شارك المقال
  • تم النسخ

الجباري يكتب: تفاعلا مع قرار محكمة النقض حول عدم إثبات نسب ولد الزنى

صدر حديثا عن محكمة النقض قرار حول نازلة الاعتراف بالأبناء المولودين خارج مؤسسة الزواج، أو ما يطلق عليه في التراث الفقهي بـ”ولد الزنى”، وخلص القرار القضائي إلى عدم الاعتراف بشرعية نسب هؤلاء، وتضمنت حيثيات القرار نقطا ومعطيات يستحسن التوقف معها بعض الوقفات، لمناقشة القرار وتقليب وجهات النظر حوله.

أشير في البداية إلى أنني لم أطلع على قرار محكمة النقض، وطالعت تقارير صحفية حوله، وهي التقارير التي دلتنا على بعض فقرات القرار وحيثياته، وعليها نعتمد في الاقتباس غير المباشر من القرار.

تعود القضية إلى ما يقارب ثلاث سنوات خلت، حيث حكمت محكمة طنجة بإثبات بنوة طفلة من أبيها البيولوجي، وهو الحكم الذي ألغته محكمة الاستيناف، استنادا إلى أحاديث نبوية، وعدد من تفسيرات النصوص، وبعد اللجوء إلى محكمة النقض من قبل الأم، رفض طلبها بقرار مؤرخ يوم 29 شتنبر 2020.

فما هي مسوغات الإلغاء والرفض؟

ضعف الأدلة:

استندت محكمة الاستيناف في إلغاء قرار المحكمة الابتدائية إلى أحاديث نبوية، وهو ما يجعلني أتوقف عند أشهر الأحاديث المستدل بها في الموضوع.

الحديث الأول:

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “من ادعى ولدا من غير رِشدة، فلا يرث، ولا يورث”. رواه أبو داود.

الحديث الثاني:

روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “من عاهَر أَمَة أو حرة، فولده ولد زنا، لا يرث ولا يورث”. رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه.

والحديث الأول ضعيف باتفاق أهل التخصص، والحديث الثاني مختلف فيه باختلاف المحدثين في مرويات عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، وهي صحيفة خاصة معروفة عند المحدثين، إضافة إلى أن عمروا بن شعيب نفسه مختلف فيه، سرد العقيلي أقوال أهل الجرح والتعديل فيه، منها قول الإمام احمد بن حنبل: “له أشياء مناكير، إنما نكتب حديثه نعتبره، فأما أن يكون حجة فلا”، وقال يحيى بن سعيد القطان: “حديث عمرو بن شعيب عندنا واه”، وقال أبو عمرو بن العلاء: “كان قتادة وعمرو بن شعيب لا يعاب عليهما بشيء إلا أنهما كانا لا يسمعان بشيء إلا حدثا به”، وخلاصة القول فيه ما قاله المنذري، وهو حافظ متقن متفنن: “عمرو بن شعيب ترك الاحتجاج بحديثه جماعة من الأئمة، ووثقه بعضهم”.

أما من روى الحديث عن عمرو بن شعيب، فثلاثة:

أولهم: ابن لهيعة.

ثانيهم: المثنى ابن الصباح.

قال الحافظ الزيلعي فيهما: “أكثر الناس يحتج بحديث عمرو بن شعيب إذا كان الراوي عنه ثقة، وأما إذا كان الراوي عنه مثل المثنى بن الصباح أو ابن لهيعة وأمثالهما فلا يكون حجة”.

وثالثهم: سليمان بن موسى، قال عنه ابن حجر: “في حديثه بعض لين”.

فهل نعتمد على حديث يدور على هؤلاء الرجال، ونجعله عمدة في حرمان شخص من النسب والإرث؟ والمقرر عند أهل العلم، أنهم في مثل هذه الأحكام يتشددون في الرواية، ولا يقبلون إلا ما صح، ولذلك قال غير واحد: إذا روينا في فضائل الأعمال تساهلنا، وإذا روينا في الأحكام والفروج تشددنا”. فأين التشدد المنهجي في الاعتماد على مثل هذه النصوص والروايات؟ أم أن نفي النسب والحرمان من الإرث من “فضائل الأعمال” التي يُتساهل في شأنها؟.

شرود الأدلة:

لعل أهم حديث يُستدل به على نفي نسب أبناء الزنى هو حديث: “الولد للفراش، وللعاهر الحجر”، وهذا استدلال شارد لا علاقة له بموضوعنا، ولنفهمه فهما سليما، نورد متنه كاملا.

عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان عتبة بن أبي وقاص، عهد إلى أخيه سعد بن أبي وقاص أن ابن وليدة زمعة مني، فاقبضه، قالت: فلما كان عام الفتح أخذه سعد بن أبي وقاص وقال: ابن أخي قد عهد إلي فيه، فقام عبد بن زمعة، فقال: أخي، وابن وليدة أبي، ولد على فراشه، فتساوقا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال سعد: يا رسول الله، ابن أخي كان قد عهد إلي فيه، فقال عبد بن زمعة: أخي، وابن وليدة أبي، ولد على فراشه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «هو لك يا عبد بن زمعة»، ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم: «الولد للفراش وللعاهر الحجر».

وسياق هذا الحديث أن سعدا بن أبي وقاص وعبدا بن زمعة تنازعا في ابن وليدة زمعة، فالأول يدعي أنه ابن أخيه، والثاني يدعي أنه أخوه، وعضد حجته بكونه ولد في فراش أبيه، فقضى به رسول الله صلى الله عليه وسلم للفراش.

وبناء على هذا، فالحديث حجة في سياق النزاع أولا، ووجود فراش ثانيا، أما إذا لم يوجد النزاع والفراش، فالاستدلال بهذا الحديث شرود فقهي حسبما قرره ابن القيم، قال رحمه الله: “حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن الولد للفراش عند تعارض الفراش ودعوى الزاني، فأبطل دعوى الزاني للولد، وحكم به لصاحب الفراش”.

أما إذا لم يكن هناك نزاع بين دعوى الولد والفراش (=الزوجية)، فالحديث لا يؤطر النازلة، ولا علاقة له بها. وبيان ذلك من خلال الآتي:

الحالة الأولى: امرأة متزوجة، وادعى رجل أن ابنها ابنُه من الزنى. هنا نزاع بين دعوى الزاني والفراش، وجب تقديم الفراش صونا للأعراض وحفاظا على الأنساب وحماية للأسرة من الهدم والتفكك.

الحالة الثانية: امرأة غير متزوجة، ولها ابن. هنا نكون أمام احتمالين:

الاحتمال الأول: الزاني يقر بالابن ويعترف بأنه من مائه. يُلحق الابن بأبيه، وقد وقع الخلاف عند المتقدمين في هذه المسألة، وأثبت البنوة والنسب بعضهم، ولم يكونوا من العلمانيين أو المتأثرين بالغرب أو من الضعفاء في الفقه، قال ابن القيم: “هذه مسألة جليلة اختلف أهل العلم فيها، فكان إسحاق بن راهويه يذهب إلى أن المولود من الزنى إذا لم يكن مولودا على فراش يدعيه صاحبه، وادعاه الزاني، ألحق به، وأولَ قول النبي صلى الله عليه وسلم: «الولد للفراش» على أنه حكم بذلك عند تنازع الزاني وصاحب الفراش، كما تقدم، وهذا مذهب الحسن البصري، رواه عنه إسحاق بإسناده في رجل زنى بامرأة، فولدت ولدا، فادعى ولدها فقال: يجلد ويلزمه الولد. وهذا مذهب عروة بن الزبير وسليمان بن يسار، ذكر عنهما أنهما قالا: (أيما رجل أتى إلى غلام يزعم أنه ابن له، وأنه زنى بأمه، ولم يدع ذلك الغلام أحد، فهو ابنه). واحتج سليمان بأن عمر بن الخطاب كان يليط أولاد الجاهلية بمن ادعاهم في الإسلام، وهذا المذهب كما تراه قوة ووضوحا، وليس مع الجمهور أكثر من «الولد للفراش» وصاحب هذا المذهب أول قائل به، والقياس الصحيح يقتضيه، فإن الأب أحد الزانيين، وهو إذا كان يلحق بأمه، وينسب إليها، وترثه ويرثها، ويثبت النسب بينه وبين أقارب أمه مع كونها زنت به، وقد وجد الولد من ماء الزانيين، وقد اشتركا فيه، واتفقا على أنه ابنهما، فما المانع من لحوقه بالأب إذا لم يدعه غيره؟ فهذا محض القياس، وقد قال جريج للغلام الذي زنت أمه بالراعي: من أبوك يا غلام؟ قال: فلان الراعي، وهذا إنطاق من الله لا يمكن فيه الكذب”.

وخلاصة هذا النص، أن بعض الرعيل الأول من علماء الإسلام قالوا بإثبات نسب الابن من أبيه البيولوجي، وهو ما قواه ورجحه ابن القيم، وقال به من المعاصرين العلماء السيد رشيد رضا القلموني صاحب المنار، والشيخ عبد العزيز بن الصديق الغماري المغربي، والشيخ الدكتور أحمد الريسوني رئيس الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين.

الاحتمال الثاني: المرأة تدعي أن الولد ابنُ شخص معين زنى معها، هنا يجوز أن ننسب الابن إلى أبيه من الزنى أيضا.

في هذين الاحتمالين، لا يوجد نزاع بين مدعي وفراش أولا، فينسب إلى الأب البيولوجي، كما أنه لا يمكن تأطير الاحتمالين بحديث “الولد للفراش وللعاهر الحجر”، لأنه لا وجود للفراش أصلا، فكيف ننسب الابن إلى غير موجود.

ونسبة الابن إلى الأب ليست بهذه السهولة، لأنه قد تترتب عنها أمور، منها توريث ذلك الابن وحرمان الورثة الآخرين من النصيب الذي يحوزه، ومنها المحرمية مع أخواته وعماته وجدته من جهة الأب، وغير ذلك، لذا وجب تقييد إثبات النسب بشرط أساس، وهو تحليل الحمض النووي، لئلا يكون ذريعة للتلاعب.

فمن ادعى أبوة طفل، أو ادُّعيت له، وجب إخضاع الطفل والأب إلى التحليل الطبي، والاحتكام إلى نتائجه القطعية.

وجمهور الفقهاء المتقدمين الذين منعوا نسبة الابن إلى أبيه الزاني كانوا على صواب، لأنهم نسبوا الابن إلى أمه الزانية (للقطع) بأنه ابنها، ولم ينسبوه إلى الأب لأنه لم يكن عندهم التحليل الطبي الذي يمنحهم (قطعا) مماثلا للقطع السابق. أما وقد وُجد في عصرنا، فوجب إعماله، ولا وجه لإهماله.

قرار محكمة النقض:

أ – التأصيل الشرعي:

ذكر قرار محكمة النقض المشار إليه أعلاه، إلى أن “ولد الزنى يكون منقطع النسب من جهة الأب، ولا يلحق به بنوة ولا نسبا”، ولتسويغ هذه القطيعة في النسب، لجأت المحكمة إلى التأصيل الشرعي، وأشارت إلى أن “المطالبة بالحكم بثبوت البنوة البيولوجية غير الشرعية للبنت مع الأب مع انقطاع النسب بينهما لا موجب يبرر الحكم بها لا شرعا، ولا قانونا”.

والمحكمة بهذه الحيثية تحيل في القطيعة ونفي النسب على الشرع وتبني عليه، وقد بيّنا أن النفي لا ينبني على نصوص الشرع، وإنما القول بالنفي قولٌ فقهي، والفقه اجتهاد بشري، والشرع شرع الله، ولو قالت الهيأة القضائية “لا فقها ولا قانونا” لسلمنا قولهم، على أساس أن إحالتهم ستكون سليمة على المشهور في الفقه.

ب – التفريق بين المتماثلات:

من المشهور في النقد الفقهي، أن كثيرا من الأقوال الفقهية والقضائية انتُقدت نقدا منطقيا، لأن أصحابها يقولون قولا في نازلة، ولا يلتزمون نفس المنهج في نظيرها، أو يؤسسون قولين على المماثلة بين المدخلات، ولا يلتزمون بالمماثلة في المخرجات، فيعاب عليهم هذا الأمر بدعوى التفريق بين المتماثلات، ونظير ذلك ما تضمنه قرار محكمة النقض، وبيانه من خلال الاقتباسين الآتيين:

** الاقتباس الأول: “العلاقة التي كانت تجمع بين طرفي النزاع هي علاقة فساد، وأن ابن الزنى لا يلحق بالفاعل ولو ثبت بيولوجيا أنه تخلق من نطفته، لأن هذه الأخيرة لا يترتب عنها أي أثر يُذكر”.

** الاقتباس الثاني: “ولد الزنى يلحق بالمرأة لانفصاله عنها بالولادة بغض النظر عن سبب الحمل؛ هو وطء بعقد شرعي أو شبه أو زنى؛ ويكون منقطع النسب من جهة الأب ولا يلحق به بنوة ولا نسبا”.

من خلال هذين الاقتباسين، يتبين لنا أن قرار المحكمة انطلق من مدخلات/مقدمات متماثلة، وهي الأبوة البيولوجية، والأمومة البيولوجية، وهذا ما يلزم منه المماثلة في النتائج، لكن القرار يقع في تناقضين اثنين:

أولهما: ركز على علاقة الفساد بالنسبة للأب، وجعله حائلا دون إثبات النسب. وأشار إلى الفساد عينه بالنسبة للأم، وتغاضت عنه وهونت من شأنه قائلة: “بغض النظر عن سبب الحمل هو وطء بعقد شرعي أو شبه أو زنى”.

ثانيهما: ميز بين المخرجات/النتائج، فقرر أن ابن الزنى لا يلحق بالفاعل البيولوجي ولو ثبت أنه متخلق من نطفته، ويلحق بالفاعلة البيولوجية لثبوت انفصاله عنها بالولادة.

ج – التأصيل القانوني:

كان بإمكان قضاة محكمة النقض أن يجتهدوا نسبيا أثناء مناقشة هذا القرار، لتأسيس مادة فقهية وقضائية تكون أرضية يُستند عليها في الاجتهاد القضائي، لكنهم آثروا مسايرة حرفية النصوص وظاهريتها، واستندوا في الشق القانوني إلى نصين اثنين:

أولهما: المادة الدستورية التي تنص على أن “الأسرة القائمة على علاقة الزواج الشرعي هي الخلية الأساسية للمجتمع”، وهذه المادة لا تكبل العقل القضائي من الاجتهاد، خصوصا إذا استحضرنا أن المادة الدستورية صيغت بألفاظ عامة.

وإذا أردنا أن نتشبث بهذه المادة الدستورية بطريقة حرفية، فإننا لن نعتبر المرأة وابنها أسرةً، لأنها ليست قائمة على علاقة الزواج الشرعي. وإذا اعتبرناهما أسرةً، يمكن القياس على حالتهما بالنسبة للأب.

ثانيهما: الاستناد إلى مادة مدونة الأسرة التي تنص على أنه “لا يترتب عن البنوة غير الشرعية بالنسبة للأب أي أثر من آثار البنوة الشرعية”، وهذا نص قانوني لا أراه يصلح لعصرنا وزماننا، لاعتبارات أوردناها أعلاه، فإما أن تكون البنوة غير الشرعية حائلا دون أي أثر من آثار البنوة للأب والأم معا، أو تكون العلاقة مع الأب مثل العلاقة مع الأم سواء بسواء.

وقبل الختم، أشير إلى أن القول الفقهي والقضائي المعتمد في المغرب ليس وراءه من مقصد سوى تشجيع الرجال على الزنى، فتجد أحدهم يزني هنا وهناك، ولا يتحمل تبعات أبنائه من صلبه، إنفاقا ورعاية وتطبيبا وكسوة ودراسة وغير ذلك، ونرمي بذلك كله على المرأة وحدها، فتعاني المعاناة المتعددة والمتنوعة، وشريكها متحلل من كل ذلك، أو ترمي بالابن في الحاويات، وهذا واقع لا ينكره إلا من بعينه رمد.

شارك المقال
  • تم النسخ
المقال التالي