Share
  • Link copied

الجائحة  تقول “نعم”  للرأسمالية ولكن..

الوباء محطة  مهمة لإعادة  تقييم المفاهيم الكبرى التي تؤطر حياة الإنسان المعاصر  أحد أهمها  حسب اعتقادي “الرأسمالية”  ؛ هذا المفهوم الذي صنع كل من حضارة الإنسان المعاصرة  وكذلك تحدياته في نفس الوقت .. الوباء بكل سلبياته الانسانية هو مناسبة حقيقية لإعادة تقييم هذا المفهوم  وتحديد مشاكله الحقيقية ، في هذا الاطار نجد انخراط  Mariana Mazzucato   الباحثة الإيطالية  بجامعة University College London التي انخرطت  في هذا السؤال منذ زمن وبحكم ما راكمته من تحريرها لكتاب “Knowledge Accumulation and Industry Evolution The Case of Pharma-Biotech”  الذي صدر سنة 2006 بلوغاً  لكتاب The Value of Everything الصادر 2018.

هذه الباحثة خرجت مؤخراً بمقال مهم صدر في مجلة foreign affairs في العدد الأخير ديسمبر 2020 حول موضوع الرأسمالية بعد الجاحة ، والتي ترى فيها  Mazzucato    أن الاقتصاد يجب أن يتجنب أخطاء أزمة 2008   التيحعلت الحكومات  تضخ  ما يقارب  لـ  3 تريليونات دولار في النظام المالي. ولكن بدلاً من دعم الاقتصاد الذي ينطوي على إنتاج السلع والخدمات الفعلية  انتهى الجزء الأكبر من المساعدة نحو القطاع المالي. حيث  أنقذت الحكومات البنوك الاستثمارية الكبرى التي ساهمت بشكل مباشر في الأزمة ، وعندما عاد الاقتصاد إلى العمل مرة أخرى ، كانت تلك الشركات هي التي حصدت ثمار الانتعاش.

حسب مازوكاطو تقدم أزمة كوفيد -19 فرصة لتصحيح هذا الخلل من خلال أسلوب جديد لعقد الصفقات يجبر الشركات التي تم إنقاذها على العمل بشكل أكبر لأجل المصلحة العامة . وفي هذا الصدد تورد الكاتبة في مقالها الأخير أرقام تستحق التأمل ؛ حيث كشف الوباء عن مدى عدم توازن العلاقة بين القطاعين العام والخاص. في الولايات المتحدة مثلا تستثمر المعاهد الوطنية للصحة حوالي 40 مليار دولار سنويًا في البحوث الطبية حيث تُعد ممولًا رئيسيًا للبحث والتطوير في علاجات ولقاحات COVID-19 لكن شركات الأدوية ليست ملزمة بجعل منتجاتها في متناول الأمريكيين  الذين يمولون هذه الشركات من ضرائبهم.

طورت شركة Gilead دواء COVID-19 الخاص بها ، وهو remdesivir ، بدعم 70.5 مليون دولار من الحكومة الفيدرالية. في يونيو2020 ،  لكنها أعلنت أن  السعر الذي ستفرضه على الأمريكيين مقابل العلاج سيكون بما قيمته 3120 دولارًا ، هذا مجرد مثال لحالة الخلل  وعدم التوازن الكبيرة بين قطاع العام والقطاع الخاص  . هذا الأمر شمل كذلك   شركات التكنلوجيا الضخمة Big Tech حيث قامت مؤسسة العلوم الوطنية بتمويل البحث وراء خوارزمية البحث التي أخرجت لنا Google للوجود. كما أن البحرية الأمريكية كانت وراء انتاج تقنية  GPS التي تعتمد عليها أوبر. كما أن  البنتاغون كان وراء تطوير الإنترنت وتكنولوجيا الشاشة التي تعمل باللمس وكل مكون رئيسي من أجهزة  iPhone.

بلغة مازوكاطو الاقتصادية فإن دافعي الضرائب استثمروا في هذه التقنيات ، ومع ذلك فإن معظم شركات التكنولوجيا التي استفادت من ذلك لا تؤدي واجباتها الضريبية . وفي هذا الصدد جاءت ضرورة اصلاح العلاقة بين القطاعين الخاص والعام الذي لا يمكن  تحقيقه  سوى بإصلاح مفهوم القيمة (لتوسع أكثر يمكن الرجوع لكتابها The Value of Everything) وهو ما يمكن ربطه بضرورة  بمسألة عدم القيام بعمليات انقاذ لشركات بشكل غير مشروط  ؛ وهو ما نلمس له جذور في أزمة 2008  فعندما استحوذت وزارة الخزانة الأمريكية على حصص ملكية في جنرال موتورز وغيرها من الشركات المتعثرة. كان على القطاع العام   أن يفرض شروطًا تمنع أموراً كانت قائمة مثل تقييد  تقديم مكافآت مبالغ فيها  للرؤساء التنفيذيين ، وإصدار أرباح زائدة ، وإعادة شراء الأسهم ، وتحمل ديون غير ضرورية ، وتحويل الأرباح إلى ملاذات ضريبية ، وهنا يظهر نموذج الدنمرك  كمثال مقابل لعلاقة صحية بين القطاع العام ونظيره الخاص فعندما عرضت الدولة هناك  دفع 75 في المائة من تكاليف رواتب الشركات في بداية الوباء ، فعلت ذلك بشرط ألا تتمكن الشركات من تسريح العمال لأسباب اقتصادية. كما رفضت الحكومة الدنماركية إنقاذ الشركات التي تم تسجيلها في الملاذات الضريبية ومنعت استخدام أموال الإغاثة لتوزيعات الأرباح وإعادة شراء الأسهم.

في النمسا وفرنسا  تم إنقاذ شركات الطيران بشرط أن تقلل من انبعاثات الكربون. ولكن في المقابل منحت الحكومة البريطانية إيزي جيت 750 مليون دولار من السيولة في أبريل 2020، على الرغم من أن شركة الطيران قد دفعت ما يقرب من 230 مليون دولار من الأرباح للمساهمين  في نفس السنة.

وباعتبار أن  محاربة الوباء هو الهدف الذي يفرض أوويته الآن فيجب أن يتم اتخاذ منهج  قام على  التعاون والتضامن بين البلدان ،أثناء مرحلة البحث والتطوير و توزيع اللقاح.  وهو ما لا يمكن تطبيقه  سوى بتجميع براءات الاختراع بين الجامعات والمختبرات الحكومية والشركات الخاصة ، مما يسمح للمعرفة والتكنولوجيا بالتدفق بحرية في جميع أنحاء العالم. وإلا فإننا نخاطر بجعل  لقاح covid-19 بأن يصبح منتجًا باهظ الثمن لا يستطيع تحمل ثمنه  سوى المواطنين الأغنياء والبلدان النامية.

كما تشير الباحثة لمسألة مهمة  المنظومة الاقتصادية المرتبطة بمساعدات الدولة يجب أن يقوم على هيكلة تعتمد على  أولاً ، الحفاظ على التوظيف لحماية إنتاجية الشركات وتأمين دخل الأسر. ثانيًا ، تحسين ظروف العمل من خلال توفير السلامة المناسبة ، والأجور اللائقة. ثالثًا التركيز على الأمور التي ترهن مستقبل البشرية  مثل انبعاثات الكربون.

وهو الأمر الغير محقق في سياسة أكبر دولة رأسمالية في العالم وهي  الولايات المتحدة في تعاملها مع جائحة  covid-19 ؛ حيث أن  قانون الرعاية الذي خرج لمواجهة تداعيات الجائحة  جعل  الولايات المتحدة تقدم  إعانات بطالة مؤقتة غير مشروطة سواء مواطنين أو لشركات مما  جعلها تمتلك  أعلى معدلات البطالة المرتبطة بالوباء في العالم المتقدم والذي بلغ حد 30 مليون مواطن . كما أنشأ قانون “CARES ” أيضًا برنامج حماية والذي بموجبه تلقت الشركات قروضًا يتم إعفاؤها إذا تم الاحتفاظ بالموظفين في كشوف المرتبات. لكن انتهى الأمر بشراكة بين القطاعين العام والخاص بتقديم منحة نقدية ضخمة لخزائن الشركات أكثر من كونها وسيلة فعالة للحفاظ على الوظائف. خلص فريق من معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا إلى أن الشراكة بين القطاعين العام والخاص قدمت قروضًا بقيمة 500 مليار دولار ، لكنها وفرت 2.3 مليون وظيفة فقط على مدار ستة أشهر تقريبًا وهي أرقام مخيفة تؤكد أن هناك خلل بنيوي بين الشراكة الفعالة بين القطاع الخاص ونظيره القطاع العام.

باختصار لا يمكن التعالي على الرأسمالية  ، فهي ركن أساسي من حضارة العالم المعاصر  ، ووجب الانخراط فيها ، ولكن وجب كذلك اصلاحها من مسببات اخفاقاتها المتوالية ، وأحد معالم هذا الاصلاح تكون بإصلاح علاقة القطاع الخاص بالقطاع العام.

Share
  • Link copied
المقال التالي