شكلت سنة 2011,منعطفا مهما في احداث تغيير جوهري وتدريجي في تنظيم شكل الدولة، وفي علاقات المركز بالجماعات الترابية. حيث توجت بميلاد دستور جديد في فاتح يوليوز من نفس السنة.
وعمل هذا الاخير على تكريس ورش الجهوية المتقدمة، بهدف ترسيخ حقل الديموقراطية التمثيلية الجهوية، وجعلها رافعة للتنمية الاقتصادية والبشرية والمندمجة والمستدامة، بغية الحد من الفوارق الاجتماعية وتوفير العيش الكريم وصيانة كرامة المواطنين، والتوزيع العادل والمنصف لثمار النمو.
وقد اختار المغرب منذ الاستقلال الديموقراطية التمثيلية ودعمها بالديموقراطية التشاركية وكذا اللامركزية كخيارين استراتيجيين لا محيد عنهما، باعتبار ذلك نمطا يجسد الحكامة الترابية، بمنح السكان سلطة تدبير الشؤون المحلية بأنفسهم من خلال المجالس المنتخبة.
وقد مرت اللامركزية، على المستوى المؤسسي بمجموعة من المراحل الكبرى، انطلقت اولاها في بداية الستينات، وتطورت بعدها عبر محطات حاسمة، خصوصا سنة 1976,التي شكلت تحول حقيقيا في مسار اللامركزية، تلتها مجموعة من الاصلاحات المنظمة والمتوالية سنوات 2009,2002,1992.
وظلت صفة الجماعات الترابية، كشخص معنوي خاضع للقانون العام، مقتصرة على الجماعات والعمالات والاقاليم الى ان جاء دستور 2011, الذي ارتقى بالجهة الى مصاف الجماعات الترابية.
وفي نفس السياق، فتح دستور 2011, والقوانين التنظيمية المتعلقة بالجماعات الترابية، افاقا واسعة امام بلوغ الاهداف المتوخاة من اقرار الجهوية المتقدمة، واعطائها مكانة الصدارة، من خلال تكريس شرعيتها الديموقراطية، وتخويلها مجموعة من المهام والصلاحيات التي تمنحها الاولوية في مجال التنمية الاقتصادية وبالرفع من الموارد المرصودة لها كي تضطلع بأدوارها على أحسن وجه هي وباقي الجماعات الترابية الاخرى على أحسن وجه وتواجه التحديات الجديدة.
ولعل من بين التحديات الجديدة التي اثارت دور الجماعات الترابية، هو انتشار فيروس كورونا، هذه الجائحة التي باغتت العالم، من بينها المغرب، لكن بفضل الادوار الاستباقية والتدابير الاحترازية التي نهجتها الدولة، ساعد على الاقل من التخفيف من انتشارها واثارها.
وهو ما يدفعنا الى التساؤل عن دور الجماعات الترابية في تدبير هذه الجائحة، على اعتبار ان تدبيرها قائم على ادارة القرب؟ ولماذا تم تغييب هذه الجماعات وعقل ادوارها المنصوص عليها تنظيميا في الحد من انتشار الفيروس؟ وهل هذا مجرد اجراء وقتي لتدبير المرحلة؟ ام غلبة النزعة المركزية المفرطة وجعلها عقبة امام التدبير القائم على القرب؟ وهل يمكن ان تؤسس مرحلة كورونا لبداية افول الجهوية المتقدمة وعجزها عن تدبير الازمات المفاجئة؟
أولا – قراءة في اختصاصات الجماعات الترابية المرتبطة بالظرفية الصحية
ان انتهاج اللاتمركز الواسع في نطاق نطاق حكامة ترابية ناجعة, واعتماد التناسق والتوازن في الصلاحيات بين مختلف الجماعات الترابية والسلطات و المؤسسات, في اطار طبعا وحدة الدولة والوطن والتراب, الذي تعد المؤسسة الملكية ضامنا له ومؤتمنا عليه, جعل سؤال دور الجماعات الترابية في ظل هذه الجائحة يطرح بحدة بالنظر للاختصاصات المسندة اليها والمحددة لهافي اطار القوانين التنظيمية , وتكريس مبدأ التدبير الحر في تسيير مجالسها, الذي يخول في حدود اختصاصات كل جماعة ترابية سلطة التداول بكيفية ديموقراطية وسلطة تنفيذ المداولات والمقررات .
فاذا سلطنا الضوء على الاختصاصات الموكلة للجهات بمقتضى القانون التنظيمي المنظم لها 111.14,هناك الاختصاصات الذاتية من بينها التنمية الاقتصادية، والبيئة…. الخ، والاختصاصات المشتركة بينها وبين الدولة بشكل تعاقدي كالتنمية الاقتصادية ويدخل ضمنها البحث العلمي التطبيقي ثم اختصاص التنمية القروية (تأهيل العالم القروي) ثم البيئة والسياحة…الخ، اضافة الى الاختصاصات القابلة للنقل من الدولة كالتعليم والصحة …الخ
اما الجماعة فتناط بها تقديم خدمات القرب للمواطنات والمواطنين في إطار الاختصاصات المسندة اليها بموجب القانون التنظيمي للجماعات 113.14,ولهذه الغاية فهي تمارس اختصاصات ذاتية موكلة اليها في حدود مواردها وداخل دائرتها الترابية مثل نقل المرضى والجرحى وحفظ الصحة والاسواق الجماعية، ومخالفات التعمير، وهناك الاختصاصات القابلة للنقل من الدولة الى الجماعة اعتمادا على مبدأ التفريع وهي ما نصت عليه المادة 90 من قانون 113.14, اضافة الى الاختصاصات المشتركة. زيادة على صلاحيات رئيس المجلس الجماعي في ممارسة مهام الشرطة الادارية (الخاصة) في ميادين الوقاية الصحية والنظافة والسكينة العمومية وسلامة المرور، وذلك عن طريق اتخاذ قرارات تنظيمية بواسطة تدابير شرطة فردية تتمثل في الاذن او الامر او المنع، ويضطلع بمجموعة من الصلاحيات اهمها اتخاذ التدابير اللازمة لتجنب او مكافحة انتشار الامراض الوبائية او الخطيرة وذلك طبقا للقوانين والانظمة المعمول بها.
اضافة الى مجالس العمالات والاقاليم التي نظمت بمقتضى القانون التنظيمي رقم 112.14,رغم عدم وضوح الصورة المؤسسية لهذه المجالس التي تتمتع في الوقت نفسه بصفة الجماعة الترابية، وتشكل أحد مستويات ضبط وتنظيم الادارة الترابية والاشراف عليها، الامر الذي يتجلى في تداخل الوسائل والموارد.
وهكذا تساعد المنظومة القانونية التي تخضع لها الجماعات الترابية من الاضطلاع بالاختصاصات والصلاحيات المسندة اليها بهدف النهوض بالتنمية الاقتصادية والاجتماعية البيئية في إطار استراتيجية مندمجة ومنسجمة مع التوجهات الاستراتيجية للدولة، ومتناسبة مع المؤهلات والخصوصيات الجهوية، على الاقل على المستوى النظري، ما على مستوى الممارسة فقد اثبتت تجربة جائحة كورونا تعطيل القدرات التدبيرية للجماعات الترابية في تدبير حالة الطوارئ خصوصا في شق الحفاظ على الصحة العامة والامن العمومي والاقتصار على اختصاصات الشرطة الادارية الخاصة.
ثانيا – تأثيرات جائحة كورونا على التدبير اللامركزي
على عكس ما عرفه المغرب في مجال اللامركزية من تطور كبير، لا ان الادارة المركزية لم تستطع التخلص من بعض الممارسات ذات النزوع المركزي، وظلت تنتهج المقاربة العمودية، واعتماد المنطق البراغماتي في تدبير الازمات تجاه مسلسل اللاتمركز.
فمنذ اعلان حالة الطوارئ الصحية بسائر ارجاء التراب الوطني لمواجهة تفشي فيروس كورونا كوقيد 19,بواسطة مرسوم رقم 2.20.293 صادر في 24 مارس 2020, وتلتها مجموعة من المراسيم تستهدف نفس الغرض، لا انه يلاحظ ان القرارات كلها مركزية المصدر، حتى وان كانت تدخل في نطاق السلطة التنظيمية المحلية.
حيث ان حساسية واستثنائية الظرفية جعل السلطة المركزية تستأثر بالاختصاص العام لتدبير المرحلة، كدورية وزير الداخلية التي تمنع انعقاد دورة شهر ماي في ظل التدابير الاحترازية التي يستلزمها حفظ النظام العام الصحي، دون ترك هامش الحرية للجماعات الترابية للتفكير في بدائل الكترونية اخرى او اقتراحها وذلك ضمانا لمبدأ التدبير الحر وتأمينا لقاعدة التراتبية ومبدأ سمو الدستور طبقا لمقتضيات المواد 33و34 من 113.14 المتعلق بالجماعات. اضافة الى دورية وزير الداخلية في 11 ماي 2020 التي تدعوا فيها رؤساء الجماعات الترابية الى وقف اجال اداء وايداع الاقرارات الخاصة بالرسوم المحلية التي تقوم بتدبيرها هاته الجماعات الترابية، وكذا بالنسبة للآجال المتعلقة بمختلف المستحقات المترتبة على المهنيين. وتعطيل وتوقيف العمل ببعض مقتضيات القانون رقم 47.06 المتعلق بجبايات الجماعات المحلية.
اضافة الى ان التتبع اليومي لمشاكل كورونا، نلاحظ ان السلطة المحلية تحتكر التدبير اليومي لإجراءات التدابير الاحترازية لحالة الطوارئ الصحية للحفاظ على الامن العمومي الصحي.
كما ان الاعانات والمساعدات المخصصة في ظل الجائحة، فالجماعات تعمل على تخصيص المبالغ المراد توزيعها ونوعية وطبيعة الاعانة المخصصة، لا ان الاشراف والتوزيع تتكفل به السلطة المحلية، وذلك حتى لا تتم المحاباة على اساس الولاءات السياسية والنزعة الانتخابية، وتفضيل طرف على اخر وافراغ المساعدات من مضمونها الانساني.
وهكذا فاشراك الجماعات الترابية في التدبير الترابي للمرحلة رهين بتفعيل الاختصاصات المسندة اليها في القوانين التنظيمية المنظمة لها, والتي لها ارتباط بالتدابير الوقائية لمحاربة فيروس كورونا, من قبل الحفاظ على الصحة, ولما لا احداث لجان يقظة ترابية ,اضافة الى تفعيل الهيئة الاستشارية بشراكة مع الفاعلين الاقتصاديين بالجهة التي تهتم بدراسة القضايا ذات الطابع الاقتصادي (المادة 117) من 111.14 المتعلق بالجهات, كمحاولة للتخفيف من التداعيات الاقتصادية لكورونا, والمساهمة في تخفيف الضغط المالي على ميزانية الدولة, وكذا صندوق التضامن بين الجهات.
خصوصا وان السلطات العمومية وضعت نصب اعينها هدف اعداد الجماعات كي تضطلع بدورها وبمسؤولياته اعلى أكمل وجه في تقديم خدمات القرب للمواطنين والاستجابة لانتظاراتهم.
الا ان عدم توفر الجماعات الترابية على السلطة التقريرية والوسائل الكافية، حال دون اضطلاع هذه الوحدات الترابية بدورها على أحسن وجه، فيما يخص اقرار لامركزية متوازنة ومتكاملة مع سلطات الادارة المركزية.
غير ان النطاق الواسع للاختصاصات الذاتية والمنقولة والمشتركة للجماعات الترابية، خصوصا الجماعات القاعدية التي لها ارتباط يومي بالساكنة المحلية، أصبح مجمدا لصالح السلطة المحلية في ظل هذه الجائحة وسند ذلك (المادة 110) من 113.14 المتعلق بالجماعات التي تنص على ان رئيس مجلس الجماعة يمارس صلاحيات الشرطة الادارية الجماعية باستثناء المواد التالية التي تخول بحكم القانون التنظيمي الى عامل العمالة او الاقليم او من ينوب عنه، ممارسة الحفاظ على النظام العام والامن العمومي بتراب الجماعة.
فمادام الظرف استثنائي ويتطلب اجراءات امنية لضمان الامن الصحي, وعلى اعتبار ان الشرطة الادارية هي من جهة شرطة ادارية خاصة موكلة لرئيس المجلس الجماعي في مواجهة الافراد طبقا لمقتضيات (المادة 100) من القانون التنظيمي المتعلق بالجماعات التي تعطي لرئيس مجلس الجماعة ممارسة صلاحيات الشرطة الادارية مع مراعاة مقتضيات (المادة 110) في ميادين الوقاية الصحية والنظافة و السكينة العمومية وسلامة المرور ,وذلك عن طريق اتخاذ قرارات تنظيمية بواسطة تدابير شرطة فردية تتمثل في الاذن او الامر او المنع, مثل اتخاذ التدابير اللازمة لتجنب او مكافحة انتشار الامراض الوبائية او الخطيرة, وذلك طبقا للقوانين و الانظمة المعمول بها ,كجعل المكاتب الصحية بمختلف الجماعات في حالة تأهب(مواد التعقيم والقيام بالنظافة…).
وهكذا فان الشرطة الادارية الجماعية العامة موكلة للسلطة المحلية كما سبقت الشارة (المادة 110) كلما تعلق الامر بالأمن العمومي وضرورة الحفاظ عليه، وهو ما تبين لنا خلال حالة الطوارئ الصحية والتدابير الاحترازية والوقاية وفرض الانضباط للحجر الصحي، وكيفية عمل الاسواق اليومية والاسبوعية وفرض مواقيت فتحها وغلقها.
وتجدر الاشارة ان المهام الموكلة للسلطة المحلية غير مرتبطة بالظرفية الصحية حتى هي معطلة الى حين رفع الحجر الصحي وحالة الطوارئ. كمنح جوازات السفر مثلا او تقديم الرخص…
وخلاصة رغم الوضع الاستثنائي التي تعيشه البلاد والذي يمكن ان يكون مسوغا لاحتكار السلطة المحلية لآليات التدبير والتنظيم, لا ان هذا لا يمنع من مشاركة الجماعات الترابية في تفعيل اختصاصاتها المرتبطة بالظرفية الصحية ,ليكون على الاقل كتمرين للمنتخب الترابي لاختبار قدراته التدبيرية وكفاءته في ادارة الازمات, ولا تكون الجماعات الترابية مجرد
استنســاخ للبنيــات المركزيــة علــى المســتوى الجهــوي، وخلــق بيروقراطيــة جهويــة لا تتوفــر علــى أي ســلطة تقريريــة حقيقيــة، ولا علــى وســائل التدخــل المناســبة للتدبير بالجهــة، َوفــي نفــس الاتجــاه، يجــب الحــرص علــى ألا يتحــول اللاتمركــز إلــى مركزة للإدارة بالجهة، ذلــك أن كل الجماعــات الترابيــة يجــب أن تســتفيد مــن اللاتمركــز، تطبيقــا لمبــدأي التفريــع والقــرب
* طالب باحث في القانون العام بكلية القانون ـ مكناس
تعليقات الزوار ( 0 )