Share
  • Link copied

التليدي: قيادة إسلاميي المغرب للحكومة لعقد من الزمن يرجع لخصوصية النظام السياسي

استثناء في تاريخ الحركات الإسلامية عربيا، أن يتبوأ إسلاميون المغرب مركز الصدارة في المشهد السياسي لمرتين متتاليتين، ويترأسوا الحكومة لولايتين مكتملتين.

صحيح أنه حدث زلزالان كبيران في مسار «العدالة والتنمية» وهو في موقع رئاسة الحكومة، مع خروج حزب الاستقلال، وتشكيل حكومة ابن كيران الثانية (2013) ومع إعفاء عبد الإله بن كيران من رئاسة الحكومة وتعيين سعد الدين العثماني رئيسا جديدا للحكومة (2017) لكن ذلك لم يخرج رئاسة الحكومة من يده.

البعض يرى أن ذلك يرجع لمستوى وعيهم السياسي، وكونهم يعرفون الحدود الدستورية التي يشتغلون فيها، ويعرفون بشكل دقيق كيف يديرون معركة الإصلاح دون أن يتورطوا في أي احتكاك مع الملك. لكن البعض الآخر، يرى أن ذلك يرجع لخصوصية النظام السياسي، الذي تتمتع فيه الملكية بوضعية دستورية، تجمع بين صلاحية التوجيه، وقوة التنفيذ، وسلطة التحكيم عند التوتر بين المؤسسات، وأن الإجماع حول الملكية، يجعل «العدالة والتنمية» مثله مثل بقية الأحزاب، تحت جلبابها، يقوم بوظيفة تقوية نسقها. ومهما يكن التباين في التقدير، فإن عقدا من الزمن في رئاسة الحكومة، يسائل كسب «العدالة والتنمية» وما إذا كان قد حقق تقدما في مساره السياسي، ومد الأفق لمشروعه الإصلاحي، أم أن بنيته التنظيمية أصيبت في هذه السنوات العشر، ووضع مشروعه في دائرة الشك؟

سيكون من التعسف أن تنكر المكاسب التي حققها هذا الحزب، فعلى الأقل، إذا تم النظر من زاوية الاندماج السياسي، الذي تعاني من مآزقه أغلب الحركات الإسلامية عربيا، فقد انتقل هذا الحزب من حركة دعوية غير معترف بها، إلى حزب سياسي اكتسب صفة التطبيع السياسي، لينتقل إلى مكون مركزي في النسق السياسي، ويصبح بعد ذلك جزءا من بنية الدولة نفسها.

كثيرة هي الحركات الإسلامية التي اندمجت في العملية السياسية، وشاركت في تشكيلة عدد من الحكومات، لكنها أبدا لم تحقق هذا التراكم، لا على مستوى الموقع في معادلة الاستقرار السياسي، ولا على مستوى الاندماج في بنية الدولة، فجبهة العمل الإسلامي، شاركت في عدد من الحكومات المتعاقبة في الأردن، لكنها بقيت بعد هذه التجارب، مجرد حركة غريبة عن بنية الدولة.

المعطى الثاني، الذي ينبغي ترصيده، هو ما يتعلق بتعمق مستوى الوعي بالفرز الحاصل بين خطاب الحركة الدعوية، وخطاب الحركة السياسية، وخطاب الحزب من موقع الحكومة. صحيح أن الحركة الإسلامية المغربية حاولت مبكرا وقبيل أن تنصرم الألفية الثانية، أن تؤصل لأطروحة التمايز بين الدعوي والسياسي، وحاولت الفصل بين الهيئات، والقيادات، والتمييز في الوظائف والخطاب، لكن ذلك كان في الواقع استجابة لتحدي تطور الحركة، ورغبتها في بناء التوازن بين عملها الدعوي والسياسي بعد دخولها معترك السياسة ضمن حزب سياسي. ولعل هذا ما يفسر في كل المحطات الإصرار على الحديث عن الشراكة الاستراتيجية بين الحركة والحزب. لكن التغيير المفصلي الذي حصل، وهو الذي لم يؤطر بعد برؤية تأصيلية، إنما حدث في اللحظة التي برز فيها توتر ثالث، يتعلق بالمشاركة في الحكومة ورئاستها، فلم يعد الإشكال فقط، هو العلاقة بين الدعوي والسياسي، أي بين الحركة والحزب، بل صار الإشكال أيضا، العلاقة بين الحزب وبين الحكومة، ومن يقود من؟
ومهما يكن حجم الخلاف الداخلي في تأطير هذه النقاشات، إلا أن الأثر الذي ترتب عنها هو حصول قدر معتبر من الاتفاق، على ضرورة استحضار مقامات الخطاب، والموقع الذي يصدر عنه، فخطاب الحركة الذي يعتبر ما قام به عبد الفتاح السيسي انقلابا على الشرعية الديمقراطية، ليست هو خطاب الحزب، الذي يعتدل خطابه عن المستوى الحدي الذي تنتجه الحركة، وخطاب رئيس الحكومة ووزراء الحزب، في كل المواقف التي للدولة فيها سياسة خارجية مؤطرة، يكاد يكون في الاتجاه المعاكس لبعض مواقف الحركة.

المثير في هذا التباين الذي يخلقه اختلاف الموقع، أن هناك وعيا داخليا، بأن ذلك لا يورث أدنى تناقض حدي. المعطى الثالث في كسب الحركة الإسلامية المغربية، هي وعيها المتقدم بإكراهات السياسة، والخيارات المحدودة لتنزيل مشروعها الإصلاحي، والسقوف الواطئة دستوريا وقانونيا لإسناد خياراتها.

لم تتورط الحركة الإسلامية المغربية فيما تورطت فيه مثيلاتها في المشرق العربي، بل وحتى في المنطقة المغاربة (تونس) يوم تم اعتبار الربيع العربي فرصة تاريخية حاسمة، للانقضاض على الدولة العميقة، والإمساك بمراكز ثقل الدولة، ويوم تم التهوين من قدرة الفاعل الدولي وخياراته لإسناد الثورة المضادة. كانت هذه الحركات تعتبر أن شرط اقتناص اللحظة تاريخية، هو تقوية تحالفاتها الموضوعية، والتوجه نحو النموذج المعياري للديمقراطية، ومحاولة القفز على تجارب العدالة الانتقالية، بطرح مفهوم الاقتصاص والتطهير والعزل للقوى الخادمة للنظم الاستبدادية السابقة.

المفارقة أن خطاب الحركة الإسلامية المغربية اتجه إلى العكس، أي إلى الطمأنة والاستظلال بالملكية، فكان ابن كيران دائما يتحدث عن المرؤوس (رئيس الحكومة) والرئيس (الملك) ويتحدث عن الصلاحيات الحصرية للملك (الدفاع، الأمن، السياسة الدينية، السياسية الخارجية) بل ويتحدث عن سلطة التوجيه الاستراتيجي للملك، وأن الملكية تستمر، والحكومات تتغير، وما كان للمتغير أن يكون بصلاحية التفكير فيما هو استراتيجي، وكان بشعاره (عفا الله عما سلف) يستعيد تجربة المصالحة مع الماضي، ويحدد نقطة الصفر للانطلاق في محاربة الفساد.

المعطى الرابع، ويرتبط بالوعي الذي حصلته بطبيعة النسق السياسي وطريقة اشتغاله، واللوبيات المؤثرة في صناعة القرار، والإكراهات الداخلية والخارجية التي تعيق المشروع الإصلاحي، ومعادلة الممكن وغير الممكن في الفعل السياسي، وحدود تأثير المؤسسات في القرار السياسي، وديناميات فعلها على واقع الأرض، لا كما هي في الصيغة الدستورية. هذا الوعي، لم يكن من الممكن تحصيله خارج نسق الدولة، حتى ولو تداعت الحركة إلى تأسيس مراكز أبحاث مهتمة بالقرار السياسي والسياسات العمومية، وهو التراكم الذي يمكن أن تستفيد منه، في ترصيد مشاركتها وتقويم خطها السياسي، وإعادة ترتيب أولوياتها.

المعطى الخامس يتعلق بتصرف الحزب بمنطق الدولة، لا بمنطق الطائفة، فقد اتجه بشكل مبكر إلى اتخاذ قرارات فرضتها ضرورات استعادة التوازن المالي للدولة وتحرير ميزانيتها وتخفيض مستوى عجزها المالي، لكن هذه القرارات كانت مؤلمة شعبيا (المقاصة، التقاعد…). وهي القرارات الذي تجنبت عدد من الأحزاب السابقة أن تتخذها خوفا من التصويت العقابي ضدها في الاستحقاقات الانتخابية، لكن « العدالة والتنمية» أمضاها بكل جرأة سياسية، منهيا بذلك كل الانتقادات التي تسمه بالهيمنة، والتفكير في توسيع رأسمال الحزب الشعبي على حساب مصالح الدولة العليا.

هذه خمس مكاسب كبرى حققتها «العدالة والتنمية» من داخل تجربته في رئاسة الحكومة، لكنها لم تأت بدون خسائر مكلفة، وهي ما سيتم تفصيله في مقال قادم.

Share
  • Link copied
المقال التالي