لما ألف تاج العلماء ومفخرة الأولياء سيدي محمد بن جعفر الكتاني كتاب “النبذة اليسيرة النافعة التي هي لأستار جملة من أحوال الشعبة الكتانية رافعة”، كان أمينا في النقل، واقتبس النص المشار إليه وعزاه إلى كتاب نظم الدر واللآل لابن الحاج السلمي، وذكره بتمامه دون تحريف.

الأمر الثاني: بعد البحث عن النص نفسه في كتاب نظم الدر واللآل المطبوع بـ”تحقيق” الأستاذ علي المنتصر الكتاني، لم نجد له أثرا، فمن الذي تسبب في حذفه وإزالته من الكتاب؟ هل حذفه أحد العابثين من المخطوطة الأصلية؟ أم حذفه الأستاذ علي لأنه يشوش عليه في نسب وشرف العائلة؟ أم حذفه مساعدوه الذين رقموا له النص قبل العناية به وإخراجه؟

قد لا نجد جوابا قاطعا حاسما، لكننا أمام تحريف متعمد وحذف وسقط، وهذه جريمة في حق التاريخ الحضاري للمغرب، حيث نفقد نصا لأحد النسابين المشاهير وهو يناقش نسب عائلة هو بها خبير وعلى أرشيفها مطلع.

المثال الخامس: ألف أبو الفضل عبد الله بن الصديق الغماري؛ وهو خريج القرويين والأزهر؛ رسالة في موضوع سب النبي صلى الله عليه وسلم وسمها بـ”السيف البتار لمن سب النبي المختار”، وكتب في حواشي إحدى صفحاتها إشارة إلى كتاب تلميذه النبيه السيد حسن السقاف الأردني، وأثنى عليه وأشاد به وبإحدى رسائله. وطبع العلامة ابن الصديق رسالته تلك بطنجة، وناولها لتلاميذه، ومنهم والدي رحمه الله، ولم يشر إلى أن ذلك الثناء أو تلك الحاشية مقحمة في الكتاب، مما يدل على أنه صاحبها والمتبني لها.

وبعد وفاته رحمه الله، أعاد طبعها الأستاذ صفوت جودة أحمد، ونشرتها مكتبة القاهرة سنة 2013، وحذف منها ذلك الثناء وتلك الإشادة بالسيد السقاف. وهذا حذف لا يليق ولا يجوز، خصوصا أنه ترتب عليه ما هو أفظع، وهو أن الشيخ محمود سعيد ممدوح المصري تولى جمع تراث شيخه العلامة ابن الصديق في موسوعة من 19 مجلدا، واعتمد فريق العمل على الرسالة المتحدث عنها بطبعتها القاهرية، ولم يتفطنوا لما وقع فيها من حذف، فحُذفت تلك الحاشية بالتبع من الموسوعة، وقد يعزو بعض المتسرعين هذا الحذف للدكتور محمود باعتباره مشرفا على العمل، وهذا غير صحيح باعترافه شخصيا، ويستحسن تدارك الأمر إن صدرت الموسوعة في طبعة ثالثة.

هذه نماذج من التحريفات التي طالت كتبا ومؤلفات، وغني عن البيان أن ما لم يُذكر أكثر وأفظع مما ذُكر، وليتق هؤلاء المخرجون والمحققون والطابعون اللهَ في القراء وفي المصنفين وفي أنفسهم. والحمد لله رب العالمين.

Share
  • Link copied
المقال التالي