بداية أستعير هنا المصطلح الذي أطلقه الكاتب الأمريكي شيللر Herbert Schiller، عام 1973، حين وصف الآلة الإعلامية بأنها عملية إدارة للعقول وتوجيهها نحو أهداف مرسومة لها من قبل صنّاع الإعلام في كتابه Mind Managers، والذي تُرجم لاحقاً في العربية إلى المتلاعبون/التلاعب في العقول.لن أخوض في المفهوم، وتأصيله النظري، وشواهده التاريخية، بقدر ما سأستعير المفهوم لتبيان حجم التخريب الذي تشتغل عليه وسائل الإعلام في العالم العربي، لتخريب الهوية العربية، وإعادة إنتاجها بشكل مشوّه، لا يخدم بالمطلق استقرار المنطقة أو نهوضها.لذا، فإن استخدام مصطلح التلاعب، بما فيه من تقليل شأنٍ بالمفعول به، هو استخدام بليغ، لتبيان مستوى التدخل الذي تقوده الجهات “المتلاعبة”.
بالعودة إلى مضمون المقالة، فقد اشتغلت وسائل الإعلام العربية طيلة العقود الماضية، على خلق وعي، قد يكون مزيفاً أو مشوهاً أو مروّضاً، يخدم استمرار السلطات العربية بالدرجة الأولى، ويبرّر لها إخفاقاتها وتسلطها، في محاولة لم تتعدّ ذلك إلى تحطيم الهوية للأفراد أو للمجموع.
ربما نلحظ أن عملية التفكيك التي ستتحوّل إلى تحطيمٍ لاحق، قد بدأت منذ مطلع القرن الحالي، بعد انتشار وسائل الإعلام الفضائي، وقدرتها على تشكيل جماعة ضغط/لوبي، أشبه بالمافيات في العالم العربي، مع استثمارات مالية ضخمة، لم تخرج بعيداً عن دائرة السلطة، بل كانت شريكاً لها، مع تشبيك عالمي واسع، وطالما انتقد الجمهور برامج بعينها، أو توجهاً ما، أو قناة محددة.
وكان الاشتغال على ثلاثة محاور رئيسة في عملية التفكيك/التحطيم، الأول كان عبر الإعلام السياسي، وتحديداً عبر قناتي الجزيرة والعربية الأكثر انتشاراً، والمحور الثاني عبر الدراما التي تصدرتها سورية ومصر ولاحقاً الخليج، وثالثاً كان المحور الإعلامي.
نلحظ أن المحاور الثلاثة اشتغلت على خلق “عربي جديد”، منساق في ثقافة لا تمت لإرثه الثقافي بصلة، ولا تهدف إلى النهوض به وفق منطق “الخلاص من الإرث البالي”، كما أنها ستشتغل لاحقاً على محور رابع يتمثل في خطاب ديني إما أنه موغل في تطرفه أو موغل في تطاوله على الدين الإسلامي.
كمّ الضخ الإعلامي، والمالي، والبهرجة التي رافقت ذلك، عدا عن صناعة نخب جديدة (إعلامية وفنية وسياسية)، لم تترك مجالاً لإدراك الخطر الذي تشتغل عليه هذه الجهات هويتياً.
ويمكن هنا أن نقول إن الجيل العربي الذي بدأ بوعي محطيه الفردي بعد عام 2000، هو جيل مختلف الهوية والتوجه عن سابقيه، بل ويمكن أن نقول إنه مشتت الهوية. تشتيت الهوية هذا يعني أن الهوية تظهر فرادى، وليس بشكل جماعي يمكن الاستناد عليه في بناء الدولة/الأمة، ليزداد الأمر سوءاً في العقد الثاني.كُتِب الكثير حول خطورة ما يجري في الإعلام العربي، وخصوصاً الإعلام الخاص المدعوم حكومياً، وهنا تظهر لدينا مجموعتان رئيستان: الخليجية والمصرية.لهذا المقال مناسبات عديدة، ولعل المناسبة الأكثر صلة، هي التوجه الجديد للغاية في الإعلام الخليجي، الذي يحاول الترويج إلى أبعد من التطبيع مع إسرائيل، بل يمكن من خلال التروي في متابعة ما يخرج على تلك الشاشات، قراءة أن هناك اتجاهاً خليجياً يشتغل على ما يلي:-
– تبرير احتلال فلسطين، وما ترافق ويترافق مع ذلك من جرائم بحق الإنسانية.
-إبراز المحتل الإسرائيلي، بسمة إنسانية (الوفاء، اللطف، العطف، العاطفة، …)، في مقابل تصوير الفلسطيني بالخبث والنذالة والغدر.
-محاولة التنصل من أي بعد ديني أو قومي للقضية الفلسطينية، وفصلها عن محيطها العربي.
-وهو لم يعد مجرد تمهيد للتطبيع مع إسرائيل، فباستثناء الكويت التي يندفع مثقفوها في هذا الاتجاه بينما تمانع السلطة ذلك، فإن كل دول الخليج الأخرى أنشأت علاقات علنية مع إسرائيل، في تطبيع لم يعد سراً.
– هذا تمهيد لخلق أمتين عربيتين، حدود الفصل بينهما جاهزة أساساً:
أمة خليجية غير معنية بالقضايا العربية الدينية والقومية، وأمة عربية منهكة من تدخلات خارجية وخليجية بعضها ترتقي لمستوى جرائم حرب، أي أمة فيها مركز ومحيط.
وبالنتيجة، هذا الاشتغال الإعلام، يتجاوز مجرد الاندفاع الخليجي نحو إسرائيل و”اليهود الطيبين”، إلى انفكاك خليجي عن أسس الهوية العربية التي تم تأسيسها، وهو نهج خليجي في تهديم كل ما أُنجِز سابقاً، ومحاولة الاشتغال على منجز يخرج من الداخل الخليجي (عقدة التاريخ).
ويمكن لنا في هذا السياق، أن نضع الفيديوهات التي يصورها إعلاميون ومشاهير خليجيون، وهم يتطاولون على كل الشعوب العربية (وليس الحكومات)، وليس آخرها الحملة التي تشن على الشعب المغربي، فقد سبقها حملات عديدة، أبرزها ما تم ترسيخه من مصطلح يكثر تداوله بين المغردين الخليجين، في وصف السوريين والعراقيين والفلسطيين بـ “عرب الشمال”.
ويعتقد أصحاب هذا الوصف، أنهم بذلك يقللون من قيمة هذه الشعوب، باعتبارها ليست عربية نقية، أو ليست عربية مطلقاً، بعد أن رحلت إلى الشمال من الجزيرة العربية. رغم أن هذا الوصف، يحيل إلى دلالة سسيولوجية تاريخية بالغة الأهمية في التاريخ العربي. فعرب الشمال، هم أولئك البدو الذين انخرطوا في خضم الحضارة شرق الأوسطية، وساهموا في إنتاج حضارة عالمية.
عرب الشمال، هم البدو الذين تمت أنسنتهم، من خلال انضمامهم إلى الإسلام، وتحولهم إلى حاميات تفتح مناطق جديدة، وترابط على ثغورها، سامحين لموجات من الهجرات العربية أن تمتد إلى شمال إفريقيا وأوروبا وآسيا.
في المقابل، انزوى عرب الجنوب، أو بدو الجنوب، في الصحراء، رفضاً للدين الإسلامي، رافضين لعملية الأنسنة تلك، وهو ما دفع إلى تسميتهم بـ “عرب الردة”، ولم يساهموا في المنتج الحضاري العربي-العالمي مطلقاً، وظلوا بعيدين تماماً عن ذلك، حتى جاءت التدفقات النفطية، التي غيرت شكل التوازن، ودفعت بالمال السياسي إلى محاولة تحطيم كل ما سبق إنتاجه حضارياً، بغية مسح التاريخ السابق للعرب، وخلق تاريخ يتناسب مع عرب الجنوب/عرب الردة المتثاقلون.
وفي مشهد آخر من التلاعب بالعقول العربية، نرى الدراما التركية التي اجتاحت العالم العربي منذ قرابة خمسة عشر عاماً، قد شكلت قوة تركية ناعمة، بالغة التأثير، وخلقت حاضنة اجتماعية واسعة، على امتداد العالم العربي. حتى بات كثير من العرب يتغنّى ببطولات تركية تمت صناعتها وتضخميها درامياً. فالجمهور العربي الذي لم يقبل الانخراط في الهوية العربية التي يتم صناعتها خليجياً، اندفع نحو هوية بديلة تقدمها له الدراما التركية، ببعدها “الإسلامي التاريخي”، بل حتى إن الإعلام الخليجي ذاته ساهم في نشر الدراما التركية، لأسباب ربحية، في تعارض مع توجهاته السياسية والهويتيّة.
وفي حين كانت تركيا تُعظّم من تاريخها، وتعيد إحياءه، بل وتضيف له ما ليس فيه، وخصوصاً في الدراما المصدّرة لنا، حتى باتت هذه الدراما لدى كثير من العامة العرب هي مجمل التاريخ الإسلامي. في حين ذلك، كان العرب يتطاولون على تاريخهم، ويحاولون إلحاق كل ضرر ممكن به، وتهديمه، بغية خلق كيان تاريخي مزيف، أو الاستغناء كلياً عن التاريخ إن أمكن (فلا قيمة للتاريخ في الصحراء).
*باحث سوري
تعليقات الزوار ( 0 )